المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفرق الدينية اليهودية


علي العذاري
11-08-2011, 05:17 AM
الفرق الدينية اليهودية
الباب الأول: الفرق الدينية اليهودية (حتى القرن الأول الميلادى)
الفرق الدينية اليهودية
Jewish Religious Sects
توجد في اليهودية فرق كثيرة تختلف الواحدة منها عن الأخرى اختلافات جوهرية وعميقة تمتد إلى العقائد والأصول، فهي في الواقع ليست كالاختلافات التي توجد بين الفرق المختلفة في الديانات التوحيدية الأخرى. ومن ثم، فإن كلمة «فرقة» لا تحمل في اليهودية الدلالة نفسها التي تحملها في سياق ديني آخر. فلا يمكن، على سبيل المثال، تصوُّر مسلم يرفض النطق بالشهادتين ويُعترَف به مسلماً، أو مسيحي يرفض الإيمان بحادثة الصلب والقيام ويُعترَف به مسيحياً. أما داخل اليهودية، فيمكن ألا يؤمن اليهودي بالإله ولا بالغيب ولا باليوم الآخر ويُعتبر مع هذا يهودياً حتى من منظور اليهودية نفسها. وهذا يرجع إلى طبيعة اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تراكمياً يضم عناصر عديدة متناقضة متعايشة دون تمازج أو انصهار. ولذا، تجد كل فرقة جديدة داخل هذا التركيب من الآراء والحجج والسوابق ما يضفي شرعية على موقفها مهما يكن تطرفه. وأولى الفرق اليهودية التي أدَّت إلى انقسام اليهودية فرقة السامريين التي ظلت أقلية معزولة بسبب قوة السلطة الدينية المركزية المتمثلة في الهيكل ثم السنهدرين.....
ولكن، مع القرن الثاني قبل الميلاد، خاضت اليهودية أزمتها الحقيقية الأولى بسبب المواجهة مع الحضارة الهيلينية. فظهر الصدوقيون والفريسيون، والغيورون الذين كانوا يُعَدون جناحاً متطرفاً من الفريسيين، ثم الأسينيون. ومما يجدر ذكره أن الصدوقيين كانوا ينكرون البعث واليوم الآخر، ومع هذا كانوا يجلسون في السنهدرين، جنباً إلى جنب مع الفريسيين، ويشكلون قيادة اليهود الكهنوتية. وقد حققت هذه الفرق ذيوعاً، وأدَّت إلى انقسام اليهودية. ولكنها اختفت لسببين: أولهما انتهاء العبادة القربانية بعد هدم الهيكل، ثم ظهور المسيحية التي حلت أزمة اليهودية في مواجهتها مع الهيلينية إذ طرحت رؤية جديدة للعهد يضم اليهود وغير اليهود ويحرر اليهود من نير التحريمات العديدة ومن جفاف العبادة القربانية وشكليتها.
وجابهت اليهودية أزمتها الكبرى الثانية حين تمت المواجهة مع الفكر الديني الإسلامي. فظهرت اليهودية القرائية كنوع من رد الفعل، فرفضت الشريعة الشفوية وطرحت منهجاً للتفسير يعتمد على القياس والعقل، أي أنها انشقت عن اليهودية الحاخامية تماماً. ويمكن أن نضيف إلى الفرق اليهودية يهود الفلاشاه ويهود الهند الذين لا يشكلون فرقاً بالمعنى الدقيق، فهم لم ينشقوا عن اليهودية الحاخامية بقدر ما انعزلوا عنها عبر التاريخ وتطوَّروا بشكل مستقل ومختلف، فهم لا يعرفون التلمود أو العبرية، كما أن كتبهم المقدَّسة مكتوبة باللغات المحلية. وتجدر ملاحظة أن ثمة فرقاً صغيرة، مثل الإبيونيين والمغارية والعيسوية والثيرابيوتاي وغيرها، وهي فرق صغيرة لكل منها تصوُّرها الخاص عن اليهودية. ولكنها، نظراً لعزلتها، لم تؤثر كثيراً في مسار اليهودية وقد اختفى معظمها من الوجود. أما القرّاءون، فإنهم بعد عصرهم الذهبي في القرن العاشر، سقطوا في حرفية التفسير، الأمر الذي قلَّص نفوذهم حتى تحولوا إلى فرقة صغيرة آخذة في الاختفاء.
وقد جابهت اليهودية أزمتها الكبرى الثالثة في العصر الحديث (في الغرب) مع الانقلاب التجاري الرأسمالي الصناعي. وقد ظهرت إرهاصات الأزمة في شكل ثورة شبتاي تسفي على المؤسسة الحاخامية، فهو لم يهاجم التلمود وحسب، وإنما أبطل الشريعة نفسها، وأباح كل شيء لأتباعه، الأمر الذي يدل على أن تراث القبَّالاه الحلولي، الذي يعادل بين الإله والإنسان، كان قد هيمن على الوجدان الديني اليهودي، وقد وصف الحاخامات تصوُّر القبَّاليين للإله بأنه شرك.
وبعد أن أسلم شبتاي تسفي، هو وأتباعه الذين أصبحوا يُعرفون بـ «الدونمه»، ظهر جيكوب فرانك الذي اعتنق المسيحية (هو وأتباعه) وحاول تطوير اليهودية من خلال أطر مسيحية كاثوليكية. وقد تفاقمت الأزمة واحتدمت مع الثورة الفرنسية، حيث إن الدولة القومية الحديثة في الغرب منحت اليهود حقوقهم السياسية، وطلبت إليهم الانتماء السياسي الكامل، الأمر الذي كان يعني ضرورة تحديث اليهود واليهودية وما تسبب عن ذلك من أزمة أدَّت إلى تصدعات جعلت أتباع اليهودية الحاخامية التقليدية (أي اليهود الأرثوذكس) أقلية صغيرة، إذ ظهرت اليهودية الإصلاحية ثم المحافظة ثم التجديدية، وهي فرق أعادت تفسير الشريعة أو أهملتها تماماً، واعترفت بالتلمود أو وجدت أنه مجرد كتاب مهم دون أن يكون مُلزماً. كما أنها عَدَّلت معظم الشعائر، مثل شعائر السبت والطعام، وأسقطت بعضها، وعَدَّلت أيضاً كتب الصلوات وشكل الصلاة، أي أن فهمها لليهودية وممارستها لها يختلف بشكل جوهري عن اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية. ومن الواضح أن هذه الفرق الجديدة هي الآخذة في الانتشار، في حين أن الأرثوذكس يعانون من الانحسار التدريجي.
ومنذ أيام الفيلسوف إسبينوزا، ظهر نوع جديد من اليهود لا يمكن أن نقول إنه فرقة ولكن لابد من تصنيفه حيث يشكل الأغلبية العظمى من يهود العالم (نحو 50%). وهذا النوع من اليهود هو الذي يترك عقيدته اليهودية، ولكنه لا يتبنى عقيدة جديدة، وهو لا يؤمن عادةً بإله على الإطلاق، وإن آمن بعقيدة ما فهو يؤمن بشكل من أشكال الدين الطبيعي أو دين العقل أو دين القلب، ولا يمارس أية طقوس. وهؤلاء يُطلَق عليهم الآن اسم «اليهود الإثنيون»، أي أنهم لا ينتمون إلى أية فرقة دينية تقليدية أو حديثة، ولكنهم مع هذا يسمون أنفسهم يهوداً لأنهم ولدوا لأم يهودية! وتنعكس الخلافات بين الفرق اليهودية المختلفة على الدولة الصهيونية الأمر الذي يزيد صعوبة تعريف الهوية اليهودية.
الخلافات الدينية اليهودية
Jewish Religious Controversies
الخلاف الديني هو خلاف غير جوهري لا يمتد إلى العقائد الدينية الأساسية، ويختلف عن الصراع بين الفرق الدينية، وهو ما تناولناه في مدخل آخر. وقد ظهرت عبر تاريخ اليهودية خلافات عديدة، بعضها عميق وبعضها سطحي. وأول هذه الخلافات، ما ورد في سفر العدد، عن قورح بن يصهار وأتباعه، حين اجتمعوا على موسى وهارون، أنهم قالوا لهما: « كفاكما، إن كل الجماعة بأسرها مقدَّسة وفي وسطها الرب. فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب » (عدد 16/2 ـ 3). وقد انتهى الأمر بأن ابتلعت الأرض قورح وصحبه. ويبدو أن القصة تعبير عن رغبة الملوك في تعزيز نفوذ طبقة الكهنة التي كانت تشاركهم في إدارة دفة الحكم.
ولعل الخلاف الثاني في تاريخ اليهودية هو هجوم الأنبياء على الكهنة، وعلى الجوانب السلبية في مؤسسة الملكية. ومن هنا، كان الأنبياء، أمثال عاموس وإرميا، يُسجَنون ويُعذَّبون بل كانوا يعدمون.
ثم ظهر الخلاف مرة أخرى، في القرن الثاني قبل الميلاد، في شكل صراع بين الفريسيين والصدوقيين، ولكن من الواضح أنه لم يكن خلافاً دينياً وحسب وإنما كان اختلافاً في العقائد يجعل من كل فريق فرقة دينية مستقلة، على عكس الخلاف بين الفريسيين والغيورين، ذلك الاختلاف الذي كان أمراً يتعلق بالتفاصيل والأولويات والأصول. وقد أثارت كتابات موسى بن ميمون الكثير من الخلافات المريرة حتى أنه اتُهم بالهرطقة.
ومن أهم الخلافات، ما يُسمَّى «المناظرة الشبتانية الكبرى» بين يعقوب إمدن وجوناثان إيبشويتس بشأن الأحجبة التي كان يكتبها الأخير. وفي العصر الحديث، ظهر خلاف بين الحسيديين وأعدائهم من المتنجديم (الحاخاميين) انتهى بظهور حركة التنوير.
ولا تزال الخلافات مستمرة في العصر الحديث، فهناك الخلاف بين اليهود الأرثوذكس أتباع أجودات إسرائيل الذين يؤيديون الصهيونية والأرثوذكس الذين يرفضونها تماماً. ويوجد داخل إسرائيل صراع بين اليهود الأرثوذكس الذين يشجعون الاستيطان على أسس دينية وأولئك الذين يعارضونه على أسس دينية أيضاً.
أزمة اليهودية
Crisis of Judaism
عاشت اليهودية في كنف عدة حضارات تأثرت بها وشكَّل بعضها تحدياً لها ولقيمها. فقد تحركت اليهودية (أو العبادة اليسرائيلية إن توخينا الدقة) داخل التشكيلات الحضارية المختلفة في الشرق الأدنى القديم وتأثرت بها وتبنَّت رموزها وقيمها. ومن الواضح مثلاً أن العبرانيين استوعبوا فكرة التوحيد من المصريين القدماء. ثم حَدَث التغلغل العبراني في كنعان وحدثت المواجهة الأولى مع الحضارة الكنعانية وحدثت المواجهة الثانية مع الحضارة البابلية. وقد أدَّت هذه المواجهات إلى أن النسق الديني السائد بين العبرانيين قد استوعب الكثير من العناصر الدينية والثقافية من هاتين الحضارتين (ثم من الحضارة الفارسية) وهو ما أدَّى إلى تزايد تركيبها الجيولوجي التراكمي. ولكن المواجهات الثالثة والرابعة والخامسة، مع الحضارة الهيلينية والإسلامية ثم المسيحية على التوالي، كانت أكثر حدة، وأدَّت إلى ما يشبه الأزمة في حالة المواجهة مع الحضارة الهيلينية إذ دخل كثير من الأفكار اليونانية على النسق الديني اليهودي. وتأغرقت النخبة، وأدَّى هذا إلى التمرد الحشموني في نهاية الأمر وإلى انتشار المسيحية وتنصُّر أعداد كبيرة من أعضاء الجماعات. أما المواجهة مع الإسلام والمسيحية فقد أدَّت إلى تطوير التلمود الذي كان بمنزلة السياج الذي فرضه الحاخامات على أعضاء الجماعات ليحموا هويتهم الدينية والإثنية. وكان الاحتجاج القرائي تعبيراً عن واحدة من أهم أزمات اليهودية الحاخامية.
ولكن مصطلح «أزمة اليهودية» حينما يُستخدَم في هذه الموسوعة، وفي غيرها من الدراسات، فإنه يشير في العادة إلى الأزمة التي دخلتها اليهودية الحاخامية ابتداءً من القرن السابع عشر نتيجة الجمود الذي أصاب المؤسسة الحاخامية، حتى تحولت العقيدة اليهودية إلى مجموعة من الشعائر والعقائد الخارجية. ونتيجةً لذلك، ازدهر التراث القبَّالي، وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية، لحل مشكلة المعنى، ولتزويد اليهودي بنسق ديني يستجيب لحاجاته العاطفية والإنسانية. وقد أدَّى هذا الوضع إلى ضرب عزلة على الجماهير اليهودية عما حولها من تحولات، كما زاد من الهوة التي تفصل بينهم وبين المؤسسة الحاخامية. وكانت حركة شبتاي تسفي أول تعبير عن هذه الأزمة من داخل المؤسسة، وفلسفة إسبينوزا من خارجها، وكلاهما طرح حلاًّ حلولياً للأزمة، فرأى الأول الطبيعة في الإله، ورأى الآخر الإله في الطبيعة. وبعد هاتين الهجمتين لم تفق اليهودية الحاخامية وانزوت على نفسها وزاد تغلغل الفكر القبَّالي، وانتشرت الحركات الشبتانية (مثل الفرانكية)، وانتشرت الحركة الحسيدية بحيث ضمت معظم جماهير يهود اليديشية في شرق أوربا (أي الكتلة البشرية اليهودية الكبرى). وظل الصراع بين الحسيديين والمتنجديم (ممثلاً بالمؤسسة الحاخامية) قائماً إلى أن أفاق الطرفان ليواجها اندلاع أهم تعبير عن الثورة العلمانية الكبرى والفكر العقلاني، أي الثورة الفرنسية وحركة الإعتاق، وحدثت المواجهة السادسة مع الحضارة العلمانية في الغرب. ومنذ تلك اللحظة التاريخية، اتضحت معالم الأزمة تماماً، إذ انتشر فكر حركة الاستنارة وأخذ اليهود يحاولون إعادة صياغة اليهودية على نمط العالم الغربي المسيحي العلماني، فظهرت حركة التنوير التي وَجَّهت نقداً قاسياً للفقه اليهودي ولما يُسمَّى «الشخصية اليهودية». وظهرت حركة اليهودية الإصلاحية والمحافظة والحركات الثورية المختلفة، وتصاعدت معدلات التنصر والاندماج والعلمنة
والإلحاد بين اليهود بحيث أصبح اليهود الأرثوذكس (الحاخاميون)، أي اليهود الذين يمكن اعتبارهم يهوداً بمقاييس دينية يهودية، لا يشكلون سوى نحو 5 ـ10% من يهود العالم. ومما أدى إلى تفاقم الأزمة أن اليهود الذين تركوا العقيدة اليهودية أصروا على الاستمرار في تسمية أنفسهم «يهوداً».
وقد حاولت الصهيونية حل أزمة اليهودية بالعودة إلى النموذج الحلولي (ولكنها حلولية بدون إله) إذ جعلت الدولة الصهيونية موضع القداسة (بدلاً من الإله) بالنسبة إلى العلمانيين، أو باعتبارها أهم تجلٍّ لهذه القداسة الإلهية بالنسبة إلى المتدينين الذين تمت صهينتهم. ويرى اليهود الأرثوذكس المعادون للصهيونية أن الصهيونية، بهذا المعنى، ليست حلاًّ لأزمة اليهودية وإنما هي تعبير عنها. بل إنها تشكل الآن مصدر الأزمة وأكبر خطر يواجه اليهودية. فالصهيونية قد تبنت المصطلح الديني، وتطرح نفسها بوصفها نظاماً كلياً شاملاً شبه ديني، يحل محل العقيدة اليهودية باعتبارها رؤية للكون ومصدراً للمعنى ومنظماً للسلوك.
السامريون
Samaritanss
«السامريون» صيغة جمع عربية، وهي كلمة معربة من كلمة «شوميرونيم» العبرية، أي سكان السامرة. ويُشار إليهم في التلمود بلفظة «كوتيم» وتعني «الغرباء». لكن هذه التسميات هي تسميات اليهود الحاخاميين لهم. وكان يوسيفوس يسميهم الشكيميين نسبةً إلى «شكيم» (نابلس الحالية). أما هم فيطلقون على أنفسم «بنو يسرائيل»، أو «بنو يوسف»، باعتبار أنهم من نسل يوسف. كما يطلقون على أنفسهم اسم «شومريم»، أي «حفظة الشريعة»، باعتبار أنهم انحدروا من صلب يهود السامرة الذين لم يرحلوا عن فلسطين عند تدمير المملكة الشمالية عام 722 ق.م، فاحتفظوا بنقاء الشريعة.
ومهما كانت التسمية، ومهما كان تفسيرها، فمن المعروف تاريخياً أنه، بعد تهجير قطاعات كبيرة من سكان المملكة الشمالية، قام الأشوريون بتوطين قبائل من بلاد عيلام وسوريا وبلاد العرب لتحل محل المهجرين من اليهود، وتسكينهم في السامرة وحولها. وامتزج المستوطنون الجدد مع من تبقَّى من اليهود، واتحدت معتقداتهم الدينية مع عبادة يهوه. وقد نتج عن ذلك اختلاف عن بقية اليهود. ولكن الانشقاق النهائي حدث عام 432 ق.م، بين اليهود والسامريين، بعد عودة عزرا ونحميا من بابل، حيث دافعا عن فكرة النقاء العرقي.
وثمة قصتان لتاريخ الانشقاق، أولاهما ترد في العهد القديم (نحميا 13/23 ـ28) "في تلك الأيام، كان واحد من بني يوياداع بن الياشيب الكاهن العظيم صهراً لسنبلط الحوروني فطردته من عندي". وقد وردت عن يوسيفوس رواية أخرى مفادها أن منَسَّى شقيق الكاهن الأعظم تزوج من ابنة حاكم السامرة سنبلط الثالث (الفارسي)، فخيَّره الكهنة بين أن يطلق زوجته أو أن يتخلى عن مكانته وسلطاته الكهنوتية. فلجأ منَسَّى لحميه الذي بنى لزوج ابنته هيكلاً على عادة

علي العذاري
11-08-2011, 05:25 AM
العبرانيين القدامى على جبل جريزيم لينافس هيكل القدس، وأصبح الشاب المطرود كاهن السامريين. وبعد أن أسس الهيكل، انضم إليه عشرات الكهنة الآخرين المتزوجين من أجنبيات وعناصر يهودية أخرى غير راضية عن المؤسسة الدينية في القدس.
ومن الواضح أن ثمة عناصر مشتركة بين القصتين تتمثل في بعض الأسماء والعلاقات الأساسية وفي عملية الطرد. ومع أن هناك قرناً من الزمان يفصل بين القصتين الأولى والثانية، فإن من الواضح أنهما تشيران إلى الواقعة نفسها. ويحل المؤرخون هذه القضية بأن يأخذوا بقصة يوسيفوس ويرجعوا بتاريخها إلى زمن نحميا.
وقد نشبت صراعات بين السامريين وبقية اليهود، لكنهم تعرضوا لكثير من التوترات التي تَعرَّض لها اليهود في علاقتهم بالإمبراطوريات التي حكمت المنطقة. فبعد أن فتح الإسكندر المنطقة عام 323 ق.م، هاجر بعض السامريين إلى مصر وكونوا جماعات فيها. وهذه هي بداية الشتات السامري أو الدياسبورا السامرية التي امتدت وشملت سالونيكا وروما وحلب ودمشق وغزة وعسقلان.
وحينما قرر أنطيوخوس الرابع (175 ـ 164 ق.م) دَمْج يهود فلسطين في إمبراطوريته لتأمين حدوده مع مصر، كان السامريون ضمن الجماعات التي استهدف دمجها وإذابتها رغم أنهم أعلنوا أنهم لا ينتمون إلى الأصل اليهودي. وحينما استولى الحشمونيون على الحكم (164 ق.م)، واجه السامريون أصعب أزمة في تاريخهم إذ سيطر الحشمونيون على شكيم وجريزيم، واستولوا على مدينة السامرة وحطموها. وقد حطم يوحنا هيركانوس هيكلهم عام 128 ق.م. ومع هذا، فقد استمر السامريون في تقديم قرابينهم على جبل جريزيم. كما أن هَدْم الهيكل لم ينتج عنه انتهاء طبقة الكهنة على عكس اليهود أو اليسرائيليين الذين انتهت عبادتهم القربانية المركزية وطبقة الكهنة التي تقوم بها بهدم هيكل القدس. ويبدو أن السامريين لم يساعدوا اليهود أثناء التمرد اليهودي الأول، ومع هذا نشب تمرُّد مستقل في صفوفهم ضد فسبسيان عام 67 ق.م، وتم قمعه. كما ثار السامريون ضد الرومان عام 79 ـ 81 م، فهُدمت شكيم وبُني مكانها نيابوليس (نابلس) أي «المدينة الجديدة».
وتمتع السامريون بمرحلة ازدهار فكري في القرن الرابع الميلادي تحت قيادة زعيمهم القومي بابا رابا. ومن أهم مفكريهم الدينيين مرقه الذي عاش في القرن نفسه، وكاتب الأناشيد التي تُسمَّى «إمرالم دارا».
وقد عانى السامريون من الاضطهاد على يد الإمبراطورية البيزنطية. وفي عام 529 الميلادي، قام جوستينيان بشن هجمة شرسة عليهم لم تقم لهم قائمة بعدها. ويُقال إن الرومان سمحوا للسامريين ببناء هيكلهم الذي دمره الحشمونيون حينما رفضوا الانضمام إلى ثورة بركوخبا. ولكن هذا الهيكل دُمِّر بدوره عام 484م. وقد ساعد السامريون المسلمين إبان الفتح الإسلامي، كما وقفوا مع المسلمين ضد الغزو الصليبي. وقد أفتى فقهاء المسلمين حينذاك بأن من يُقتَل من أهل الذمة في هذه الحرب فهو شهيد.
وثمة نقط اتفاق بين السامريين واليهود الحاخاميين قبل ظهور القبَّالاه وحركات الإصلاح الديني اليهودي، فكلا الفريقين يؤمن بالله الواحد وباليوم الآخر والملائكة. ولكن السامريين احتفظوا بقدر أكبر من الوحدانية التي تراجعت في اليهودية إلى أن اختفت تماماً تقريباً. وقد تبنوا الجزء الأول من الشهادة الإسلامية وهو « لا إله إلا الله »، وكانوا يشيرون إلى الخالق بلفظة «إل»، أو «أللا» القريبة من كلمة «الله»، ولكنهم كانوا أيضاً يسمونه «يهوه». كما كانوا يؤمنون بأن موسى نبي الله الأوحد وخاتم رسله وبأنه تجسيد للنور الإلهي والصورة الإلهية.
والكتاب المقدَّس عند السامريين هو أسفار موسى الخمسة، ويُضاف إليها أحياناً سفر يشوع بن نون.وهو،في عقيدتهم،منزل من عند الله.وهم لا يعترفون بأنبياء اليهود ولا بكتب العهد القديم. بل إن أسفار موسى الخمسة المتداولة بينهم تختلف عن الأسفار المدونة في نحو ستة آلاف موضع (ويتفق نص التوراة السامرية مع الترجمة السبعينية في ألف وتسعمائة موضع من هذه المواضع،الأمر الذي يدل على أن مترجمي الترجمة السبعينية استخدموا نسخة عبرية تتفق مع النسخة السامرية).وهم ينكرون الشريعة الشفوية،شأنهم في ذلك شأن الصدوقيين والقرّائين (ومن هنا التشابه بين الفرق الثلاث في بعض الوجوه).كما أنهم يأخذون بظاهر نصوص التوراة.
ولغة العبادة عند السامريين هي العبرية السامرية، ولكن لغة الحديث ولغة الأدبيات الدينية كانت العربية. وكان كتابهم المقدَّس يُكتَب بحروف عبرية قديمة. ويزعم السامريون أن اللغة والحروف جاءتهم صحيحة من عهد النبي موسى.
ويحتفل السامريون بالأعياد اليهودية، مثل يوم الغفران وعيد الفصح، ولكنهم كانت لهم أعياد مقصورة عليهم وتقويم خاص بهم. والسامريون يؤمنون بعودة الماشيَّح برغم أنه لا توجد في أسفار موسى الخمسة أية إشارة إليه. وهم لا يعترفون بداود أو سليمان ولا يعترفون بقدسية جبل صهيون، فلهم جبلهم المقدَّس جريزيم (الجبل المختار) الذي سيعود إليه الماشيَّح. ويُلاحَظ أن الأفكار الأخروية لم تلعب دوراً مهماً في التفكير الديني لدى السامريين، كما حدث مع اليهودية بعد العودة من بابل. وينفي بعض اليهود عن السامريين صفة الانتساب إلى اليهودية، كما أنهم يعاملونهم معاملة الأغيار في أمور الزواج والموت.
وقد استمر العداء بين السامريين واليهود الحاخاميين، إذ يذهب السامريون إلى أن اليهودية الحاخامية هرطقة وانحراف، وأن قيادة اليهود الدينية أضافت إلى التوراة وأفسدت النص ليتفق مع وجهة نظرها.
ويُعَدُّ السامريون جماعة شبه منقرضة. وهم، في واقع الأمر، أصغر جماعة دينية في العالم، فعددهم لا يتجاوز خمسمائة، يعيش بعضهم في نابلس ويعيش البعض الآخر في حولون (إحدى ضواحي تل أبيب). وفي بعض طبعات التلمود، تحل كلمة «السامريين» محل كلمة «الأغيار» حتى تبدو عبارات السباب العنصري وكأنها موجهة إلى السامريين وحدهم وليس إلى كل الأغيار.
جريزيم
Gerizim
«جريزيم» جبل صخري يطل على الوادي الذي تقع فيه شكيم (نابلس فيما بعد). ويواجه جبل عيبال على ارتفاع 2849 قدماً فوق سطح البحر، و700 قدم فوق مدينة نابلس. وقد بُني فوق جريزيم أقدم هيكل للعبرانيين، ثم جاء داود فأبطله وعطله بعد أن نقل عاصمته إلى القدس.
وقد جاء في العهد القديم أنه حينما فتح العبرانيون الجزء الأوسط من فلسطين، نفذ يشوع "التوجيه الذي أعطاه إياه موسى" حسب الرواية التوراتية، وأوقف نصف القبائل العبرانية على جبل جريزيم لينطقوا بالبركات، وأوقف النصف الآخر إلى جهة جبل عيبال لينطقوا باللعنات (تثنية 11/29، 27/11 ـ 13، ويشوع 8/33 ـ 35).
ويرى السامريون أن الموضع الذي وقف فيه إبراهيم بابنه، ليذبحه، كان على هذا الجبل. وجريزيم جبل مقدَّس عند السامريين؛ بنوا فوقه هيكلهم ليحجوا إليه، واستمروا في تقديم القرابين عليه حتى بعد أن هدم يوحنا هيركانوس هيكلهم عام 128 ق.م. وقد أعادوا بناءه إلى أن هدمه الرومان في النهاية عام 67 ق.م.
الفريسيون
Pharisees
كلمة «فريسيون» مأخوذة من الكلمة العبرية «بيروشيم»، أي «المنعزلون». وكانوا يلقبون أيضاً بلقب «حبيريم»، أي «الرفاق أو الزملاء»، وهم أيضاً «الكتبة»، أو على الأقل قسم منهم، من أتباع شماي الذين يشير إليهم المسيح عليه السلام. والفريسيون فرقة دينية وحزب سياسي ظهر نتيجة الهبوط التدريجي لمكانة الكهنوت اليهودي بتأثير الحضارة الهيلينية التي تُعلي من شأن الحكيم على حساب الكاهن. ويُرجع التراث اليهودي جذورهم إلى القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، بل يُقال إنهم خلفاء الحسيديين (المتقين)، وهي فرقة اشتركت في التمرد الحشموني. ولكن الفريسيين ظهروا باسمهم الذي يُعرَفون به في عهد يوحنا هيركانوس الأول (135 - 104 ق.م)، وانقسموا فيما بعد إلى قسمين: بيت شماي وبيت هليل. وقد كان الفريسيون يشكلون أكبر حزب سياسي ديني في ذلك الوقت إذ بلغ عددهم حسب يوسيفوس نحو ستة آلاف، لكن هذا العدد قد يكون مبالغاً فيه نظراً لتحزبه لهم، بل لعله كان من أتباعهم. ويُقال إنهم كانوا يشكلون أغلبية داخل السنهدرين، أو كانوا على الأقل أقلية كبيرة.
ومن المعروف أنه حينما عاد اليهود من بابل، هيمن الكهنة عليهم وعلى مؤسساتهم الدينية والدنيوية، تلك المؤسسات التي عبَّر عن مصالحها فريق الصدوقيين. ولكن اليهودية كان قد دخلتها في بابل أفكار جديدة، كما أن وضع اليهود نفسه كان آخذاً في التغير، إذ أن حلم السيادة القومية لم يَعُد له أي أساس في الواقع، بعد التجارب القومية المتكررة الفاشلة، وبعد ظهور الإمبراطوريات الكبرى، الواحدة تلو الأخرى. وقد زاد عدد اليهود المنتشرين خارج فلسطين، وخصوصاً في بابل (ويقول فلافيوس إن عدد يهود فلسطين آنذاك كان نصف مليون وحسب، وإن كانت التقديرات التخمينية ترى أن عددهم يقع بين المليونين والمليون ونصف المليون، وهم أقلية بالنسبة ليهود العالم آنذاك). ولكل ذلك، نشأت الحاجة إلى صيغة جديدة تعبِّر عن الوضع الجديد. ومن هنا، ظهر الفريسيون الذين لم يكونوا من عامة الشعب (عم هاآرتس)، بل كان بعضهم من الأثرياء، وإن كانوا على العموم يتسمون بأنهم يعيشون من عملهم، فكان منهم الحرفيون والتجار، على عكس الصدوقيين الذين كانوا يشكلون طبقة كهنوتية أرستقراطية مرتبطة بالهيكل وتعيش من ريعه. ولذا، فرغم تميز الفريسيين طبقياً، ورغم تعصبهم للشريعة، وربما بسببه، فإنهم كانوا يلقون تأييد الجماهير.
ويُعَدُّ الفكر الفريسي أهم تطوُّر في اليهودية بعد تبنِّي عبادة يهوه. وقد كان جوهر برنامجهم يتلخص في إيمانهم بأنه يمكن عبادة الخالق في أي مكان، وليس بالضرورة في الهيكل في القدس، أي أنهم حاولوا تحرير اليهودية، كنسق أخلاقي ديني، من حلوليتها الوثنية المتمثلة في عبودية المكان والارتباط بالهيكل وعبادته القربانية. ووسعوا نطاقها بحيث أصبحت تغطي كل جوانب الحياة إذ أن واجب اليهودي لا يتحدد في العودة إلى أرض الميعاد وإنما في العيش حسب التوراة، وعلى اليهودي أن ينتظر إلى أن يقرر الخالق العودة. وبهذا، يكون الفريسيون هم الذين توصلوا إلى صيغة اليهودية الحاخامية أو اليهودية المعيارية التي انتصرت على الاتجاهات والمدارس الدينية الأخرى.
وقد دافع الفريسيون عن الهوية اليهودية دون عنف أو تعصُّب. والهوية اليهودية التي دافعوا عنها لم تكن الهوية العبرانية القديمة المرتبطة بالمجتمع القبلي العبراني، ولا حتى المجتمع الزراعي الملكي أو الكهنوتي (فقد كانت تلك الهوية في طريقها إلى الاختفاء النهائي)، وإنما كانوا يدافعون عن هوية متفتحة استفادت من الفكر البابلي الديني، ثم الفكر الهيليني، وكانت تدرك عبث محاولة الاستقلال القومي. ولذا، أُعيد تعريف الهوية بحيث أصبحت هوية دينية داخلية روحية ذات بُعد إثني ليس قومياً بالضرورة. وقد واكب هذا التعريف الجديد استعداداً للتصالح مع الدولة الحاكمة، أو القوة العظمى في المنطقة آنذاك (روما)، وعدم اكتراث بنوعيتها ورؤيتها مادامت لا تتدخل في حياة اليهود الدينية، بل إنهم كانوا يفضلون حكومة غير يهودية لا تعطل شعائر اليهودية على حكومة يهودية تعطلها، مثل الحكومة الهيرودية أو حتى الحشمونية.
وانطلاقاً من هذا التعريف الجديد للهوية، أقام الفريسيون نظاماً تعليمياً مجانياً للصغار بين الجماعات اليهودية كافة، حتى يدركوا تراثهم الروحي ويفلتوا من سيطرة الكهنوت المرتبط بالهيكل. ويمكن النظر إلى محاولة إنشاء سياج حول التوراة بهذا المنظور نفسه، أي باعتبارها التعبير عن الهوية الروحية الجديدة. وكذلك كان دفاعهم عن مؤسسة المعبد اليهودي (السيناجوج) الذي يمكن إقامته في أي مكان على عكس هيكل القدس. كما أنهم طالبوا بتطبيق العقل وتفسير التوراة على أن يبتعد التفسير عن الحرفية، وأن يتم التركيز على روح النصوص في مواجهة تفسير الصدوقيين الحرفي. والواقع أن تفسير الشريعة هو شكل من أشكال السلطة السياسية في نهاية الأمر، ولذا فإن التفسير المرن يوسع ولا شك رقعة الأرستقراطية الدينية ويفتح المجال أمام شريحة جديدة تطرح فكراً جديداً. وللسبب نفسه، كان الفريسيون من أنصار الشريعة الشفوية بخلاف الصدوقيين (أنصار الشريعة المكتوبة) الذين كانوا يرون أن الشريعة الشفوية غير ملزمة. ومع هذا، كان الفريسيون لا يدَّعون النبوة، فقد كانوا ينادون بأن مرحلة النبوة وصلت إلى نهايتها وأنهم أقرب إلى حكماء الحضارة الهيلينية.
آمن الفريسيون بوحدانية الخالق، وبالماشيَّح، وبخلود الروح في الحياة الآخرة، وبالبعث والثواب والعقاب والملائكة وحرية الإرادة التي لا تتعارض مع معرفة الخالق المسبقة بأفعال الإنسان، وهي أفكار دينية أنكرها الصدوقيون الذين حافظوا على صياغة حلولية وثنية لليهودية. ولعل من العسير، إلى حد ما، تصوُّر عقيدة دينية دون إيمان بالبعث أو باليوم الآخر. ولذا، فقد يكون من المشروع لنا أن نسأل: كيف تَقبَّل الفريسيون الصدوقيين يهوداً؟ ونعود فنقول: إنها الخاصية الجيولوجية التراكمية لليهودية. والشريعة اليهودية ـ على أية حال ـ تُعرِّف اليهودي بأنه من يؤمن بالعقيدة اليهودية أو يولد لأم يهودية.
وتتلخص رسالة يسرائيل، حسب وجهة نظر الفريسيين، في مساعدة الشعوب الأخرى على معرفة الخالق وعلى الإيمان به، ولذا فإنهم لم يكونوا كالفرق القومية المغلقة، وإنما قاموا بنشاط تبشيري خارج فلسطين، الأمر الذي يفسر زيادة عدد يهود الإمبراطورية الرومانية في القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي. وقد بيَّنت هذه الحركة التبشيرية مدى ابتعاد الفريسيين عن الحلولية الوثنية التي تولِّد نسقاً دينياً قومياً مغلقاً، يتوارثه من هو داخل دائرة القداسة ويستبعد من سواه، لأن الإيمان لا يَصلُح أساساً للانتماء. وثمة نظرية جديدة تقول إن المسيح عليه السلام كان (في الأصل) فريسياً من أتباع مدرسة هليل ذات الاتجاه العالمي التبشيري، والتي كانت ترى أن مهمة اليهود نشر

علي العذاري
11-08-2011, 05:28 AM
وصايا نوح بين الأغيار، وأنه حينما كان يشير إلى «الكتبة والفريسيين» إشارات سلبية وقدحية فإنما كان يشير إلى أتباع شماي وحسب.
وقد دخل الفريسيون في صراع دائم مع الصدوقيين على النفوذ والمكانة والامتيازات. فكانوا يتصرفون مثل الكهنة كأن يأكلوا كجماعة، ويقيموا شعائر الختان، بل حاولوا فرض نفوذهم على الهيكل نفسه على حساب الصدوقيين، وذلك عن طريق ممارسة بعض الطقوس المقصورة على الهيكل خارجه. وقد قوي نفوذ الفريسيين مع ثراء الدولة الحشمونية والرخاء الذي ساد عصرها بعض الوقت. وبلغوا درجة من القوة حتى إنهم نجحوا في حَمْل الكاهن الأعظم على القَسَم بأنه سيقيم طقوس عيد يوم الغفران حسب تعاليمهم.
وقد أيَّد الفريسيون التمرد الحشموني (168 ق.م) وساندوه، في بادئ الأمر، على مضض. ولكن التناقض بينهم وبين الأسرة الحشمونية ظهر إبان حكم يوحنا هيركانوس الأول، فتحدوا سلطته الكهنوتية وذبح هو آلافاً منهم. وتَحقَّق للصدوقيين بذلك شيء من النصر. ولكن زوجة هيركانوس (سالومي ألكسندرا) التي خلفته في الحكم، تصالحت معهم وأسلمتهم زمام الأمور في الداخل، فاضطهدوا الصدوقيين حتى أن الجو صار مهيئاً لحرب أهلية. والواقع أن الصراع الذي دار بين يوحنا هيركانوس الثاني وأخيه أرسطوبولوس الثاني كان صراعاً بين الصدوقيين والفريسيين. ويبدو أن الفريسيين اصطبغوا بصبغة هيلينية في أواخر الأسرة الحشمونية وعارضوا التمرد اليهودي الأول (66 ـ 70م). لكن خوفهم من الغيورين كان عميقاً، فأخذوا يسايرونهم، غير أنهم كانوا يستسلمون للقوات الرومانية كلما سنحت لهم الفرصة كما فعل يوسيفوس. وقد كانوا يرون أن الدولة الرومانية أساس للبقاء اليهودي. ويقول أحد الفريسيين: "صلوا من أجل سلام الحكومة الرومانية، فلولا الخوف الذي تبعثه في القلوب لابتلع الواحد منا الآخر " (فصول الآباء 3/2). وقد قام أحد الفريسيين (يوحنان بن زكاي) بتأسيس حلقة يفنه التلمودية التي طورت اليهودية الحاخامية.
ويُصنَّف «الغيورون» و«عصبة الحناجر» و«الأسينيون» باعتبارهم أجنحة متطرفة من الحزب الفريسي (باعتبارهم ينتمون إلى ما يمكن تسميته «الحزب الشعبي») في مواجهة حزب الصدوقيين الكهنوتي الأرستقراطي.
الصدوقيون
Saducees
«الصدوقيون» مأخوذة من الكلمة العبرية «صِّدوقيم»، ويُقال لهم أحياناً «البوئيثيون Boethusian». وأصل الكلمة غير محدَّد. ومن المحتمل أن يكون أصل الكلمة اسم الكاهن الأعظم «صادوق» (في عهد سليمان) الذي توارث أحفاده مهمته حتى عام 162 ميلادية. و«الصدوقيون» فرقة دينية وحزب سياسي تعود أصوله إلى قرون عدة سابقة على ظهور المسيح عليه السلام. وهم أعضاء القيادة الكهنوتية المرتبطة بالهيكل وشعائره والمدافعون عن الحلولية اليهودية الوثنية.
وكان الصدوقيون، بوصفهم طبقة كهنوتية مرتبطة بالهيكل، يعيشون على النذور التي يقدمها اليهود، وعلى بواكير المحاصيل، وعلى نصف الشيقل الذي كان على كل يهودي أن يرسله إلى الهيكل، الأمر الذي كان يدعم الثيوقراطية الدينية التي تتمثل في الطبقة الحاكمة والجيش والكهنة. وكان الصدوقيون يحصلون على ضرائب الهيكل، كما كانوا يحصلون على ضرائب عينية وهدايا من الجماهير اليهودية. وقد حوَّلهم ذلك إلى أرستقراطية وراثية تؤلِّف كتلة قوية داخل السنهدرين.
ويعود تزايد نفوذ الصدوقيين إلى أيام العودة من بابل بمرسوم قورش (538 ق.م) إذ آثر الفرس التعاون مع العناصر الكهنوتية داخل الجماعة اليهودية لأن بقايا الأسرة المالكة اليهودية من نسل داود قد تشكل خطراً عليهم. واستمر الصدوقيون في الصعود داخل الإمبراطوريات البطلمية والسلوقية والرومانية، واندمجوا مع أثرياء اليهود وتأغرقوا، وكوَّنوا جماعة وظيفية وسيطة تعمل لصالح الإمبراطورية الحاكمة وتساهم في عملية استغلال الجماهير اليهودية، وفي جمع الضرائب.
ولكن، وبالتدريج، ظهرت جماعات من علماء ورجال الدين (أهمهم جماعة الفريسيين) تلقوا العلم بطرق ذاتية، كما كانت شرعيتهم تستند إلى عملهم وتقواهم لا إلى مكانة يتوارثونها. وكانوا يحصلون على دخلهم من عملهم، لا من ضرائب الهيكل. وقد أدَّى ظهور الفريسيين، بصورة أو بأخرى، إلى إضعاف مكانة الصدوقيين. ومما ساعد على الإسراع بهذه العملية، ظهور الشريعة الشفوية حيث كان ذلك يعني أن الكتاب المقدَّس بدأت تزاحمه مجموعة من الكتابات لا تقل عنه قداسة. كما أن الكتب الخفية والمنسوبة وغيرها من الكتابات كانت قد بدأت في الظهور. وقد ساهم الأثر الهيليني في اليهود في إضعاف مكانة الصدوقيين الكهنة، فقد كان اليونانيون القدامى يعتبرون الكهنة من الخدم لا من القادة. وكانت جماعات العلماء الدينيين (الفريسيين) أكثر ارتباطاً بالحضارة السامية وبالجماهير ذات الثقافة الآرامية. لكل هذا، زاد نفوذ الفريسيين داخل السنهدرين وخارجه، حتى أنهم أرغموا الكاهن الأعظم على أن يقوم بشعائر يوم الغفران حسب منهجهم هم. وقد وقف الصدوقيون، على عكس الفريسيين، ضد التمرد الحشموني (168 ق.م)، ولكنهم عادوا وأيدوا الملوك الحشمونيين باعتبار أن الأسرة الحشمونية أسرة كهنوتية (ابتداءً من 140 ق.م). ولا يمكن فَهْم الصراعات التي لا تنتهي بين ملوك الحشمونيين إلا في إطار الصراع بين الحزب الشعبي (الفريسي) وحزب الصدوقيين. وقد أيَّد الصدوقيون بعد ذلك الرومان.
وارتباط الصدوقيين بالعناصر الحلولية البدائية في التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي واضح، فهم لا يؤمنون بالعالم الآخر ويرون أنه لا توجد سوى الحياة الدنيا وينكرون مقولات الروح والآخرة والبعث والثواب العقاب. ومن المهم أن نشير إلى أنهم، برغم رؤيتهم المادية الإلحادية، كانوا يُعتبَرون يهوداً، بل كانوا يشكلون أهم شريحة في النخبة الدينية القائدة. وقد اعترف بيهوديتهم الفريسيون، وكذلك الفرق اليهودية الأخرى كافة رغم رفضهم بعض العقائد الأساسية التي تشكل الحد الأدنى بين الديانات التوحيدية. ولعل هذا يعود إلى طبيعة العقيدة اليهودية التي تشبه التركيب الجيولوجي التراكمي، وإلى أن الشريعة اليهودية تُعرِّف اليهودي بأنه من يؤمن باليهودية، أو من وُلد لأم يهودية حتى ولو لم يؤمن بالعقيدة. وحينما كان فيلسوف العلمانية باروخ إسبينوزا يؤسِّس نسقه الفلسفي المادي، أشار إلى الصدوقيين ليبرهن على أن الإيمان بالعالم الآخر ليس أمراً ضرورياً في العقيدة اليهودية، وأنه لا توجد أية إشارة إليه في العهد القديم.
وقد كان الصدوقيون يرون أن الخالق لا يكترث بأعمال البشر، وأن الإنسان هو سبب ما يحل به من خير وشر. ولذا، فقد قالوا بحرية الإرادة الإنسانية الكاملة. وكانوا لا يؤمنون إلا بالشريعة الشفوية، كما كانوا يقدمون تفسيراً حرفياً للعهد القديم، ويحرِّمون على الآخرين تفسيره. وكانوا يدافعون أيضاً عن الشعائر الخاصة بالهيكل والعبادة القربانية، ويرون أن فيها الكفاية، وأنه لا توجد حاجة إلى ديانة أو عقيدة دينية مجردة، ولا حاجة إلى إقامة الصلاة أو دراسة التوراة باعتبار أن ذلك شكل من أشكال العبادة. ويُقال إنه بينما كان الصدوقيون يحاولون (كما هو الحال مع الديانات الوثنية) أن ينزلوا بالخالق إلى مقام الإنسان والمادة، حاول الفريسيون (على طريقة الديانات التوحيدية) الصعود بالإنسان كي يتطلع إلى الخالق ويتفاعل معه. ويُعَدُّ الصدوقيون في طليعة المسئولين عن محاكمة المسيح في السنهدرين. وقد اختفت هذه الفرقة تماماً بهدم الهيكل (70م) نظراً لارتباطها العضوي به.
الغيورون (قنَّائيم)
Zealots
كلمة «غيورون» ترجمة للفظة «قنَّائيم»، وهي من الكلمة العبرية «قانَّا» بمعنى «غيور» أو «صاحب الحمية». والغيورون فرقة دينية يهودية، ويُقال إنه جناح متطرف من الفريسيين وحزب سياسي وتنظيم عسكري. وقد جاء أول ذكر لهم باعتبارهم أتباعاً ليهودا الجليلي في العام السادس قبل الميلاد. ويبدو أن واحداً من العلماء الفريسيين، ويُدعَى صادوق، قد أيده. ولكن يبدو أن أصولهم أقدم عهداً، إذ أنها تعود إلى التمرد الحشموني (186 ق.م). ويذكر يوسيفوس شخصاً يُدعَى حزقيا باعتباره رئيس عصابة أعدمه هيرود، وحزقيا هذا هو أبو يهودا الجليلي الذي ترك من بعده شمعون ويعقوب ومناحم (لعله أخوه). وقد تولَّى مناحم الجليلي، وهو زعيم عصبة الخناجر، قيادة التمرد اليهودي الأول ضد الرومان (66 ـ 70م)، وذلك بعد أن استولى على ماسادا وذبح حاميتها واستولى على الأسلحة، ثم عاد إلى القدس حيث تولَّى قيادة التمرد هو وعصبته الصغيرة، فأحرقوا مبنى سجلات الديون، وأحرقوا أيضاً قصور الأثرياء وقصر الكاهن الأعظم آنانياس ثم قاموا بقتله، بل يبدو أنهم حاولوا إقامة نظام شيوعي. ويبدو كذلك أن عصابة مناحم كانت متطرفة ومستبدة في تعاملها مع الجماهير اليهودية. وقد كانت لدى مناحم ادعاءات مشيحانية عن نفسه، كما أنه جمع في يديه السلطات الدينية والدنيوية. ولذا، قامت ثورة ضده انتهت بقتله، هو وأعوانه، وهروب البقية إلى ماسادا. وقد استمر نشاط الغيورين حتى سقوط القدس وهدم الهيكل عام 70 ميلادية، ولكن هناك من يرى أنهم اشتركوا أيضاً في التمرد اليهودي الثاني ضد هادريان (132 ـ 135م).
وكان الغيورون منقسمين فيما بينهم إلى فرق متطاحنة متصارعة. ومن قياداتهم الأخرى، يوحنان بن لاوي وشمعون برجيورا.
ويُعَدُّ ظهور حزب الغيورين تعبيراً عن الانهيار الكامل الذي أصاب الحكومة الدينية وحكم الكهنة. وقد قام الغيورون، تحت زعامة يهودا الجليلي، بحَثّ اليهود على رفض الخضوع لسلطان روما، وخصوصاً أن السلطات الرومانية كانت قد قررت إجراء إحصاء في فلسطين لتقدير الملكية وتحديد الضرائب. وقد تبعت حزب الغيورين، في ثورته، الجماهير اليهودية التي أفقرها حكم أثرياء اليهود بالتعاون مع اليونانيين والرومان. ويتسم فكر الغيورين بأنه فكر شعبي مفعم بالأساطير الشعبية، ولذا نجد أن أسطورة الماشيَّح أساسية في فكرهم، بل إن كثيراً من زعمائهم ادعوا أنهم الماشيَّح المخلص، وقد قدموا رؤية للتاريخ قوامها أن هزيمة روما شرط أساسي للخلاص، وأن ثمة حرباً مستعرة بين جيوش يسرائيل وجيوش يأجوج ومأجوج (روما)، وأن اليهود مكتوب لهم النصر في الجولة الأخيرة. وعلى هذا، فإن فكرهم يتسم بالنزعة الأخروية التي انتشرت في فلسطين آنذاك، ويُقال إن معظم أدب الرؤى (أبوكاليبس) من أدب الغيورين.
ونظراً لجهل الغيورين بحقائق القوى الدولية وموازينها، وبمدى سلطان روما في ذلك الوقت، قاموا بثورة ضارية ضد الرومان واستولوا على القدس. وقد تعاونوا مع الفريسيين في هذه الثورة، ولكن الفريسيين كانوا مترددين بسبب انتماءاتهم. وحينما بدأت المقاومة المسلحة، استخدم الغيورون أسلوب حرب العصابات ضد روما، كما قاموا بخطف وقتل كل من تعاون مع روما، حتى أن الجماهير اليهودية ثارت ذات مرة ضدهم. وقد قضى الرومان على ثورة الغيورين، واستسلمت القوات اليهودية، وكان آخرها القوات اليهودية في ماسادا بقيادة القائد الغيوري إليعازر بن جاير، وهي القوات التي آثرت الانتحار على الاستسلام نظراً لأنها كانت قد ذبحت الحامية الرومانية بعد استسلامها لهم وخشي قائد الغيورين أن يذبحهم القائد الروماني، على عكس القلاع الأخرى (مثل ماخايروس وهيروديام) التي استسلمت للرومان.
الأسينيون
Essenes
«أسينيون» من الكلمة الآرامية «آسيا»، ومعناها «الطبيب» أو «المداوي»، وهي من «يؤاسي المريض». ويُقال إنها من الكلمة السريانية «هاسي»، كما يُقال إنها تعود إلى كلمة «هوسيوس» اليونانية، أي «المقدَّس»، ولعلها النطق اليوناني «أسيديم» للكلمة العبرية «حسيديم»، أي «الأتقياء»، ولعلها تصحيف للكلمة العبرية «حَاشائيم»، أي «الساكتين». والأسينيون فرقة دينية يهودية لم يأت ذكرها في العهد الجديد، وما ذُكر عنها في كتابات فيلون ويوسيفوس متناقض. ولعل هذا يدل على وجود خلافات في صفوف الأسينيين أنفسهم الذين لم يزد عددهم عن أربعة آلاف، وكانوا يمارسون شعائرهم شمال غرب البحر الميت في الفترة ما بين القرنين الثاني قبل الميلاد والأول الميلادي.
والأسينيون (فيما يبدو) جناح متطرف من الفريسيين، وتقترب عقائدهم من عقائد ذلك الفريق، ويظهر هذا في ابتعادهم عن اليهودية كدين قرباني مرتبط بهيكل القدس. آمن الأسينيون بخلود الروح والثواب والعقاب، ووقفوا ضد العبودية والملكية الخاصة، بل ضد التجارة، وانسحبوا تماماً من الحياة العامة (على عكس الفريسيين). وقد قسَّم الأسينيون الناس إلى فريقين: البقية الصالحة من جماعة يسرائيل، وأبناء الظلام. وترقبوا نزول الماشيَّح لينشئ على الأرض ملكوت السماء ويحقق السلام والعدالة في الأرض. وقد عاش الأسينيون في جماعة مترابطة حياة النساك يلبسون الثياب البيض ويتطهرون ويطبقون شريعة موسى تطبيقاً حرفياً، وكانوا أحياناً يتعبدون في اتجاه الشمس ساعة الشروق.
عاش الأسينيون على عملهم بالزراعة، وكانوا لا يتناولون من الطعام إلا ما أعدوه بأنفسهم، وهو ما زاد ترابط الجماعة (الأمر الذي جعل عقوبة الطرد منها بمنزلة حكم الإعدام). ويبدو أنه كان لهم تقويمهم الخاص. وقد حرموا الذبائح، ولذلك فقد كانوا يقدمون للهيكل قرابين نباتية وحسب. كما حرموا على أنفسهم، أو على الأقل على الأغلبية العظمى منهم، الزواج. وقد انقرض الأسينيون كلية في أواخر القرن الأول الميلادي.
كان فكر الأسينيين متأثراً بالفكر الهيليني وأفكار فيثاغورث، وبآراء البراهمة والبوذيين، وهو ما كان منتشراً في فلسطين (ملتقى الطرق التجارية العالمية في القرن الأول قبل الميلاد). ويُقال إن المسيحية الأولى تأثرت بهم، كما يُقال إن يوحنا المعمدان كان قريباً من الأسينيين، وأن المسيح عليه السلام كان عضواً في هذه الفرقة الدينية وأنه تأثر بفكرهم (ومن المعروف أن المسيح طرد التجار والمرابين من الهيكل). وقد كشفت مخطوطات البحر الميت عن كثير من عقائد الأسنيين. ومن أهم كتبهم كتاب الحرب بين أبناء النور وأبناء الظلام، وهو من كتب الرؤى (أبوكاليبس)، وهو ذو طابع أخروي حاد. ويُقال إن الأسينيين آمنوا بيسوع الناصري كواحد من أنبياء يسرائيل المصلحين، ولكنهم رفضوا دعوة بولس إلى العقيدة المسيحية وظلوا متمسكين بالنواميس

علي العذاري
11-08-2011, 05:30 AM
اليهودية. ويُقال أيضاً إن الأبيونيين هم الأسينيون في مرحلة تاريخية لاحقة.
عصبة حملة الخناجر
Sicarii
«عصبة الخناجر» ترجمة لكلمة «سيكاري» المنسوبة إلى كلمة «سيكا» اللاتينية، التي تعني الخنجر. و«سيكاريوس sicarius» كلمة مفردة تعني «حامل الخنجر» وجمعها «سيكاريي sicarii». وعصبة الخناجر جماعة متطرفة من الغيورين الذين كانوا بدورهم جماعة متطرفة من الفريسيين، وقد كانوا يخبئون خناجرهم تحت عباءاتهم ليباغتوا أعداءهم في الأماكن العامة ويقتلوهم. وأثناء التمرد اليهودي الأول ضد الرومان (66 ـ 70م)، يُقال إنهم كانوا تحت قيادة مناحم الجليلي، وأنهم هم الذين أحرقوا منزل الكاهن الأعظم أنانياس، وقصري أجريبا الثاني وأخته بيرنيكي عشيقة تيتوس. كما أحرقوا سجلات الديون حتى ينضم الفقراء المدينون إليهم. وقد أدَّى نشاطهم إلى فرار الأرستقراطيين اليهود. ولكن الجماهير، بقيادة الغيوري المعتدل إليعازر بن حنانيا من حزب القدس، تمردت على المتطرفين وقتلت زعيمهم مناحم الجليلي، ففرت فلولهم. ويُقال إن الجماعة التي لجأت إلى ماسادا، وأبادت الجالية الرومانية بعد استسلامها، من أعضاء عصبة الخناجر. وثمة رأي آخر يرى أن جماعة إليعازر بن جاير كانت معادية لهم، ولكنها اختلفت معهم بشكل مؤقت.
ويبدو أنه كان يوجد داخل حركة الغيورين جناحان: جناح متطرف هو عصبة الخناجر، وجناح القدس، ويشار إلى أعضاء هذا الجناح باسم «الغيورين» وحسب. وكان الفارق بين الفريقين كما يلي:
1 ـ لم يرتبط غيورو القدس بأية أسرة محددة، ولم يعلنوا قوادهم ملوكاً.
2 ـ كانت قاعدة الغيورين في القدس، بينما كانت قاعدة العصبة في الجليل.
3 ـ كانت الأبعاد الاجتماعية لعصبة الخناجر أوضح منها في حالة الغيورين، رغم ثورة هؤلاء على الكاهن الأعظم والأقلية الثرية الحاكمة.
والواقع أن عصبة الخناجر هي الجماعة الوحيدة التي استمرت في نشاطها بعد إخماد التمرد، هذا التمرد الذي اتسع نطاقه إلى الإسكندرية وبرقة، حيث قام يهودي من عصبة الخناجر يدعى يوناثان بقيادة أعضاء الجماعة اليهودية في ثورة تم قمعها. وبعد اغتيال بعض القيادات اليهودية هناك، قام أعضاء الجماعة اليهودية بالقبض على أعضاء عصبة الخناجر وتسليمهم إلى القوات الرومانية. وقد كانت عصبة الخناجر، رغم نشاطها وحركتها، تشكل أقلية لا يزيد عددها حسب بعض التقديرات على ألفين.
ويبدو أن فكر عصبة الخناجر كان فكراً شيوعياً بدائياً يعود إلى بعض التيارات الكامنة في العهد القديم. فقد جاء في سفر اللاويين (25/23): "والأرض لا تُباع بتة. لأن لي الأرض وأنتم غرباء ونزلاء عندي. بل في كل أرض ملككم تجعلون فكاكاً للأرض" وغيرها (25/23، 25/55، وتثنية 15/4 ـ 5، 15/6). وفي مفهوم السنة السبتية حيث تُلغى ديون الفقراء من اليهود وهو ما يعكس هذه الشيوعية البدائية التي يبدو أنها أثرت في فكر عصبة الخناجر الذين كان شعارهم "لا ملك إلا الرب"، فهو وحده "مالك الأرض".
الفقراء (الإبيونيون)
Ebionites
الكلمة العبرية «إبيون» تعني «فقير»، وهي كلمة ذات مدلول اقتصادي ومنها «الإبيونيون»، وقد أصبحت هذه الكلمة ذات تضمينات دينية واستخدمها بعض أعضاء الجماعات اليهودية المسيحية في بداية العصر المسيحي للإشارة إلى أنفسهم باعتبار أنهم ورثة مملكة الرب. وقد تبع الإبيونيون الشريعة اليهودية، وأصروا على أن المسيحيين ملزمون بها، كما أنهم راعوا شعائر السبت. وقد رفض معظمهم فكرة ألوهية المسيح وولادته العذرية، ولكنهم آمنوا بأنه الماشيَّح الذي اختاره الإله عند تعميده. ومن هنا كان تعميد المسيح موضوعاً أساسياً في إنجيل الإبيونيين. وقد اعتبر الإبيونيون تعاليم بولس الرسول هرطقة محضة. وذهب فريق من الإبيونيين مذهب الغنوصيين، فقالوا بأن المسيح هو آدم. وقال فريق آخر إنه الروح القدس حل بآدم، ثم بالآباء، وأخيراً حل بعيسى، فلما صُلب عيسى صعد الروح القدس، الذي هو المسيح، إلى السماء. ومع اتساع الهوة بين اليهودية والمسيحية، اختفت هذه الجماعات في نهاية القرن الرابع الميلادي.
المغارية
Maghariya
«المغارية» فرقة يهودية ظهرت في القرن الأول الميلادي حسبما جاء في القرقشاني. وهذا الاسم مشتق من كلمة «مغارة» العربية، أي كهف، فالمغارية إذن هم سكان الكهوف أو المغارات، وهذه إشارة إلى أنهم كانوا يخزنون كتبهم في الكهوف للحفاظ عليها، ويبدو أنها فرقة غنوصية، إذ يذهب المغارية إلى أن الإله متسام إلى درجة أنه لا تربطه أية علاقة بالمادة (فهو يشبه الإله الخفي في المنظومة الغنوصية)، ولهذا فإن الإله لم يخلق العالم، وإنما خلقه ملاك ينوب عن الإله في هذا العالم. وقد كتب أتباع هذه الفرقة تفسيراتهم الخاصة للعهد القديم وذهبوا إلى أن الشريعة والإشارات الإنسانية إلى الإله إنما هي إشارات لهذا الملاك الصانع. وقد قرن بعض العلماء المغارية بالأسينيين والثيرابيوتاي.
المعالجون (ثيرابيوتاي)
Therapeutae
«المعالجون» ترجمة لكلمة «ثيرابيوتاي» المأخوذة من الكلمة اليونانية «ثيرابي» أي «العلاج»، وتعني «المعالجون». والمعالجون (ثيرابيوتاي) فرقة من الزهاد اليهود تشبه الأسينيين استقرت على شواطئ بحيرة مريوط قرب الإسكندرية في القرن الأول الميلادي، ويشبه أسلوب حياتهم أسلوب الأسينيين وإن كانوا أكثر تشدداً منهم. وقد كانت فرقة المعالجين تضم أشخاصاً من الجنسين، وأورد فيلون في كتابه كل ما يعرفه عنهم، فيذكر إفراطهم في الزهد وفي التأمل وبحثهم الدائب عن المعنى الباطني للنصوص اليهودية المقدَّسة. كما يذكر فيلون أنهم كانوا يهتمون بدراسة الأرقام ومضمونها الرمزي والروحي، كما كانوا يقضون يومهم كله في العبادة والدراسة والتدريب على الشعائر. أما الوفاء بحاجة الجسد، فلم يكن يتم إلا في الظلام (وهو ما قد يوحي بأصول غنوصية).
المستحمون في الصباح (هيميروبابتست)
Hemerobaptists
«المستحمون في الصباح» ترجمة للكلمة اليونانية «طوبلحاشحريت» أو «هيميروبابتست» والمستحمون في الصباح فرقة يهودية أسينية كان طقس التعميد بالنسبة إليها أهم الشعائر. ولذا، فقد كان هذا الطقس يُمارَس بينهم كل يوم بدلاً من مرة واحدة في حياة الإنسان. كما أنهم كانوا يتطهرون قبل النطق باسم الإله. ويبدو أن يوحنا المعمدان كان واحداً منهم. وقد ظلت بقايا من هذه الفرقة حتى القرن الثالث الميلادي.
عبدة الإله الواحد (هبسستريون)
Hypsisterion
«عبدة الإله الواحد» ترجمة للكلمة اليونانية «هبسستريون». وعبدة الإله الواحد هم فرقة شبه يهودية كانت تعبد الإله الواحد الأسمى (والاسم مشتق من كلمة يونانية لها هذا المعنى). وقد كان أعضاء هذه الفرقة يعيشون على مضيق البسفور في القرن الأول الميلادي وظلت قائمة حتى القرن الرابع. ومن الشعائر اليهودية التي حافظوا عليها شعائر السبت والطعام، وكانت عندهم شعائر وثنية مثل تعظيم النور والأرض والشمس، وخصوصاً النار، ومع هذا يُقال إن الأمر لم يصل بهم قط إلى درجة تقديس النار كما هو الحال مع المجوس.
البناءون (بنائيم)
Banaaim
«البناءون» ترجمة لكلمة «بنائيم». والبناءون فرقة يهودية صغيرة ظهرت في فلسطين في القرن الثاني الميلادي. ومعنى الكلمة غير معروف بصورة محددة، فيذهب بعض العلماء إلى أن الاسم مشتق من كلمة «بنا» بمعنى «يبني»، وأن أتباع هذه الفرقة علماء يكرسون جلّ وقتهم لدراسة تكوين العالم (كوزمولوجي). ويذهب آخرون إلى أن (البنائيم) فرع من الأسينيين. ويذهب فريق ثالث إلى أن الاسم مشتق من كلمة يونانية بمعنى «حمام» أو «المستحمون». ويذهب فريق رابع إلى أنهم أتباع الراهب الأسيني بانوس. ولعل ربط البنائيم بالأسينيين يرجع إلى اهتمامهم البالغ بشعائر الطهارة والحفاظ على نظافة ملابسهم.
اليهودية والمسيحية
تنصير اليهودية
Christianization of Judaism
«تنصير اليهودية» مصطلح نحتناه لنصف عملية حدثت للنسق اليهودي وحولته تحويلاً جذرياً، وهي ظاهرة رصدها بشكل جزئي متفرق كثير من دارسي اليهودية من الغربيين ولكنهم لم يعطوها المركزية التفسيرية التي تستحقها. وابتداءً، لابد أن نقرر أن «التنصير» المشار إليه عملية بنيوية مركبة تمت داخل اليهودية بشكل تلقائي طوعي غير واع على مستوى البنية الكامنة وليس من الخارج. ولذا، فهي لا تأخذ شكل اقتراض فكرة هنا أو شعيرة هناك، وإنما تأخذ شكلاً أكثر جذرية. كما أن تنصير اليهودية لا يعني أن اليهودية أصبحت نصرانية، إذ أن اليهودية فقدت كثيراً من سماتها الخاصة واستوعبت بعض السمات البنيوية للمسيحية. ولكن الثمرة النهائية لهذه العملية هو تَشوُّه كلٍّ من اليهودية والسمات المسيحية التي استوعبتها.
وتعود ظاهرة تنصير اليهودية إلى عدة عناصر:
1 ـ تركيب اليهودية الجيولوجي يساعد كثيراً على تَقبُّله سمات وعناصر من الأنساق الدينية الأخرى.
2 ـ أصول المسيحية يهودية، فالسيدة مريم العذراء عاشت وماتت يهودية، والسيد المسيح نفسه والحواريون كانوا في بداية الأمر يهوداً يدورون في إطار الثقافة الآرامية السائدة. وقد بدأت المسيحية باعتبارها دعوة موجهة إلى اليهود أساساً، ثم إلى كل الناس بعد ذلك، والمسيحية لم تَجُبّ اليهودية وإنما أكملتها (على حد قول السيد المسيح(.
3 ـ تَبنَّت المسيحية التوراة (كتاب اليهود المقدَّس) كتاباً مقدَّساً، حتى بعد أن سَمَّته العهد القديم، وأصبح الشعب ضمن أتباع الكنيسة، وأصبحت الكنيسة نفسها تُسمَّى «إسرائيل الحقيقية» (باللاتينية: «إسرائيل فيروس Israel verus»)، وأصبحت العودة إلى صهيون والقدس (بالمعنى الروحي) إحدى الركائز الأساسية للتفكير الأخروي المسيحي. وهناك بعض المفاهيم المشتركة بين اليهودية والمسيحية مثل ابن الإله والاختيار.
4 ـ منذ القرن الرابع عشر، عاشت غالبية يهود العالم في العالم الغربي في تربة مسيحية. ولكن يهود المارانو هم أهم العناصر التي ساعدت على تنصير اليهودية حيث أشاعوا القبَّالاه، وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية، التي استوعبت كثيراً من الأفكار المسيحية لدرجة أن أتباع المفكر القبَّالي أبو العافية تنصروا لاكتشافهم الشبه بين نسقه الفكري والمسيحية.
ويجب ألا ننسى أن كثيراً من المارانو كانوا مسيحيين صادقين في إيمانهم، وفُرضت عليهم اليهودية فَرْضاً بسبب غباء محاكم التفتيش وعنصريتها. ولذا، فإنهم كانوا يفكرون من خلال إطار مسيحي كاثوليكي. وحتى أولئك اليهود المتخفون الذين احتفظوا بيهوديتهم سراً، أصبح إطارهم المفاهيمي كاثوليكياً. فهم، على سبيل المثال، كانوا يؤمنون بالقديسة «سانت إستير»، بل إن بعض شعائرهم تأثرت بالشعائر المسيحية وتأثرت رؤيتهم للماشيَّح برؤية المسيحيين للمسيح.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل استمر التأثر بالمسيحية بين يهود اليديشية، وقد كانت مراكز اليهودية الحاخامية في المدن الكبرى، أما أغلبية اليهود فكانوا في الشتتلات يعيشون مع الفلاحين السلاف، جنباً إلى جنب، بعيداً عن قبضة المؤسسة الحاخامية، فاصطبغ فكرهم الديني بصبغة فلكلورية سلافية أرثوذكسية .
ولفهم عملية تنصير اليهودية، لابد أن نتناول قضية معالجة كلٌ من المسيحية واليهودية لقضية الحلول الإلهي أو اللوجوس. فاللوجوس في المسيحية، هو ابن الله الذي ينزل ويتجسد لفترة زمنية محددة ويُصلَب ويقوم ويترك التاريخ، ومن ثم، فإن الحلول شخصي مؤقت ومنته. أما اللوجوس في اليهودية، فهو الشعب اليهودي، مركز التاريخ والطبيعة، ولذا فالحلول جماعي ودائم ومتواصل، وتَجسُّد المطلق في التاريخ مسألة دائمة. وهذا الفارق بين الحلين لمشكلة الحلولية (أو لنقطة تلاقي المطلق والنسبي) هو الذي يشكل مفتاحاً لفهم طبيعة تنصير اليهودية.
ويتبدَّى تداخل عناصر مسيحية والنسق الديني اليهودي في زعم الحاخامات أن المشناه تجسيد للوجوس، تماماً كالمسيح عند المسيحيين. ولعل تفسير راشي للاختيار بأنه سر من الأسرار هو أيضاً تأثر بالمفاهيم المسيحية الخاصة بحادثة الصلب باعتبارها سراً من الأسرار الإلهية التي يؤمن بها الإنسان دون أن يتساءل عنها. لكن مثل هذه الأفكار يمكن أن تُولَد داخل أي نسق ديني إيماني دون تأثر بأنساق دينية أخرى، فتعيين بعض الأفكار التي لا يمكن التساؤل عنها أو عن سببها مسألة أساسية في كل دين (بل في كل العقائد وضمن ذلك العقائد العلمانية). ولكن يصعب أن نقول الشيء نفسه عن قول الحاخامات إن المشناه هي لوجوس خُلق قبل الخَلق (مع أنها تضم اجتهادات بعض الحاخامات اليهود(.
وإذا كان هناك إبهام ما في حالة اليهودية الحاخامية في بدايات العصور الوسطى، فإن الأمر يختلف تماماً بعد هيمنة القبَّالاه. ويمكننا الآن أن نبيِّن بعض نقط التلاقي بين القبَّالاه وبعض العقائد المسيحية. إن أهم مفاهيم القبَّالاه (التجليات النورانية العشرة) هو صدى لفكرة التثليث المسيحية. وقد قال أحد الحاخامات إنه إذا كان المسيحيون يؤمنون بثلاثة آلهة فالقباليون يؤمنون بعشرة، وإذا كانت المسيحية ترى أن الكنيسة جسد المسيح وأن المسيحي يشكل جزءاً من هذا الجسد فإن القبَّالاه جعلت التجلي العاشر للإله «جماعة يسرائيل» نفسها أو «كنيست يسرائيل».
وفي هذه التجليات، نجد أن التجلي الثالث هو الأب العلوي أو السماوي (والعلة الذكرية الأولى). أما التجلي الثاني، فهو الأم العلوية أو السماوية والعلة الأنثوية الأولى، وهما يتزاوجان وينجبان التجلي السادس، وهذا صدى لفكرة ابن الإله وابن الإنسان. والتجلي

علي العذاري
11-08-2011, 02:38 PM
السادس هو الملك والعريس، وتربطه علاقة بالتجلي العاشر (شخيناه) التعبير الأنثوي عن الإله والملكة والعروس.
وفي القبَّالاه اللوريانية، نجد أن أبا وأما يكوِّنان النمط الأعلى للزواج المقدَّس. ثم نجد بعد ذلك «زعير أنبين»، أي «ذا الوجه القصير» و«نقيفاه زعير»، أي «أنثى زعير» (وهي مقابل التجلي العاشر).
وفي حادث تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) ونفي الشخيناه صدى لحادثة الصلب، كما أن إصلاح الخلل الكوني (تيقون) فيه أيضاً صدى لبعث المسيح بعد الصلب. وهناك من يذهب إلى أن الشخيناه هي أم الشعب اليهودي التي تشفع له عند الإله، وأنها الوسيط بين الإله والكون، فهي إذن تشبه العذراء مريم في اللاهوت الكاثوليكي. كما أن الشخيناه هي أيضاً جماعة يسرائيل وجزء من جسد الإله، وهذا يشبه المفهوم المسيحي (الكاثوليكي) للكنيسة.
وقد انتشرت القبَّالاه بأفكارهاالغنوصية شبه المسيحية، وجعلت التربة خصبة للحركات الشبتانية التي كانت في جوهرها حركات حلولية متطرفة كان قادتها يعلنون أن الإله حلَّ فيهم، أو أنهم هم أنفسهم الإله، كما فعل شبتاي تسفي أو جيكوب فرانك اللذان تألها، وجعلا نفسيهما جزءاً من ثالوث إلهي خاص ابتدعاه.
ويرى بعض الدارسين أن ثمة تأثراً في الفكر الشبتاني بالتراث المسيحي يتبدَّى في مركزية فكرة الماشيَّح الفرد، كما يتبدَّى في فكرة الخلاص الداخلي وفي الحرية الباطنية. ولكن التشابه الأصلي يتبدَّى أساساً في شخصية الماشيَّح. فالمسيح عيسى بن مريم، حسب العقيدة المسيحية، هو تجسد الإله في ابنه الذي يُصلَب، وهي فكرة مبنية على فكرة التناقض (بارادوكسا) وتَقبُّلها، فالإله يصبح بشراً وهذا البشري يُصلَب. والواقع أن ثمة تناقضاً أساسياً في فكرة الماشيَّح عند الشبتانيين، وهو أن الماشيَّح هو ابن الإله البكر الذي ينزل إلى الظلمات والدنس فيرتد عن اليهودية ويعتنق المسيحية أو الإسلام أو يتظاهر بذلك، وارتداده شكل من أشكال الصلب، فكأن الماشيَّح المرتد المدنَّس هو المسيح المصلوب. ولكن ارتداده، مثل الصلب، مسألة غير حقيقية، فالمؤمنون يرون أن هذا هو عالم الظاهر والحس، كل ما فيه زائف، ويظل الباطن (القيام والطهر) هو الحقيقة. والفارق بين الشبتانيين المعتدلين والشبتانيين المتطرفين يتمثل في موقفهم من هذه الفكرة، فالمعتدلون منهم يرون أن عليهم الإيمان حتى يظهر الماشيَّح المرتّد، أما المتطرفون فيرون أن الإيمان لا يكفي وعليهم أن يتشبهوا به وأن يرتدوا هم أيضاً، وبذلك ينزلون إلى عالم الدنس مثل الماشيَّح المرتد المدنَّس. بل يرى بعض الدارسين أن الشبتانية تؤمن بثالوث هو: الإله الخفي (النور غير العاقل)، وإله جماعة يسرائيل (النور العاقل) والشخيناه (جماعة يسرائيل) أو أيّ تنويع آخر، كما يرون أن هذا التثليث صورة سوقية مشوهة للتثليث عند المسيحيين.
ويظهر الثالوث الشبتاني في ثالوث الفرانكية:
1 ـ الأب الطيب (ويقابل الإين سوف في العقيدة القبَّالية).
2 ـ الأخ الأعظم أو الأكبر (ويقابل التفئيريت أو الابن).
3 ـ «الأم علماه» أو «العذراء بتولاه» أو «هي»، وهي خليط من الشخيناه والعذراء مريم.
والثالوث الفرانكي يضم كثيراً من عناصر الثالوث المسيحي بعد تشويهها تماماً. ويتجلى أثر المسيحية في اليهودية في الحركة الحسيدية التي يعتقد البعض أنها جوهر اليهودية، أو اليهودية الخالصة، بينما هي في واقع الأمر متأثرة تماماً بالمسيحية الأرثوذكسية السلافية، وخصوصاً جماعات المنشقين مثل الدوخوبور (المتصارعين مع الروح) والخليستي (من يضربون أنفسهم بالسياط). وتُعَدُّ الجماعة الأخيرة أقرب الفرق إلى الحسيدية، فقد كان قادتها يعتقدون أن الروح القدس تحل في قائد الجماعة (تساديك)، ولذا فهو مسيح قادر على الإتيان بالمعجزات. وكان التساديك يشبه القديس المسيحي في مقدرته على الإتيان بالمعجزات، كما كان نحمان البرتسلافي يستمع إلى اعترافات تابعيه، ويقوم بالإجراءات اللازمة ليحصلوا على المغفرة. وكان بعض التساديك يقبلون من أتباعهم فدية أو خلاص النفس (بالعبرية: فيديون نيفيش) مقابل الخلاص الذي يعطونه لأتباعهم. ولذا، فإن بعض الدارسين يُشبِّهون الفيديون نيفيش بصكوك الغفران. وكل تساديك أصبح مسيحاً، مركزاً للحلول الإلهي، له أرضه المقدَّسة التي لا ينافسه فيها أحد. وقد أخذ هذا الاتحاد شكلاً متطرفاً في حالة نحمان البراتسلافي الذي أعلن أنه الماشيَّح الوحيد (ويبدو أن أتباعه كانوا يعبدونه، ولذا لم يَخلُفه أحد). بل إن مصطلحاً مثل «الحمل بلا دنس» وهو مصطلح يتضمن مفهوماً مسيحياً بعيداً كل البعد عن روح اليهودية الحاخامية، وجد طريقه إلى الحسيدية من خلال الخليستي. فكان الخليستي يعيشون بعيداً عن زوجاتهم باعتبار أن الإله شاء أن تحمل العذراء فحملت، وكذا الأمر معهم. وهذا ما فعله بعل شيم طوف، فعندما ماتت زوجته وعُرض عليه أن يتزوج من امرأة أخرى احتج ورفض وقال إنه لم يعاشر زوجته قط وأن ابنه هرشل قد وُلد من خلال الكلمة (اللوجوس). وتظهر الفكرة نفسها في عذراء لادومير، وهي تساديك أنثى امتنعت عن الزواج وكان لها أتباعها، لكنهم
انفضوا عنها بعد زواجها.
وفي العصر الحديث تأثر مارتن بوبر بالفكر الصوفي المسيحي (البروتستانتي) ومسألة تجسُّد الإله بشكل شخصي للمؤمن. ويظهر تَنصُّر الخطاب الديني اليهودي تماماً في خطاب الفيلسوف الصهيوني البرجماتي هوراس كالن الذي يرى أن اليهود أمة روحية، وأن ذكرياتهم وآمالهم ومخاوفهم وعقائدهم ومواثيقهم تضفي على نضالهم القومي وأعمالهم ووسائلهم قداسة خاصة. ويحوّل هذا البُعد الصوفي المقدَّس «المادة الفظّة» التي تتكون منها حياة اليهود اليومية تحويلاً كاملاً، يوافق ما تفعله العقيدة المسيحية الخاصة بالوجود الحق حين تحوَّل العشاء الرباني في فم المؤمن الحقيقي إلى «جسد المسيح».
ويمكن القول بأن هذا هو تنصير اليهودية في مرحلة حلولية شحوب الإله. أما في مرحلة وحدة الوجود وموت الإله (حلولية بدون إله)، فإن التنصير يأخذ شكلاً مختلفاً. وقد ظهر مؤخراً ما يُسمَّى «لاهوت موت الإله» أو «ما بعد أوشفيتس» الذي يَصدُر عن القول بأن حادثة الإبادة النازية لليهود حدث مطلق يتجاوز الفهم الإنساني، ولذا فعلى المرء تَقبُّله دون تساؤل باعتباره سراً من الأسرار (بارادوكسا)، من الواضح أن هذا اللاهوت تعبير عن تزايد معدلات العلمنة والإلحاد داخل العقيدة اليهودية. ولكن يمكننا أن نلاحظ أيضاً أنه تعبير عن تنصير النسق الديني اليهودي. فحادثة الصلب في الرؤية المسيحية هي اللحظة التي ينزل فيها الإله إلى الأرض متجسداً في شكل ابنه فيُصلَب فداءً للبشر، وهي حادثة تتجاوز الفهم الإنساني، وعلى الإنسان تَقبُّلها بكل تناقضاتها دون تساؤل وهي التي تعطي مغزى للتاريخ. وسنجد أن ما حَدَث داخل عقل المفكرين الدينيين اليهود أن الابن أصبح الشعب اليهودي المقدَّس الذي جاء إلى هذا العالم فاضطهده الأغيار إلى أن تمت حادثة الصلب على يد النازيين، فنظروا إلى هذه الحادثة التاريخية باعتبارها الواقعة الأساسية في تاريخ اليهود الحديث، بل في تاريخ اليهود بأسره. ويشكل هذا استمراراً للنمط التنصيري القديم نفسه، وقد أخذ نقطة الحلول (نزول الابن وصلبه وقيامه) وقام بتحويلها إلى شيء مستمر عبر التاريخ. وفي هذه الحالة، يكون ظهور الشعب اليهودي في التاريخ هو النزول، وتكون الكوارث التي لحقت به (ابتداءً بالخروج من مصر وانتهاءً بالإبادة) هي الصلب، أما القيام فهو عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين وقيام الدولة الصهيونية.
وإن تحدثنا عن تنصير اليهودية فلابد أيضاً من الحديث عن يهودية الفلاشاه، فهي تحوي عناصر مسيحية كثيرة تجعل من الصعب على بعض الدارسين تسميتها «يهودية». فالفلاشاه لا يعرفون التلمود أو العبرية ويتعبدون بالجعيزية لغة الكنيسة الإثيوبية المقدَّسة وتضم كتبهم المقدَّسة مقتطفات من العهد الجديد، ولا يوجد عندهم حاخامات وإنما قساوسة ورهبان، وهكذا. ولذا، لا عجب أن مندوب الوكالة اليهودية نصحهم (عام 1973) بأن يتنصروا حلاًّ لمشكلتهم. ومع هذا قبلتهم إسرائيل يهوداً في الثمانينيات مع تزايد حاجتها للمادة البشرية، كما قبلت الفلاشاه مورا من بعدهم. يقابل مصطلح «تنصير اليهودية» مصطلح «تهويد المسيحية».
ابن الإله
Son of God
«ابن الإله» يقابلها «بن إلوهيم» في العبرية، وهي عبارة تشير إلى ما يلي:
1 ـ كل البشر باعتبار أن الإله هو أب لكل الناس (تثنية 3/6، أشعياء 64/7).
2 ـ أعضاء جماعة يسرائيل الذين يُشار إليهم في سفر الخروج باعتبارهم «إسرائيل ابني البكر» (4/22)، وفي سفر التثنية باعتبارهم «أولاد للرب إلهكم» (14/1)، وفي سفر هوشع باعتبارهم «أبناء الرب الحي»(1/10)، وفي سفر أشعياء (63/16) « فإنك أنت أبونا ... أنت يا رب أبونا ».
3 ـ ملك اليهود (الماشيَّح) الذي يُشار إليه بأنه ابن الإله: "قال لي أنت ابني ... أنا اليوم ولدتك" (مزامير 2/7) وكذلك (أخبار أول 17/13). ولذا، كان أحد ألقاب شبتاي تسفي «ابن الإله البكر».
4 ـ الملائكة (تكوين 6/2 وأيوب 1/6، 2/1).
5 ـ الأتقياء والعادلين (في الترجمة السبعينية فقط).
6 ـ الماشيَّح، في الترجوم، وفي بعض كتب الأبوكريفا الخفية، وفي التفسيرات.
7 ـ يشير فيلون إلى اللوجوس باعتباره ابن الإله.
8 ـ كان يُشار إلى التوراة باعتبارها ابن الإله.
9 ـ كان يُشار إلى المشناه باعتبارها «اللوجوس»، أي «الكلمة» التي هي «ابن الإله» في التراث المسيحي.
ومع هذا، يجب التنبيه إلى أن هذه الفكرة رغم انتشارها هي مجرد طبقة جيولوجية واحدة تراكمت مع طبقات أخرى عديدة داخل النسق الديني اليهودي، بل إن كثيراً من اليهود، في العصور الوسطى، فقدوا حياتهم بسبب إنكارهم أن المسيح ابن الإله. وقد جاء في كثير من الردود الحاخامية على المسيحيين، رفض لفكرة ابن الرب. ولذا جاء في مدراش (تفسير) كتبه أحد الحاخامات يقول: «الرب يقول: أنا الأول (أشعياء 44/6) لأنني لا أب لي، وأنا الأخير، لا أخ لي ولا إله غيري، لأنني لا ابن لي ». فالتوحيد واحد من أهم الطبقات الجيولوجية التي تراكمت داخل اليهودية والتي تكتسب مركزية في بعض المداخل وفي كتابات بعض المفكرين اليهود. ولكن العكس صحيح أيضاً، فإذا كانت فكرة «ابن الإله» تعبيراً عن شكل من أشكال الحلول المؤقت الشخصي غير المتكرر في التاريخ (ذلك أن الإله يحل وبشكل مؤقت في الزمان وفي إنسان بعينه فيُصْلَب ويقوم مرة أخرى) فإن الفكر القبَّالي يصل إلى درجة أكثر تطرفاً في الحلول بحيث يصبح الشعب هو الإله ويصل هذا التيار ذروته حين تصبح الدولة الصهيونية ليست ابن الإله، وإنما هي الإله نفسه، العجل الذهبي الجديد.
وقد جاء في سورة التوبة: « وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل » (التوبة ـ 30)، والمعنى هنا أن بعض اليهود هم الذين يؤمنون بأن عزير ابن الله، ونسب ذلك القول إلى اليهود جاء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد، فيُقال فلان يركب الخيول وهو لا يركب إلا واحداً منها، وفلان يجالس السلاطين وهو لا يجالس إلا واحداً. ويقول الشهرستاني صاحب الملل والنحل: إن الصدوقيين هم الذين قالوا ذلك من بين سائر اليهود. ولا ندري مدى صحة ذلك، ولكننا نعرف أن الصدوقيين أنكروا القيامة والبعث وخلود الروح. ويقول المقريزي: إن يهود فلسطين زعموا أن عزير ابن الله، وأنكر أكثر اليهود ذلك.
ومنذ ظهور اليهودية الحاخامية لم يَعُد هناك أثر للإيمان بعقيدة ابن الإله، وإن كان يُشار إلى التوراة باعتبارها «ابنة الإله»، كما أن المشناه كان يُشار إليها باعتبارها «اللوجوس»، أي «الكلمة» التي هي «ابن الرب» في التراث المسيحي.
المسيح (عيسى بن مريم(
Jesus
يُشار إلى المسيح (عيسى بن مريم) بكلمة «يشو» العبرية، ويُشار إليه في التلمود بوصفه «ابن العاهرة»، كما يُشار إلى أنَّ أباه جنديٌّ رومانيٌّ حملت منه مريم العذراء سفاحاً (أما كلمة «ماشيَّح»، فإنها تشير إلى المسيح المخلِّص اليهودي الذي سوف يأتي في آخر الأيام). ويشير التلمود إلى أنَّ صلب المسيح تمَّ بناءً على حكم محكمة حاخامية (السنهدرين) بسبب دعوته اليهود إلى الوثنية، وعدم احترامه لسلطة الحاخامات. وكلُّ المصادر الكلاسيكية اليهودية تتحمَّل المسئولية الكاملة عن ذلك، ولا يُذكَر الرومان بتاتاً في تلك المصادر. وظهرت كتب مثل توليدوت يشو (ميلاد المسيح) وهي أكثر سوءاً من التلمود نفسه وتتهم المسيح بأنَّه ساحر.
واسم المسيح نفسه (يشو) اسم مقيت. ولكن يُفسَّر على أنَّه كلمة مركَّبة من الحروف الأولى لكلمات أخرى (على نظام النوطيرقون) لعبارة معناها «ليفن اسمه ولتفن ذكراه». وقد أصبحت الكلمة عبارة قدح في العبرية الحديثة، فيُقال «ناصر يشو»، وهي تساوي «ليفن اسم ناصر، ولتفن ذكراه» وهكذا. ولا تساوي اليهودية الحاخامية المسيحية بالإسلام، فهي تعتبر أن المسيحية شرك ووثنية، ولكنها لا ترى أن الإسلام كذلك.
توليدوت يشُّو
Toledot Yeshu
«توليدوت يشُّو» عبارة عبرية تعني «حياة المسيح» وهي عنوان كتاب كان متداولاً بين أعضاء الجماعات اليهودية في العصور الوسطى في الغرب. ويُقدِّم هذا الكتاب التصور اليهودي لمولد وحياة المسيح. وقد تداخلت عدة عناصر لتكوِّن هذه الصورة من بينها بعض أقسام التلمود (سوطه أو المرأة المشبوهة ـ السنهدرين) وبعض الفتاوى في عصر الفقهاء (جاؤون)، وبعض العناصر الفلكلورية المنتشرة بين أعضاء الجماعات اليهودية. ويُقدِّم الكتاب أحياناً صورة إيجابية إلى حدٍّ ما للعذراء مريم أم المسيح، فهي من عائلة طيبة وتعود جذورها لبيت داود، أما أبو المسيح فهو رجل شرير قام باغتصابها ثم هرب.
وتُبيِّن القصة أن المسيح شخص يتمتع بذكاء عال ولكنه لا يحترم شيوخ البلد وحكماءها. وهو يتمتع بمقدرات عجائبية لأنه سرق أحد الأسماء السرية للإله من الهيكل، ومع هذا ينجح أحد فقهاء اليهود في إبطال سره، وتوجد تفاصيل أخرى في الكتاب أكثر بشاعة وقبحاً.

علي العذاري
11-08-2011, 02:41 PM
ويهدف الكتاب إلى تفريغ قصة المسيح من أي معنى روحي، كما أنها تحاول تفسير المعجزات التي تدور حول المسيح بطريقة تكشفها وتنزع عنها أيَّ سحر أو جلال أو هالات دينية. وهذا الكتاب يُسبِّب كثيراً من الحرج للجماعات اليهودية حينما تكتشف السلطات أمره. ولذا كان بعض الحاخامات يحرصون على تأكيد أن يسوع المشار إليه في الكتاب ليس المسيح وإنما هو شخص يحمل هذا الاسم عاش قرنين قبل الميلاد. وقد أُعيد طبع كتاب توليدوت يشو على نطاق واسع في إسرائيل.
تهويد المسيحية
Judaization of Christianty
«تهويد المسيحية» اصطلاح يشير إلى عمليات تحول بنيوية بدأت تدخل المسيحية منذ الإصلاح الديني وتبدَّت في المسيحية البروتستانتية. وجوهر التهود انتقال الحلول الإلهي من الكنيسة إلى الشعب.
وقد نتج عن ذلك زيادة الاهتمام بالعهد القديم وانتشار الحركات الصوفية الحلولية بين المسيحيين والقبَّالاه المسيحية. (انظر أيضاً: «البروتستانتية والإصلاح الديني»).
التراث اليهودي المسيحي
Judeo-Christian Tradition
«التراث اليهودي المسيحي» مصطلح ازداد شيوعاً في العالم الغربي في الآونة الأخيرة، وهو يعني أن ثمة تراثاً مشتركاً بين اليهودية والمسيحية، وأنهما يكوِّنان كلاًّ واحداً. وهو ادعاء له ما يسانده داخل النسق الديني المسيحي وإن كان لا يعبِّر عن الصورة الكلية إذ أن مصطلح «التراث اليهودي المسيحي» يتجاهل حقائق دينية أساسية:
1 ـ هناك الاختلافات الأساسية الواضحة مثل الإيمان بالتثليث في المسيحية والإيمان بوحدانية الإله في اليهودية. والشيء نفسه ينطبق على موقف كلتا العقيدتين من تجسيم الإله وتصويره وتشبيهه بالبشر، إذ أن العقيدة المسيحية تقبله (وهنا لابد أن نشير إلى طبيعة اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي). ولذا، فبرغم تأكيد التوحيد وعدم التشبيه والتجسيم على مستوى من المستويات، فإن ثمة سقوطاً في الحلولية المتطرفة التي تؤدي باليهودية إلى الشرك والتجسيم والتشبيه إلى درجات متطرفة لا تعرفها المسيحية نفسها. كما أن موقف اليهودية والمسيحية من الخطيئة مختلف بشكل جوهري، فالمسيحية تؤمن بأن الإنسان ساقط بسبب الخطيئة الأولى. أما اليهودية، فلا تؤمن بالخطيئة الأولى. ولذا، فإن أداء الشعائر، واتباع الأوامر والنواهي، كافيان لخلاص الإنسان.
2 ـ وثمة خلافات بين العقيدتين حول فكرة المسيح، فبينما ترى اليهودية المسيح (أي الماشيَّح) باعتباره شخصية سياسية قومية سيقود شعبه إلى صهيون ويعيد بناء الهيكل ويؤسس المملكة اليهودية مرة أخرى، فإن المسيح في المسيحية إله إنسان مهمته خلاص كل البشرية لا الشعب اليهودي وحسب.
3 ـ تُعدُّ قضية صلب المسيح قضية أساسية ونقطة خلاف رئيسية. فمن المعروف أن كل أمة أو مجموعة عرْقية أو دينية تدَّعي أنها مدينة بوجودها لشكل من أشكال التضحية والفداء الرمزي، أو الفعلي الذي يكتسب مكانة رمزية ويصبح بمنزلة الركيزة النهائية للنسق ولحظة التأسيس. وحادثة الصلب في المسيحية هي هذه اللحظة، حين نزل ابن الإله إلى الأرض وارتضى لنفسه أن يُصلَب، وكان فعله هذا الفداء الأكبر. ولحظة الصلب هذه ليست لحظة زمنية، رغم حدوثها في الزمان، ولا ترتبط بفترة تاريخية معينة رغم وقوعها في التاريخ، فهي كونية، وفي احتفالات الجمعة الحزينة يحاول المسيحي المؤمن أن يستعيد ألم المسيح، هذه الواقعة الكونية التي لا يمكن أن تنافس واقعة أخرى. واليهود عنصر أساسي في حادثة الصلب، فحاخاماتهم هم الذين حاكموا المسيح وهم الذين أصروا على صلبه، فهم قتلة الرب، الذين يقتلونه دائماً، بإنكارهم إياه.
ورغم المحاولات العديدة، المسيحية واليهودية، لتغيير هذه البنية الرمزية للوجدان المسيحي، فإن مثل هذه المحاولات لا تُكلَّل بالنجاح نظراً لأن المجال الرمزي مجال إستراتيجي يتسم بقدر من الثبات. ولذا فكثيراً ما تنشب الصراعات فجأة وبلا مقدمات حين يقوم بعض المسيحيين بتمثيل بعض المسرحيات الدينية التي تبرز الرموز المسيحية وتسقط على اليهودي دور قاتل الرب. وقد نشب صراع حول أوشفيتس كان في جوهره صراعاً حول الرموز ومعناها. فحادثة الإبادة، أصبحت في الوجدان اليهودي لا تختلف عن حادثة الصلب في الوجدان المسيحي. ولذا حين أقامت بعض الراهبات الكرمليات ديراً في هذا المعتقل لإقامة الصلاة على الضحايا من أي عرْق أو دين أو جنسية اعترض ممثلو أعضاء الجماعات اليهودية، لأن هذا يعني فرض لحظة الصلب المسيحية، على لحظة الصلب اليهودية!
4 ـ ثمة رأي داخل المسيحية يقول بأن العهد الجديد لم ينسخ العهد القديم، ولكنه مع هذا حل محله وتجاوزه. ومع أن الكنيسة لم تستبعد العهد القديم (وقد كان مارسيون وبعض الغنوصيين يجاهرون بأن إله العهد القديم إله غيور، على حين أن إله العهد الجديد إله رحيم)، فإن الإيمان المسيحي يستند إلى أن الشريعة (أو القانون) قد تحققت من خلال المسيح وتم تجاوزها، وأن الرحمة الإلهية والإيمان بالمسيح وسيلة للخلاص حلت محل الشريعة والأوامر والنواهي، ومن ثم كان رفض الشعائر الخاصة بالطعام والختان التي تَمسَّك بها اليهود. وقد ذهب المسيحيون إلى أن اليهودية دين الظاهر والتفسير الحرفي دون إدراك المعنى الداخلي أو الباطن، وأن الكنيسة هي يسرائيل فيروس، أي يسرائيل الحقيقية، وأنها يسرائيل الروحية (حسب الروح)، أما اليهود فهم يسرائيل الزائفة الجسدية التي لا تدرك مغزى رسالتها. وبالتالي، فَقَد اليهود دورهم، وأصبحت اليهودية ديانة متدنية بالنسبة إلى المسيحيين، ووصف اليهود بأنه شعب يحمل كتباً ذكية ولكنه لا يفقه معنى ما يحمل.
5 ـ لكل هذا، أعادت الكنيسة تفسير العهد القديم بحيث اكتسب مدلولاً جديداً مختلفاً تماماً عن مدلوله عند اليهود الذين استمروا في شرحه وتفسيره على طريقتهم، وفهمه فهماً حرفياً وحلولياً وقومياً. ومن ثم اختلف النسق الديني اليهودي عن النسق الديني المسيحي. ومن أهم أشكال الاختلاف أن المسيحية أصبحت ديناً عالمياً، باب الهداية فيه مفتوح للجميع (وهذا أمر متوقع بعد أن خففت المسيحية من حدة وتطرف الحلولية اليهودية بحصرها الحلول الإلهي في المسيح واعتبار الكنيسة جسد المسيح)، على عكس اليهودية التي ظلت ديناً حلولياً مغلقاً مقصوراً على شعب أو عرْق بعينه يظل وحده موضع الحلول الإلهي. ثم تَعمَّق الاختلاف بحيث أصبحت للمسيحيين رؤية مختلفة تماماً عن رؤية اليهودية.
6 ـ وقد تبدَّى كل هذا في شكل صراع تاريخي حقيقي، فقد رفض اليهود المسيح (عيسى بن مريم) ولا يزالون يرفضونه. ويلوم الآباء المسيحيون الأوائل اليهود باعتبارهم مسئولين عما حاق بالمسيحيين الأولين من اضطهاد، وأنهم هم الذين كانوا يهيجون الرومان ضد المسيحيين ويلعنون المسيحيين في المعابد اليهودية، وأنهم هم المسئولون في نهاية الأمر عن صلب المسيح. وهم يرون أن هدم الهيكل وتشتيتهم هو العقاب الإلهي الذي حاق بهم على ما اقترفوه من ذنوب (وتشكِّل معاداة اليهود، باعتبارهم قتلة الرب، جزءاً أساسياً وجوهرياً من التراث الفني الديني المسيحي من موسيقى ورسم ومسرحيات).
وقد استمر الصراع إلى أن تغلبت المسيحية في نهاية الأمر على اليهودية، وانتشرت بين جماهير الإمبراطورية الرومانية. واستمر من تَبقَّى من اليهود في الإيمان باليهودية ويعبِّرون عن رأيهم، في كتب مثل التلمود والقبَّالاه، يتحدثون عن المسيح والمسيحيين بنبرة سلبية وعنصرية للغاية.
وقد تَحدَّد موقف الكنيسة من اليهود في مفهوم الشعب الشاهد، وهو أن اليهود هم الشعب الذي أنكر المسيح الذي أرسل إليهم، وهم لهذا قد تشتتوا عقاباً لهم على ما اقترفوه من ذنوب. ولكن رفض اليهود للمسيح سر من الأسرار. فاليهود في ضعفهم وذلتهم وتشرُّدهم يقفون شاهداً على عظمة الكنيسة، أي أن اليهود بعنادهم تحولوا إلى أداة لنشر المسيحية.
ومن ثم، يمكننا أن نقول إن العلاقة بين اليهودية والمسيحية علاقة عدائية متوترة إلى أقصى حد، ولكن مصطلح «التراث اليهودي المسيحي» يزداد مع هذا شيوعاً، وخصوصاً في الأوساط البروتستانتية واليهودية الإصلاحية وأحياناً المحافظة، أما اليهود الأرثوذكس فيرفضونه. وقد يكون قبول المصطلح من هذه الفرق تعبيراً عن عودة الحلولية داخل هذه الأنساق الدينية. ويمكن العودة إلى مداخل «القبَّالاه» حيث نبيِّن أنه بهيمنة القبَّالاه على اليهودية استولى عليها نسق حلولي كموني، عبَّر عن نفسه في بداية الأمر في هيئة انفجارات مشيحانية (شبتاي تسفي) وفلسفات علمانية حلولية (إسبينوزا) ثم فلسفات حلولية ربوبية (موسى مندلسون) وأخيراً على هيئة «اليهودية الإصلاحية» و«اليهودية المحافظة» و«اليهودية التجديدية» (انظر أيضاً: «الحلولية والتوحيد والعلمنة: حالة اليهودية [أطروحة ماكس فيبر وبيتر برجر]»). وبإمكان القارئ أن يعود إلى مدخل «البروتستانتية (القرن السادس عشر والسابع عشر)» ومدخل «عصر النهضة (القرن السادس عشر والسابع عشر)» حيث نبيِّن تصاعد الحلولية داخل النسق الديني المسيحي. فبدلاً من المفهوم الكاثوليكي للحلول (حلول مؤقت في شخص واحد ومنته ترثه الكنيسة كمؤسسة) تظهر فكرة الحلول البروتستانتية حيث ينتقل الحلول من مؤسسة الكنيسة إلى الشعب أو الفرد أو الجميع وهو حلول دائم، وهو في تصوُّرنا شكل من أشكال تهويد المسيحية. وفي الواقع فإن تزايد قبول المصطلح يعبِّر أيضاً عن تزايد علمنة الدين في الغرب (وثمة ترابط بين تزايد معدلات الحلولية ومعدلات العلمنة) بحيث يمكن الوصول إلى صيغ توفيقية تُفقد العقائد كثيراً من أبعادها وخصوصيتها، وهذا هو جوهر التسامح العلماني: أن يتخلى الجميع عن هويتهم ويلتقوا على مستوى علماني ويتوحدوا في هوية علمانية واحدة. وقد وصف أحد الباحثين التراث اليهودي المسيحي بأنه تعبير جديد عن الاتجاهات الربوبية في المجتمع
الغربي التي تؤكد العناصر الأخلاقية المشتركة بين البشر وبعض افتراضاتهم الأخلاقية دون الإيمان بإله شخصي يرسل بالوحي (مع إسقاط أهمية الشعائر بسبب خصوصيتها). ولعل عملية العلمنة هذه هي نفسها ما يُطلَق عليه «عملية التهويد» (وقد استخدم ماركس كلمة «تهويد» بهذا المعنى حين تَحدَّث عن انتشار الرأسمالية في المجتمع باعتباره عملية «تهويد»، فجعل كلمة «اليهودية» مرادفة لكلمة «الرأسمالية«).
وفي الوقت الحاضر تختلف المواقف المسيحية من الصهيونية وإسرائيل وتتباين، وإن كانت كلها تميل الآن نحو قبول الدولة الصهيونية والاعتراف بها. وتوجد نزعة صهيونية /معادية لليهود تسري في عقائد بعض الكنائس البروتستانتية المتطرفة (انظر: «شهود يهوه» ـ «المورمون» ـ «فرسان الهيكل»). وحتى عام 1964 كانت الكنيسة الكاثوليكية تؤكد أن اليهود هم المسئولون عن دم عيسى. وكانت المؤسسة الصهيونية بدورها تتهم الفاتيكان بأنه وقف متفرجاً على مذابح اليهود وإبادتهم على أيدي هتلر. وبالتدريج اختلف موقف الفاتيكان حتى اعترفت بالدولة الصهيونية في ديسمبر 1994، ومع هذا يؤكد المتحدثون باسم الفاتيكان بأن الاعتراف بالدولة الصهيونية لا علاقة له بالعقائد المسيحية.
الارتداد (خصوصاً التنصر(
( Apostasy (especially Conversion to Christianty
«الارتداد» بالعبرية «مينوت» من كلمة «مين» التي تعني «كُفْر» و«زندقة» مصطلح يطلقه أتباع أي دين على من يترك هذا الدين. ولا يتحدث العهد القديم قط عن أشخاص ارتدُّوا عن اليهودية (عبادة يسرائيل)، وإنما يتحدث عن سقوط الشعب، أو قطاعات كبيرة منه، في الوثنية (حادثة العجل الذهبي والحوادث الأخرى المشابهة في تاريخ الملوك العبرانيين). وقد كان معظم جهد الأنبياء موجهاً للحرب ضد هذا الابتعاد عن التوحيد، أي السقوط في الشرك والوثنية والارتداد عن عبادة يهوه.
ويُلاحَظ أن «الارتداد» هنا كان يحمل أحياناً معنى الخيانة القومية باعتبار أن كل إله كان مقصوراً على شعب واحد بعينه ويحل فيه. ولم يُطبَّق مصطلح «الارتداد» في اليهودية إلا ابتداءً من العصر الهيليني، فقبل ذلك الوقت لم تكن اليهودية قد تحددت معالمها تماماً، ولم يكن الكتاب المقدَّس قد تم تدوينه بأكمله. ومع هذا، يجب أن نشير إلى عدة سمات في اليهودية تجعل لفظ «مرتد» دالاً غير مستقر الدلالة عبر تاريخها الطويل يجعل استخدامه صعباً:
1 ـ اليهودية، كنسق ديني، له طابع جيولوجي تراكمي تتعايش داخله طبقات متباينة. وقد كان الصدوقيون ينكرون البعث حتى آخر العصر الهيليني، وهم القيادة الكهنوتية. وقد ظلت الأفكار اليهودية الأخروية غير مستقرة بصورة غير محدَّدة.
2 ـ لم تُحدِّد اليهودية العقائد الأساسية الملزمة لليهودي، ولم تضع أصولاً للدين. ولعل أول محاولة جادة هي محاولة موسى بن ميمون في القرن الحادي عشر، وهي محاولة تقبَّلتها اليهودية وحوَّلتها إلى طبقة جيولوجية أخرى تراكمت على ما قبلها من طبقات، دون أن تلغي ما قبلها ودون أن تمنع تكوُّن طبقات أخرى بعدها.
3- عرَّفت الشريعة اليهودية اليهودي بأنه « من وُلد لأم يهودية »، وإن ارتد اليهودي عن دينه فإنه يظل يهودياً.
لذا، ظل اصطلاح «مرتد» غير مستقر. ومع هذا، يُلاحَظ أن المصطلح بدأ يتواتر ابتداءً من العصر الهيليني. ولكنه ظل ذا بُعْد إثني، بمعنى أن المرتد ليس من ترك دينه وإنما من ترك قومه. وهذا أمر مفهوم في الإطار الحلولي، حيث يحل الإله في الشعب تماماً، ويصبح الشعب موضع القداسة ومصدر المطلقية. ولذا، فإننا نجد إشارة إلى اليهود المتأغرقين في أيام أنطيوخوس الرابع (القرن الثاني قبل الميلاد) باعتبارهم «مرتدين» حرضوا على اضطهاد السلوقيين لليهود. وفي الواقع، فإن العبارة تحمل معنى الارتداد عن الدين وتحمل في الوقت نفسه معنى الخيانة القومية (ولعل استخدام لفظ «يورديم» العبري بمعنى «المرتدين» للإشارة للإسرائيليين الذين يهاجرون من أرض الميعاد هو بعث لهذا المعنى). ومن المعروف أن التمرد الحشموني بدأ حين قام الكاهن ماثياس بذبح

علي العذاري
11-08-2011, 02:45 PM
«المرتد». وثمة إشارة أخرى إلى مريم (من بيت بيلجا) التي ارتدت وتزوجت أحد موظفي القصر الملكي، وحينما دخل السلوقيون الهيكل دخلت معهم وخربت المذبح بيدها « لأن الإله هجر شعبه». ومن الواضح أن موقف مريم من الإله موقف عملي وثني. ومن أشهر المرتدين تايبريوس يوليوس ألكسندر أحد قادة جيش تيتوس حين قام بحصار القدس وهدم الهيكل الثاني. ومن أهم المرتدين العَالم الديني أليشاه بن أبوياه، الذي أصبح، فيما بعد (في كتابات ليلينبلوم وغيره من دعاة التنوير).
ومع ظهور كلٌّ من المسيحية والإسلام، اختلف الوضع تماماً، إذ لم تَعُد اليهودية ديانة توحيدية في محيط وثني بل أصبحت ديانة توحيدية في محيط توحيدي يرى الخالق باعتباره القوة الكامنة وراء الطبيعة والتاريخ المتجاوزة لهما.
وقد أسلم عدد من يهود الجزيرة العربية، مثل: عبد الله بن سلام، وعبد الله بن سبأ، وكعب الأحبار. ويبدو أن أعداداً كبيرة من اليهود، وخصوصاً في العراق، اعتنقت الإسلام، ويُقال إن كثيراً من الإسرائيليات دخلت الإسلام من خلالهم. وقد حكم علاقة الإسلام باليهود مفهوم أهل الذمة الذي لا يُحرِّم الدعوة إلى الإسلام بينهم، وإن كان يحرم فرض الإسلام عليهم عنوة. وتجب ملاحظة أن انتقال اليهودي من اليهودية إلى الإسلام لم يكن يشكل صعوبة بالغة في الماضي، لأن العنصر التوحيدي في اليهودية كان لا يزال قوياً، ولذلك فإن الرموز الإسلامية لم تكن غريبة عليه، على عكس الرموز المسيحية (الصليب والتثليث)، وخصوصاً أن لحم الخنزير، رمز الدنس عند اليهود، مُحرَّم في الإسلام. ولا يساوي الشرع اليهودي بين اليهودي الذي يعتنق الإسلام واليهودي الذي يعتنق المسيحية، إذ يضع الأول في منزلة أعلى باعتبار أنه لم يشرك، أما المسيحية فقد وصفها بأنها شكل من أشكال الشرك. ورغم عدم وجود إحصاءات أو دراسات في الموضوع، فإننا نميل إلى القول بأن عدم تزايد عدد يهود العالم الإسلامي يعود إلى أن الكثيرين منهم اعتنقوا الإسلام. كما نعتقد أن الحركة القرّائية لعبت دوراً أساسياً في هذا الاتجاه، إذ صبغت اليهودية ببعض السمات الإسلامية إلى حدٍّ ما، وهو اتجاه تَعمَّق على المستوى الفكري في كتابات موسى بن ميمون حين طرح أصول اليهودية بشكل يجعلها لا تختلف، في كثير من أساسياتها، عن أصول الدين الإسلامي. وقد حاول ابنه من بعده (في القاهرة) أن يصبغ الشعائر اليهودية بالصبغة الإسلامية وأن يُقرِّبها من الشعائر الإسلامية. وفي تاريخ المسلمين، هناك حالات فُرض فيها الإسلام على اليهود عنوة. ولكن تيار التحول إلى الإسلام تراجَع ولا شك مع تراجُع الدولة الإسلامية نفسها ومع انتقال مركز اليهودية إلى أوربا المسيحية.
أما علاقة اليهودية بالمسيحية، فهي علاقة متوترة للغاية، وثمة عناصر مشتركة كثيرة بين الديانتين أشرنا إليها في مدخل «تنصير اليهودية». وقد ظهرت المسيحية في وقت كانت فيه أعداد كبيرة من اليهود قد تأغرقت وبعُدت عن المركز الديني في القدس بهيكلها، كما أن اليهود المتأغرقين كانوا يعرفون الترجمة السبعينية التي تبنتها الكنيسة ككتاب مقدَّس. وقد أشارت الترجمة السبعينية إلى يهوه باعتباره رب العالمين، أي أنها ترجمة ابتعدت عن الإطار الحلولي. وكان التفكير الديني اليهودي قد بدأ يتخلص من كثير من حدوده الضيقة على يد فيلون الذي كان قد طوَّر مفهوم اللوجوس (الذي تبنته المسيحية فيما بعد وأصبح جزءاً من ثالوثها).
ويبدو أن الحُمَّى المشيحانية آنذاك كانت قد تصاعدت بين اليهود في فلسطين، وهي الحُمَّى التي اندلعت على هيئة التمرد اليهودي الأول ضد روما وانتهى بتحطيم الهيكل عام 70 ميلادية فكان بمثابة ضربة قاضية لليهودية. ولكل هذه الأسباب، تنصَّر كثير من اليهود. لكن هذه الجماعات كانت جماعات مسيحية يهودية أو يهودية مسيحية، بمعنى أنها كانت جماعات من اليهود تؤمن بالمسيح عيسى بن مريم، مثل الأبيونيين، كما كانت ترى أن المسيح نبي وليس الكريستوس أو الماشيَّح. وكان بعضهم يرى أنه الماشيَّح، ولكنهم رفضوا الاعتراف بألوهيته وبنوته للرب كما أنكروا مفهوم التثليث وأن الشريعة اليهودية قد تم نسخها. وقد ظلت هذه الفرق قائمة إلى أن انفصلت تماماً عن اليهودية، وخصوصاً بعد أن أدخل الحاخامات في الثمانية عشر دعاء (شمونة عسريه - وهي أهم أجزاء الصلاة اليهودية) الدعاء الثاني عشر الذي يشير إلى المينيم (الكفرة) ويلعنهم. وكان الهدف من إدخال هذا الدعاء منع المسيحيين اليهود من المشاركة في الصلاة. والواقع أنه لا يمكن تفسير نقصان عدد اليهود في العالم من سبعة ملايين في القرن الأول الميلادي إلى أقل من مليون في بداية العصور الوسطى (في الغرب) إلا بتنصر أعداد هائلة منهم.
وقد بلورت الكنيسة موقفها في مفهوم الشعب الشاهد الذي يقرر أن التنصر لابد أن يتم بكامل حرية اليهودي. ولذا، فحينما كانت تحدث مذابح تؤدي إلى تنصر بعض اليهود، فإن السلطات كانت تسمح لهم بالعودة إلى دينهم. ومع هذا، كانت هناك أعداد كبيرة من اليهود تتنصر مع بدايات العصور الوسطى لأسباب عدة: روحية (مثل الإعجاب بالمسيحية)، ومادية (مثل الرغبة في الثروة أو الحراك الاجتماعي أو الخوف من السلطة). ولا توجد إحصاءات عن عدد المتنصرين، ولكن يبدو أن أعداد المتنصرين في إسبانيا المسيحية كانت عالية للغاية، خصوصاً بين أعضاء النخبة. والواقع أن يهود إسبانيا تنصروا بكامل حريتهم، نظراً لأنهم كانوا مندمجين أصلاً في المحيط الحضاري الإسباني الكاثوليكي، ونظراً لتآكل اليهودية بين أعضاء النخبة. بل ذهب بعض الحاخامات إلى القول بأن طرد اليهود من إسبانيا هو عقاب لهم على تَرْكهم للدين وعلى ارتداد نخبتهم. وقد ظهرت العقيدة الاسترجاعية في عصر النهضة والإصلاح الديني. وهي عقيدة تذهب إلى أن الخلاص لن يتم إلا بجمع شمل اليهود في فلسطين بعودتهم إليها، ثم تنصيرهم. وأصبحت العودة والتنصير من علامات الساعة. وهذا يفسر إبهام الموقف البروتستانتي من اليهود حيث ينحو منحى صهيونياً ويتخذ موقفاً معادياً لليهود في آن واحد. وقد قام يهود المارانو بدور حاسم في عملية تنصير اليهودية،فقد أشاعوا القبَّالاه (وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية) المتأثرة بالمسيحية لدرجة أن أتباع أبي العافية تنصروا لاكتشافهم الشبه بين نسقه الفكري والمسيحية،كما أن كثيراً منهم كانوا مسيحيين صادقين في إيمانهم،وفُرضت عليهم اليهودية فرضاً بسبب غباء محاكم التفتيش وعنصريتها.ولذا،فإنهم كانوا يفكرون من خلال إطار مسيحي كاثوليكي.وحتى أولئك اليهود المتخفون الذين احتفظوا بيهوديتهم سراً،أصبح إطارهم المفاهيمي كاثوليكياً. فهم، على سبيل المثال، كانوا يؤمنون بالقديسة «سانت إستير»، بل
إن بعض شعائرهم تأثرت بالشعائر المسيحية. وقد تأثر كثير من يهود اليديشية بالجو المسيحي السلافي الصوفي حولهم، وبخاصة هؤلاء الذين كانوا يعيشون بعيداً عن مراكز الدراسات التلمودية في المدن الكبرى.
وكان كثير من المرتدين عن اليهودية يتحولون إلى أعداء شرسين لدينهم ولبني جلدتهم، فكانوا يحرضون الكنيسة عليهم ويكشفون لهم مواطن التعصب في العقيدة اليهودية التي يحرص اليهود على إخفائها.
هكذا كان وضع اليهودية حتى ظهرت الحركات الشبتانية، وأهمها من منظور هذا المدخل الحركة الفرانكية التي كان لها ثالوثها الواضح وإيمانها بالتجسد. وقد انتهى الأمر بأعضاء هذه الحركة إلى أن تنصروا بشكل جماعي ودخلوا الكنيسة الكاثوليكية.
ومع ظهور حركة الاستنارة والتنوير، تغيَّر الموقف في أوربا، فلم يَعُد هناك ضغط مباشر على اليهود ليتنصروا، ولكن ظهر نوع آخر من الضغط هو التسامح نحوهم. وكانت اليهودية الحاخامية قد دخلت مرحلة أزمتها وتكلست، فلم تَعُد تزود اليهودي بالإجابات عن الأسئلة الكونية التي تواجهه، كما لم يكن بوسعها أن تشفي غليله الديني. كما أن تأكيدها على الشعائر، جعل من الصعب على كثير من اليهود أن يقيموا هذه الشعائر ويحتفظوا بإنسانيتهم في آن واحد. ومن ناحية أخرى، فإن ثراء الحضارة الغربية، قياساً إلى الفقر الحضاري الشديد داخل الجيتو، جعل منها نقطة جذب قوية. وقد بدأت، داخل اليهودية في ألمانيا، حركة إصلاح على نمط حركة الإصلاح الديني البروتستانتي، فعُدِّلت بعض الشعائر، وأُلغي بعضها الآخر. ولكن، حينما أُنجزت هذه العملية، لم يبق سوى هيكل جاف من العقائد العامة لا يختلف في كثير من أساسياته عن العقائد المسيحية الأساسية. ويمكن أن نضيف إلى كل هذا دافع الرغبة في الحراك الاجتماعي، فالتنصر (على حد قول هايني) تذكرة الدخول إلى الحضارة الغربية. ولهذا، فإن كثيراً من أعضاء النخبة والقيادات اليهودية كانوا قد اندمجوا في محيطهم الحضاري الغربي. ولكل هذا، كان من المتوقع أن يتنصر اليهود بأعداد كبيرة. وهذا ما حدث بالفعل، حيث يذكر جرايتز أن نصف يهود برلين قد تنصروا في أواخر القرن الثامن عشر. ونحن نعرف أن أعضاء أسرة موسى مندلسون تنصروا جميعاً، وتنصر كثير من أعضاء أسرة فرايدلندر (الذي اقترح تنصيراً جماعياً لليهود). وقد بدأ هرتزل أحلامه الصهيونية، في تخليص أوربا من يهودها، باقتراح تنصيرهم كما تنصر معظم أولاده. ومن أهم اليهود الذين تنصروا: هايني، ووالد كارل ماركس، ووالد بنجامين دزرائيلي. كما تنصَّر كثير من يهود روسيا، وخصوصاً هؤلاء الذين تم تجنيدهم في سن مبكرة. وكان من المتوقع أن يزيد عدد المتنصرين، لكن ظهور النظريات العرْقية أوقف
هذه العملية لأن اليهودي الذي يتنصر يمكنه أن يهرب من هويته ويغيرها حسب التعريف الديني، أما النظريات العرْقية فتجعل الانتماء مسألة ميراث عرْقي، وبالتالي تصبح الهوية مسألة بيولوجية ولا يُجدي فيها التنصُّر فتيلاً.
وفيما يلي، إحصاءٌ بعدد المتنصرين في القرن التاسع عشر والبالغ 204.542 :
آسيا وأفريقيا / 600
أستراليا / 200
النمسا / المجر / 44.756
فرنسا / 2400
ألمانيا / 22.520
بريطانيا العظمى / 28.830
هولندا / 1.800
إيطاليا 300 /
أمريكا الشمالية / 13.000
السويد والنرويج / 500
رومانيا 1.500 /
روسيا / 48.536
تركيا / 3.300
ويميل كثير من الدارسين إلى القول بأن هذا العدد أقل من العدد الحقيقي بسبب صعوبة جمع الإحصاءات الدقيقة بالنسبة لموضوع مثل هذا. فالمتنصر يفضل ألا يجاهر بموقفه لاعتبارات اجتماعية عديدة. ولعل أصدق مثل على هذا ما حدث للوزير الإسرائيلي موشيه أرينز حينما مات أخوه في ولاية كونتيكت في الولايات المتحدة. فقد ذهب ليحضر جنازته، فإذا به يكتشف أنه كان تنصر. فامتنع أرينز عن حضور جنازته (هذا هو الموقف اليهودي التقليدي. وفي أحيان أخرى، كانت تُقام مراسم الدفن للمتهود فور تهوده).
وابتداءً من القرن التاسع عشر، كان كثير من اليهود المتنصرين يدخلون في الدين الجديد ولا يشغلون بالهم بالعقيدة القديمة. ولكن البعض الآخر كان يتخذ موقفاً متحيزاً، إما مع دينهم القديم أو ضده. ولكن يبدو أن النمط الأول كان هو الأغلب.
ومن نمط المتحيزين ضد الدين القديم، فلهلم مار الذي قام بسك مصطلح «معاداة السامية» الغربي، أي «معاداة اليهود». ويُقال إن كثيراً من أعداء اليهود، ومنهم أيخمان وهتلر، تجري في عروقهم دماء يهودية. لكن العداء لا يتخذ بالضرورة مثل هذا الشكل الشرس، فالروائي الروسي بوريس باسترناك رفض اليهودية بسبب فكرة الشعب اليهودي، ودعا اليهود إلى التنصر ليصبحوا أفراداً بدلاً من أن يظلوا شعباً. أما الأخ دانيال (أوزوالد روفايزين) اليهودي الذي تنصر وأصبح راهباً كاثوليكياً، فقد أصر على انتمائه للشعب اليهودي وطلب الجنسية بناء على قانون العودة (لكن طلبه رُفض). وبطبيعة الحال، فإن المرتدين يثيرون قضية الهوية بكل حدة.
ومع هذا، فإن اليهود المتنصرين والمرتدين قد ينقلون معهم، وبشكل غير واع، أفكارهم اليهودية الحلولية التي تشكل بصورة محددة إطاراً معرفياً كامناً، وهذا ما حدث مع كل من إسبينوزا وكافكا وفرويد. بل حدث الشيء نفسه مع ماركس بنزعته المشيحانية (تماماً كما حدث في صدر الإسلام مع اليهود الذين أسلموا وأدخلوا الإسرائيليات).
ومع تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي، لم يعد من الضروري اعتناق دين ما، وأصبح بوسع اليهودي أن يرفض يهوديته دون أن يعتنق ديناً آخر، على طريقة إسبينوزا، ومن هنا تأتي زيادة عدد اليهود الإثنيين واليهود الملحدين وتناقص عدد اليهود المتنصرين. وحالياً يتنصر اليهود، في الغالب، بسبب الزواج المختلط. كما أن بعض اليهود، ممن يكابدون عطشاً دينياً ويشعرون بأزمة المعنى، يجدون إجابة عن أسئلتهم في العقيدة المسيحية (كما حدث في حالة سكرتيرة هايدجر التي اعتنقت المسيحية وأصبحت راهبة وأحرقها النازيون بسبب إيمانها الديني). وقد طرحت الكنائس المسيحية إطاراً جديداً يُسهِّل على اليهود عملية التنصر، فأصبح بإمكان اليهودي أن يتنصر دون الإيمان بألوهية المسيح (فيمكنهم اعتباره الماشيَّح). ولعل هذا سر نجاح جماعة الموحداينة (بالإنجليزية: يونيتريان Unitarian)، وهي جماعة مسيحية ربوبية تؤمن بوجود الإله الواحد المتجاوز دون تثليث، ولا تهتم بالشعائر ولا بالوحي. وهناك جماعة تُدعَى «اليهود من أجل المسيح»، وهي من أنشط الجماعات التبشيرية المسيحية التي تحاول أن تنشر المسيحية بين اليهود بهذه الطريقة.
ويبدو أن هناك بُعْداً مسيحياً قوياً في يهودية الفلاشاه، فهم يتعبدون باللغة الجعزية (لغة الكنيسة القبطية في إثيوبيا) ولديهم رهبان، كما أن حاخاماتهم يسمَّون «قسيم» (صيغة جمع عبرية لكلمة «قسيس»)، وكذلك يضم كتابهم المقدَّس أجزاءً من العهد الجديد. ولذا، فقد نصحهم مندوب الوكالة اليهودية عام 1973 بأن يحلوا مسألتهم اليهودية عن طريق التنصر! وقد تنصرت أعداد كبيرة منهم منذ القرن التاسع عشر، ويُسمَّى المتنصرون «الفلاشاه موراه».
وقد كان التنصر من أكثر أسباب موت الشعب اليهودي في الماضي، وهو لا يزال عنصراً قوياً يساهم في عملية موت الشعب اليهودي في الوقت الحاضر، لكن أهميته قد تناقصت بسبب تزايد معدلات العلمنة.
التنصر
Conversion to Christianty
انظر: «التبشير باليهودية والتهود والتهويد» ـ «الارتداد (خصوصاً التنصُّر( ».
نيكولاس دونين )القرن الثالث عشر(
Niclolas Donin
عالم وفقيه فرنسي يهودي درس في إحدى الأكاديميات في باريس، ولكن أستاذه طرده بسبب هرطقته القرّائية ورفضه الشريعة الشفوية. تنصر وانضم للرهبان الفرنسيسكان ثم كتب قائمة تضم تسعة وثلاثين اتهاماً ضد التلمود كان من أهمها أن التلموديين يذهبون إلى أن الشريعة الشفوية أكثر أهمية من الشريعة المكتوبة، وإلى أن التلمود يخلع الصفات البشرية على الإله وإلى أنه مليء بالهجوم القبيح على المسيح ومريم (وكلها « اتهامات » حقيقية). وفي عام 1240،عُقدت إحدى المناظرات الأساسية عن التلمود بإيعاز من دونين حضرها هو نفسه كما حضرها اثنان من أساتذته في الأكاديمية التي طُرد منها، وكانت نتيجة المناظرة أن صدر أمر بحرق التلمود.
ويبدو أن دونين كان عقلانياً غير عنصري في هجومه على اليهودية. ولذا، وانطلاقاً من رؤيته العقلانية هذه، نشر عام 1279، أي بعد تنصره، كتيباً يوجه فيه النقد اللاذع للرهبان الفرنسيسكان.
أبنر من بورجوس (1270-1340(
Abner of Borgos
طبيب يهودي من مدينة بورجوس في إسبانيا. دبت الشكوك في نفسه بعد طول تأمل في عذاب اليهود، وفي حالة المنفى التي يعيشون فيها. ولم يجد إجابة شافية على تساؤلاته لا في الكتب الدينية اليهودية ولا في كتب الفلاسفة المسلمين، فانصرف إلى دراسة العهد الجديد وانتهى به الأمر إلى اعتناق المسيحية وهو في سن الخمسين. كتب عدة كتب يُفصح فيها عن آرائه الجديدة، ويُبيِّن رفضه للتفسيرات العقلانية المختلفة للعهد القديم التي سادت في عصره. وقد طرح أبنر، بدلاً من كل هذا، عقيدة التجسد المسيحية والثالوث. وهاجم أبنر التلمود بشراسة واتهم اليهود بأنهم يأخذون موقفاً معادياً من الأغيار. وقد تُرجمت كتاباته إلى اللغة القشطالية.
بابلو دي سانتا ماريا (1350-1435(
Pablo de Santa Maria
أسقف وعالم لاهوت مسيحي. اسمه الأصلي سولومون. وُلد لأسرة هاليفي اليهودية المعروفة التي جاء منها بعض كبار الممولين وملتزمي الضرائب في مملكة قشطالة.
كان سولومون هاليفي واسع الإلمام بالفقه اليهودي وبالفلسفة الإسلامية وبأعمال الفلاسفة من أعضاء الجماعة اليهودية في شبه جزيرة أيبريا، كما كان مطلعاً على كثير من الأعمال اللاهوتية المسيحية.
دبت الشكوك في نفسه نتيجة اطلاعه على فلسفة ابن رشد التي كانت قد هيمنت على عقول كثير من المثقفين من أعضاء الجماعة اليهودية في عصره، فاعتنق المسيحية وغيَّر اسمه إلى بابلو دي سانتا ماريا. ولعل تنصره احتجاج على مادية الفلسفة الرشدية. وقد تنصر معه أبناؤه الأربعة وابنته وإخوته الثلاثة وزوجته. وقد كتب خطاباً يشرح فيه الأسباب التي أدَّت إلى تنصره بيَّن فيه أنه حينما يتعمق الإنسان في الشريعة الشفوية والعهد القديم سيجد علامات على أن عيسى هو الماشيَّح.
سافر بابلو إلى باريس عام 1394 حيث رُسِّم قسيساً ونال حظوة البابا بنديكت الثامن. ثم بدأ بعد ذلك حملته ضد اليهود فحاول أن يقنع ملك أراجون بأن يصدر قوانين معادية لهم. وقد حقق صعوداً سريعاً في هرم النخبة الحاكمة حتى أصبح أسقف بوروجوس من عام 1415 حتى وفاته.
بول- لوي- برنار دراش (1791-1856)
Paul-Louis-Bernard Drach
فقيه فرنسي يهودي وزوج ابنة حاخام فرنسا الأكبر. نشر عدة كتب دينية يهودية، ولكنه تنصر عام 1823 في احتفال مهيب، الأمر الذي سبَّب الكثير من الحزن لأعضاء الجماعة اليهودية في فرنسا. عمل أستاذاً للعبرية واشترك في ترجمة العهد القديم وكتب عدة قصائد عبرية في مدح البابا والكرادلة. كتب عدة كتب يحاول فيها تفسير الأسباب التي أدَّت إلى اعتناقه المسيحية. وقد نشأ أطفاله مسيحيين بل أصبحوا من رجال الدين المسيحي.
إدوارد جانز (1798-1839(
Edward Gans
مؤرخ وعالم قانون ألماني يهودي. درس القانون في جامعتي برلين وهايدلبرج حيث تأثر بهيجل. عُيِّن محاضراً في جامعة برلين عام 1820 حيث ذاع صيته كمحاضر. طالب بأن تتخلى اليهودية عن نزعتها الاعتزالية وتميُّزها وأن تندمج في الحضارة الأوربية المعاصرة. أسَّس عام 1819 بالاشتراك مع ليوبولد زونز جماعة الثقافة وعلم اليهودية التي كانت مهمتها نشر مُثُل حركة الاستنارة بين الشباب اليهودي وإبعادهم عن التفكير التقليدي. وقد حُلَّت الجمعية عام 1824 وتنصر جانز في العام التالي (وهو ما ألقى بظلال الشك على مُثُل الاستنارة وعلى علم اليهودية). عُيِّن أستاذاً في جامعة برلين عام 1829 حيث طوَّر الرؤية الهيجلية الخاصة بالسيادة المطلقة للدولة وبمفهوم الحاكم كتجسيد لمفهوم الدولة.
ويذهب جانز إلى أن الحضارة الأوربية مزيج من أحسن العناصر الموجودة في حضارات يسرائيل واليونان وروما والمسيحية. ولجانز دراسات عديدة في القانون، كما أنه حرَّر محاضرات هيجل عن القانون.
لكن تَنصُّر مفكر ديني يهودي وعضو في النخبة الفكرية اليهودية لم يكن حدثاً استثنائياً في القرن التاسع عشر. فكل أولاد مندلسون ـ على سبيل المثال ـ تنصروا. وهذا يعود ولا شك، في بعض جوانبه، إلى الإغراءات المادية المختلفة، من تحقيق حراك اجتماعي إلى الحصول على وظائف مقصورة على المسيحيين. ولكن الإغراءات كانت هناك دائماً عبر التاريخ، ولذا فهي لا تصلح وحدها لتفسير الزيادة المذهلة لعدد المتنصرين بين أعضاء النخبة اليهودية المثقفة. ولعل أزمة اليهودية الحاخامية قد لعبت دوراً أساسياً في ذلك، كما أن هيمنة مُثُل حركة الاستنارة كانت العنصر الحاسم. فحركة الاستنارة تنظر إلى الإنسان باعتباره «الإنسان على وجه العموم» أو «الإنسان الأممي» أو «الإنسان الطبيعي»، وهو ما يعني ضرورة تصفية كل الخصوصيات.
ومع هذا، فقد صرح هايني بأن الطريق الحقيقي للتحرر والانعتاق والدخول إلى الحضارة الغربية هو التنصر. وقد كان هايني محقاً حين صرح بذلك. لكن ينبغي أن نشير إلى أن المسيحية التي كان على اليهودي المتنصر أن يؤمن بها في القرن التاسع عشر كانت مسيحية وجدانية تمت علمنتها من الداخل، كما أن الإيمان بها كان لا يُلقي على المؤمن بها أية أعباء شعائرية. ولذا، مع نهاية القرن التاسع عشر، تزايدت نسبة المتنصرين الراغبين في دخول الحضارة الغربية. ومع بداية القرن العشرين، أصبحت عملية التنصر غير ذات موضوع، ذلك باعتبار أن الحضارة الغربية نفسها تراجعت فيها المسيحية حتى في صيغتها العلمانية. وأصبحت تأشيرة الدخول إليها هي التخلي عن أية هوية دينية أو إثنية، فيكون اليهودي إنساناً على وجه العموم، الثمرة الحقيقية لعصر الاستنارة ولسنوات عمليات العلمنة والترشيد في إطار الطبيعة/المادة.
سولومون ألكسندر (1799-1845)
Solomon Alexander
أول أسقف أنجليكاني في القدس. وُلد لعائلة يهودية أرثوذكسية في ألمانيا، وهاجر إلى إنجلترا حيث عمل بعض الوقت كذابح شرعي (شوحيط) ومرتل (حزان). ولكنه بعد أن اتصل بالإرساليات المسيحية، تنصر عام 1825 ثم انخرط في سلك الكنيسة عام 1827. قامت جمعية نشر المسيحية بين اليهود بإرساله إلى ألمانيا ثم عُيِّن أستاذاً للغة العبرية من عام 1832 حتى عام 1841 في جامعة لندن.
وبعد القضاء على مشروع محمد علي النهضوي، تَقرَّر إقامة أسقفيتين في فلسطين: واحدة إنجليزية أنجليكانية والأخرى ألمانية لوثرية، نظراً للأهمية الإستراتيجية لفلسطين. وقد عُيِّن ألكسندر أسقفاً للأسقفية الأنجليكانية في القدس حيث بدأ نشاطه التبشيري وتفرَّع منها إلى عدة بلاد من بينها سوريا ومصر (التي مات فيها أثناء إحدى زياراته لها).
التبشير باليهودية والتهوُّد والتهويد
Proselytizing, Conversion to Judasim, and Judaizing
«التهود» هو اعتناق اليهودية بشكل طوعي دون قسر، أما «التهويد» فهو اعتناق اليهودية قسراً نتيجة الضغوط الخارجية. و«التبشير» هو الدعوة إلى عقيدة ما دون اللجوء إلى ضغوط خارجية مثل الإغراءات المالية. ورغم أن اليهودية ديانة توحيدية في أحد جوانبها، فإنها ليست ديانة تبشيرية تحاول أن تكتسب أتباعاً جدداً، نظراً لانغلاق النسق الديني الحلولي اليهودي. ومع هذا، هناك حالات كثيرة في العصور القديمة والحديثة تهودت فيها أعداد كبيرة من الناس نتيجة التبشير باليهودية، أو تم تهويدهم عنوة. والتهويد والتهود هما أكبر دليل على زيف ادعاءات نقاء اليهود عرْقياً.
وقد شهدت فترة القرن الأول قبل الميلاد وبعده، مرحلة تبشيرية، نتيجة جهود الفريسيين الذين أعادوا صياغة اليهودية وحرروها من ارتباطها بالعبادة القربانية وبالهيكل. وقد تهودت أعداد كبيرة في حوض البحر الأبيض المتوسط، كما تهود أعضاء الأسرة الحاكمة في ولاية حدياب الفرثية. وقد كان التهود أحد أهم الأسباب التي أدَّت إلى تزايد عدد أعضاء الجماعات اليهودية خارج فلسطين حتى أن عدد اليهود المقيمين خارج فلسطين أصبح يفوق عدد المقيمين منهم فيها.
وقد قام هيركانوس وأريسطوبولوس، وهم من ملوك الأسرة الحشمونية، (في 130 ـ 103 ق.م) بفرض اليهودية على الأدوميين وعلى أعداد كبيرة من الإيطوريين. كما تهود بعض المثقفين في روما حينما دخلت الوثنية الرومانية مرحلة أزمتها الأخيرة التي انتهت بظهور المسيحية. وقد استمر التبشير باليهودية في العصور الوسطى المسيحية حتى بعد أن أصدر الإمبراطور قسطنطين قراراً بمنعه عام 315 م. وأكبر دليل على استمراره وجود حالات متفرقة لمسيحيين تهودوا، من بينهم أحد كبار رجال الدين المسيحي في فرنسا وآخر في إنجلترا. كما أن تهود النخبة الحاكمة بين قبائل الخزر وأعداد كبيرة من أتباعهم يُعَدُّ دليلاً آخر.
وقد تهود بعض المارانو بعد خروجهم من إسبانيا، لا لأنهم كانوا يهوداً متخفين وإنما لأن السلطة الحاكمة البروتستانتية كانت تبدي تسامحاً مع اليهود ولا تُبدي مثله تجاه الكاثوليك، الأمر الذي حدا بكثير من المارانو إلى التهود ابتغاء الأمن والحراك الاجتماعي. وفي العصر الحديث، يتهود بعض المسيحيين (أو العلمانيين) في الغرب حين يصر أحد أطراف الزواج المختلط أن يتهود الطرف الآخر (وإن كان الشائع أن يتنصر الطرف اليهودي في الزواج المُختلَط، أي يتبنى دين أعضاء الأغلبية).
وتبدأ مراسم التهود في العصر الحديث في الأوساط اليهودية الأرثوذكسية بسؤال طالب التهود عن سبب طلبه، فإن أجاب بأن السبب هو الزواج، يُرفَض طلبه لأن هذا لا يُعَدُّ سبباً كافياً. ثم يخبرون طالب التهود بأن الشعب اليهودي شعب بائس مطرود منفي يعاني دائماً، فإن أجاب بأنه يعرف ذلك وأنه لا يزال مُصّراً على التهود، فإنه يُقبَل في الجماعة الدينية اليهودية ويُختن إذا كان ذكراً. وعلى المتهود أو المتهودة أخذ حمام طقوسي (مكفاه) أمام ثلاثة حاخامات، وهو الأمر الذي يسبب الحرج للإناث المتهودات، حيث يتعين علىهن خلع ملابسهن لهذا الغرض. ثم يعلن المتهود أنه يقبل نير المتسفوت (الأوامر والنواهي)، أي أن يعيش حسب شرائع التوراة. ويَطلُب بعض الحاخامات المتشددين من طالب التهود أن يبصق على صليب أو كنيسة، غير أن مثل هذه العادات ليست جزءاً من الشريعة وهي آخذة في الاختفاء. ولا يلتزم الحاخامات الإصلاحيون والمحافظون بهذه الخطوات إذ يكفي بالنسبة إلىهم أن يستمع طالب التهود إلى محاضرة عما يقال له «التاريخ اليهودي» على سبيل المثال، كما أن الختان ليس محتماً على الذكور بحسب رؤيتهم. ولا يتَّبع المحافظون المراسم التقليدية وإن كانوا يؤكدون ضرورة أن يقرأ المتهود بعض النصوص الدينية المهمة ويدرسها.
وفي محاولة تشجيع التهود يُطلَق على التهود الآن في الولايات المتحدة عبارة «يهودي باختياره» (جو باي تشويس jew by choice) ويوجد في الولايات المتحدة في الوقت الحاضر 185 ألف متهود.
ويحق للمتهود ـ حسب الشريعة اليهودية ـ أن يتزوج من أية يهودية، ولكن لا يُباح لمتهودة أن تتزوج من كاهن مثلاً، كما لا يمكن تعيين المتهود في مناصب عامة مهمة أو أن يعين قاضياً في محكمة جنائية بل في محاكم مدنية أحياناً. وبحسب إحدى الصياغات الدينية المتطرفة تُعَدُّ المرأة المتهودة «زوناه» (أي عاهرة) حتى نهاية حياتها. وهي صيغ متشدّدة لا تتمسك بها اليهودية الإصلاحية أو اليهودية المحافظة.
ويُلاحَظ التزايد النسبي لطالبي التهود بسبب الزواج المختلط. ولكن هؤلاء يتهودون في الغالب على يد حاخامات إصلاحيين أو محافظين لا يعترف الأرثوذكس بواقع أنهم حاخامات، وبالتالي لا يعترفون بيهودية من يتهود على أيديهم. وتتفجر هذه القضية حينما يهاجر بعض هؤلاء المتهودين إلى إسرائيل، إذ تثير المؤسسة الدينية الأرثوذكسية قضية انتمائهم اليهودي. وتطالب المؤسسة الأرثوذكسية بتعديل قانون العودة وبتعريف اليهودي بحيث يصبح اليهودي من وُلد لأم يهودية أو تهود حسب الشريعة، أي على يد حاخام أرثوذكسي. ولكن تبنِّي ذلك التعريف يسقط انتماء آلاف من يهود الولايات المتحدة إلى العقيدة اليهودية، كما أنه يجعل اليهود الإصلاحيين والمحافظين (أي أكثر من نصف يهود أمريكا)، يهوداً من الدرجة الثانية. ومن هنا، فقد اقترحت وزارة الداخلية الإسرائيلية، الواقعة تحت نفوذ الأحزاب الدينية، أن يُكتَب لفظ «متهودة» في بطاقة تحقيق الشخصية الخاصة بشوشانا ميللر وهي أمريكية متهودة على المذهب الإصلاحي. وقد رفضت المحكمة العلىا الطلب، فرضخت الوزارة في نهاية الأمر وقامت بتسجيلها يهودية. وطُلب من يهود الفلاشاه وبني إسرائيل وكوشين من الهند أن يتهودوا باعتبار أن يهوديتهم ناقصة. وحين احتجوا خُفِّفت مراسم التهود بالنسبة إلىهم. وقد عُرض التهود على بقايا يهود المارانو في البرتغال كشرط لهجرتهم إلى إسرائيل. وقد لوحظ أن كثيراً من المهاجرين السوفييت من مدَّعي اليهودية يقبلون التهود، ومن ذلك الختان، من أجل الحراك الاجتماعي الذي سيحققونه في إسرائيل إن تم اعتبارهم يهوداً.
التهود والتهويد
Conversion to Judasim, and Judaizing
انظر: «التبشير باليهودية والتهود والتهويد».
إليعازر بودو (القرن التاسع الميلادي(
Eleazar Bodo
متهود فرنسي. وكان من كبار رجال الدين المسيحي ومن أسرة أرستقراطية. كان يعمل في قصر لويس التقي، ويُقال إنه كان القسيس الذي كان يعترف له الإمبراطور وأسقفاً في الكنيسة الكاثوليكية. وترك بودو القصر عام 838 بزعم أنه ذاهب إلى روما للحج، ولكنه بدلاً من ذلك فرّ إلى إسبانيا هو وابن أخيه وتهود وتختن وأُطلق عليه اسم إليعازر وتزوج فتاةً يهودية في سرقسطة. ثم ذهب بعد ذلك إلى قرطبة حيث حاول أن يقنع أميرها بأن يفرض على رعاياه إما الإسلام أو اليهودية. وقد تبادل بودو الرسائل مع باولو ألفارو ـ أحد كبار رجال الدين المسيحي في إسبانيا ـ وبيَّن في خطابات له أن المسيحية تحتوي على عقائد وممارسات وشعائر كثيرة التضارب، على عكس وحدة العقيدة والشعائر التي تتسم بها اليهودية، كما أشار إلى جشع رجال الدين المسيحيين. وقد كتب مسيحيو إسبانيا إلى تشارلز الأصلع وإلى أساقفة الإمبراطورية الكارولنجية طالبين استدعاء هذا المرتد حتى يخففوا من حدة الضغط الذي يسببه وجوده بينهم.
يوهان سبايت ( 1642 - 1701 )
Joahann Spaeth
متهود ألماني وابن صانع أحذية كاثوليكي. وقع تحت تأثير الحركات البروتستانتية بعض الوقت ولكنه عاد مرة أخرى للكاثوليكية. وحيث إنه لم يجد الهدوء الروحي الذي ينشده، بدأ يقرأ في مؤلفات الصوفي جيكوب بومه وكتابات بعض الجماعات المسيحية التي ترفض التثليث (مثل السوسينيانز)، وقد لاحظ التطابق المدهش بين تعاليم بومه والقبَّالاه اللوريانية. وبعد فترة من التأمل والغوص في الذات، قرَّر أن يتهود ويُسمِّي نفسه «موزيس جيرمانيكوس»، أي «موسى الألماني»، وتَختَّن في أمستردام عام 1697 ثم تزوج من امرأة يهودية من فرانكفورت.
دافع سبايت عن تهوده في كتيب دبَّجه خصيصاً لهذا الغرض. وقد ذهب سبايت في كتاباته إلى أن البابوية أساس الفساد، وإلى أن المؤسسة الكهنوتية ليست أصيلة في المسيحية بل تم اختلاقها في أيام قسطنطين الأكبر، وإلى أن الشهداء المسيحيين الأوائل كانوا في واقع الأمر يهوداً يدافعون عن تعاليم المسيح الذي لم يكن سوى معلم من معلمي الشريعة (هالاخاه). وقد أكد سبايت أن المسيحية ليست سوى شكل مشوه للمبادئ الإسكاتولوجية التي انتشرت في فترة الهيكل الثاني (في القرن الأول الميلادي). وفي النهاية، بيَّن سبايت أن يسرائيل وليس عيسى، هي خادم الإله المصلوب (الذي يعاني).
فالنتاين بوتوكي (؟ - 1749(
Valentine Potocki
كونت بولندي من أسرة أرستقراطية عريقة اعتنق اليهودية. وقصة تهوده أقرب إلى الحكاية الشعبية منها إلى الحقيقة التاريخية. كان بوتوكي صديقاً لشاب أرستقراطي آخر يُسمَّى زاريمبا. وبينما كان الشابان في حانة في باريس، لاحظا أن صاحبها اليهودي العجوز يقرأ في التلمود بخشوع شديد. فطلبا منه أن يعلمهما مبادئ اليهودية، وأقسما أنه لو أقنعهما باليهودية لتركا المسيحية. وقد نسى زاريمبا القسم، أما بوتوكي فقد قضى بعض الوقت في روما للدراسة ثم ذهب إلى أمستردام حيث تهود. وحينما سمع زاريمبا بالخبر، تَذكَّر هو الآخر قسمه فأخذ أسرته وتهود ثم استقر في فلسطين. وذات مرة، زجر بوتوكي طفلاً أزعج المصلين من اليهود. فتضايق أبو الطفل وأخبر السلطات أن بوتوكي مرتد، وهو ما أدَّى إلى القبض عليه ومحاكمته وحرقه في عيد الأسابيع عند قلعة فلنا، وقد ظل يردد الشماع اليهودية وأن الإله واحد حتى لفظ آخر أنفاسه. وقام أحد اليهود بجمع رماده وقطعة من أصبعه ودفنها في المدافن اليهودية فنبتت منها شجرة باسقة أصبحت مزاراً يهودياً. ولا توجد أية قرائن تاريخية على صدق هذه الرواية.
ويحتفل يهود فلنا بذكرى موت بوتوكي بقراءة صلاة القاديش وزيارة قبره.

علي العذاري
12-08-2011, 05:20 PM
جورج جوردون (1751-1793(
George Gordon
نبيل إنحليزي بروتستانتي. وُلد في لندن وكان والده دوقاً. خدم في الجيش والبحرية البريطانية. وفي عام 1774، دخل البرلمان وكان رئيساً لجماعة «العصبة البروتستانتية الموحَّدة» التي قادت الحملة التي كانت تطالب بإلغاء القانون الذي منح الأهلية للكاثوليك، كما كانت على رأس المظاهرات المناهضة للكاثوليك التي اندلعت عام 1780 والتي راح ضحيتها مئات من القتلى والجرحى. وقد قُدِّم جوردون للمحاكمة بتهمة الخيانة، ولكن تمت تبرئته. واستمر جوردون بعد ذلك في مناصرته للقضايا البروتستانتية وفي مناهضة الكاثوليك، ولكنه اختلف مع الكنيسة البروتستانتية في إنجلترا فحرمته من عضويتها عام 1786.
ورغم أن جوردون كان شديد التعصب للبروتستانتية، إلا أنه بدأ يفكر عام 1786 في اعتناق اليهودية، وأقدم على ذلك بالفعل عام 1787 فتم ختانه وأطال لحيته وارتدى ثياب اليهود الأرثوذكس واتخذ اسم إسرائيل بار أبراهام. والواقع أنه مثلما كان متعصباً في بروتستانتيته، كان كذلك متعصباً في يهوديته حيث كان شديد الحرص على ممارسة الطقوس الدينية اليهودية ومراعاة القوانين الخاصة بالمأكل والملبس والمظهر. كما رفض مخالطة أي يهودي غير ملتزم بقوانين دينه. وفي عام 1788، حُكم على جوردون بالسجن بتهمة القذف بعد أن هاجم كلاًّ من الحكومة البريطانية وملكة فرنسا التي انتقد سلوكها الأخلاقي والسياسي. وفي السجن، استمر جوردون في التزامه الشديد بشرائع اليهودية، وكان يشترك كل سبت (مع مجموعة من اليهود البولنديين) في إقامة الصلاة. وقد اكتسب جوردون شهرة واسعة، وأقدم الكثيرون على زيارته في سجنه من بينهم بعض كبار القوم في عصره فكان يقيم لهم المآدب والحفلات داخل السجن. وقد تُوفي جوردون في السجن ورفضت الجماعة اليهودية في لندن دفنه في مقابرها، فدُفن في مقابر عائلته البروتستانتية.
الباب الرابع: الحسيدية
حسيد
Hasid
«حسيد» كلمة وردت في العهد القديم وتشير إلى «الرجل التقي الثابت على إخلاصه للإله وإيمانه به». وقد استُخدمت هذه الكلمة بعد ذلك للإشارة إلى جماعات من مؤيدي التمرد الحشموني كانت تتسم بالحماس الديني والتقوى (القرن الثاني قبل الميلاد)، ثم استُخدمت للإشارة إلى الحركة الصوفية التي نشأت في ألمانيا في القرن الثاني عشر، ثم أصبحت الكلمة تشير إلى أتباع الحركة الحسيدية التي نشأت في بولندا في القرن الثامن عشر. وهذا هو الاستخدام الشائع في الوقت الحالي.
الحسيدية: تاريخ
Hassidism: History
«الحسيدية» بالعبرية «حسيدوت» وهو مصطلح مشتق من الكلمة العبرية «حسيد»، أي «تقي». ويُستخدَم المصطلح للإشارة إلى عدة فرق دينية في العصور القديمة والوسطى، ولكنه يُستخدَم في العصر الحديث للدلالة على الحركة الدينية الصوفية الحلولية التي أسسها وتزعمْها بعل شيم طوف. وبدأت الحركة في جنوب بولندا وقرى أوكرانيا في القرن الثامن عشر، وخصوصاً في مقاطعة بودوليا التي ظهرت فيها الحركة الفرانكية كما ظهرت فيها فرق مسيحية حلولية ذات طابع غنوصي متمردة على الكنيسة الأرثوذكسية الروسية (مثل الدوخوبور والخليستي والسكوبستي). وقد كانت هذه المقاطعة تابعةً لتركيا في نهاية القرن السابع عشر، وانتشرت الحسيدية منها إلى وسط بولندا وليتوانيا وروسيا البيضاء ثم المناطق الشرقية من الإمبراطورية النمساوية المجرية: جاليشيا، وبوكوفينا، وترانسلفانيا، وسلوفاكيا، فالمجر ورومانيا. ولكن أقصى تركيز لها كان في الأراضي البولندية التي ضمتها روسيا إليها. وقد انتشرت الحسيدية في بادئ الأمر في القرى بين أصحاب الحانات والتجار والريفيين والوكلاء الزراعيين، ثم انتشرت في المدن الكبيرة حتى أصبحت عقيدة أغلبية الجماهير اليهودية في شرق أوربا بحلول عام 1815، بل يُقال إنها صارت عقيدة نصف يهود العالم آنذاك، إلى جانب أنها عقيدة أغلبية يهود اليديشية. ويُلاحَظ أن الحركة الحسيدية لم تضم في صفوفها كثيراً من العمال والحرفيين اليهود، لأن الأساس الاقتصادي لوجودهم كان ثابتاً، كما أن أولادهم كانوا لا يدرسون إلا التوراة، بل كانوا يتركون المدارس بسبب فقرهم. ولهذا، فإنهم لم يكونوا يخوضون في دراسة الشريعة الشفوية. وبالتالي، وجدوا أفكار الحسيدية غريبة وغير مفهومة، كما أن الأحزاب الاشتراكية والثورية نجحت في ضمهم إلى صفوفها.
ويرجع نجاح الحسيدية إلى أسباب اجتماعية وتاريخية عدة، فالجماهير اليهودية كانت تعيش في بؤس نفسي وفقر اقتصادي شديد بسبب التدهور التدريجي للاقتصاد البولندي، إذ طُرد كثير من يهود الأرندا، وأصحاب الحانات من القرى الصغيرة، الأمر الذي زاد من عدد المتسولين واللصوص والمتعطلين. ويُقال إن عُشْر أرباب العائلات كانوا بلا عمل. وكانت قيادة الحركة الحسيدية - أساساً - من يهود الأرندا السابقين ومستأجري الحانات وأصحاب المحال الصغيرة. وكانت هذه الجماهير في خوف دائم بعد هجمات شميلنكي، وعصابات الهايدماك من الفلاحين القوزاق. كما كانت تشعر بالإحباط العميق، بعد فشل دعوة شبتاي تسفي وتحوُّله إلى الإسلام. وهي مشاعر زادت من حدتها التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تخوضها مجتمعات شرق أوربا آنئذ، هذه التحولات التي جعلت من القهال شكلاً إقطاعياً طفيلياً لا مضمون له، يقوم باستغلال اليهود لحساب الحكومة البولندية والنبلاء البولنديين، ولحساب موظفي القهال من اليهود الذين كانوا يشترون المناصب. وقد صاحب هذا الوضع تدنِّي الحياة الثقافية والدينية داخل الجيتو والشتتل إلى درجة كبيرة، وصار اليهود يعيشون في شبه عزلة عن العالم، بل في عزلة عن المراكز التلمودية في المدن الكبرى. وعلى أية حال، كانت اليهودية الحاخامية قد تحولت إلى عقيدة شكلية، تافهة وجافة، خالية من المضمون الروحي والعاطفي، تؤكد الأوامر والنواهي دون اهتمام بالمعنى الروحي لها.
ويُلاحَظ أن القبَّالاه كانت قد أحكمت هيمنتها على الفكر الديني اليهودي بين جماهير اليهود وحتى بين طلاب المدارس التلمودية العليا وأعضاء المؤسسة الحاخامية. والفكر القبَّالي الحلولي قادر على إشباع التطلعات العاطفية لدى الجماهير الساذجة اليائسة. ومن المفارقات أن أعضاء الجماعات اليهودية، بعد أن عاشوا بين فلاحي أوكرانيا وشرق أوربا لمئات السنين، بعيداً عن المؤسسات الحاخامية في المدن الكبرى والمدن الملكية، تأثروا بفولكلور فلاحي شرق أوربا، وبمعتقداتهم الشعبية الدينية، وبوضعهم الحضاري المتدني بشكل عام. ويبدو أن الحسيديين تأثروا بالتراث الديني المسيحي، وخصوصاً تراث جماعات المنشقين (بالروسية: راسكولنيكس Raskolniks من فعل «راسكول raskol» بمعنى «ينشق») في روسيا وأوكرانيا. فالقرنان السابع عشر والثامن عشر شهدا ظهور جماعات دينية مسيحية متطرفة، مثل: الدوخوبور (المتصارعون مع الروح، وكان بينهم مدام بلافاتسكي) والخليستي (من يضربون أنفسهم بالسياط) والسترانيكي (الهائمون على وجوههم) (كان راسبوتين عضواً في هاتين الجماعتين) والسكوبتسي (المخصيون)، والمولوكاني (شاربو اللبن)، وغيرهم. وكان عدد أعضاء هذه الجمعيات كبيراً إلى درجة غير عادية حيث كان يصل إلى خمس عدد السكان حسب التقديرات الرسمية وإلى نحو نصفهم حسب التقديرات الأخرى. وكان أتباع هذه الفرق يتبعون أشكالاً حلولية متطرفة، فالسكوبتسي (على سبيل المثال) طالبوا بالإحجام عن الجماع الجنسي، ولكنهم كانوا يقومون في الوقت نفسه بتنظيم اجتماعات ذات طابع جنسي جماعي داعر. وقيادات هذه الجماعات كانوا يتسمَّون بأسماء غريبة مثل: «المسيح» أو «النبي» أو «أم الإله»، فقد كانوا يؤمنون بأن القيادة هي تجسيد للإله، تماماً مثل المسيح.
وأقرب الجماعات المسيحية المنشقة إلى الحسيدية هي جماعات الخليستي. وقد ذهب قادة هذه الجماعة إلى أنه حينما صُلب المسيح، ظل جسده في القبر. أما البعث، فهو هبوط الروح القدس بحيث تحل في مسيح آخر هو قائد الجماعة. ولذا، فإن قادتهم مسحاء قادرون على الاتيان بالمعجزات، يحل فيهم الإله. والواقع أن مفهوم التساديك في الحسيدية قريب جداً من هذا، فالتساديك هو القائد الذي يحل فيه الإله، وعادةً ما يتم توارث الحلول. ولذا، فإننا نجد أن قيادات الخليستي يكونون أسراً حاكمة يتبع كل واحدة منها مجموعة من الأتباع، وهذا ما حدث بين الحسيديين أيضاً. بل إن التماثل في التفاصيل كان يصل إلى درجة مدهشة، فكان الخليستي يعيشون بعيداً عن زوجاتهم باعتبار أن الإله إن شاء أن تحمل العذراء لحملت. وهذا هو موقف بعل شيم طوف، برغم أن فكرة «الحمل بلا دنس» أبعد ما تكون عن اليهودية. فعندما ماتت زوجته وعُرض عليه أن يتزوج من امرأة أخرى، احتج ورفض وقال إنه لم يعاشر زوجته قط، وإن ابنه هرشل قد وُلد من خلال الكلمة (اللوجوس).
وكان دانيال الكوسترومي (1600 ـ 1700) من أهم زعماء الخليستي. وقد وُلد ابنه (الروحي) بعد أن بلغت أمه من العمر مائة عام. وكذلك بعل شيم طوف، فقد وُلد، حسب الأساطير التي نُسجت حوله، بعد أن بلغت أمه من العمر مائة عام. وكان الخليستي يرتدون ثياباً بيضاء في أعيادهم، وكذلك الحسيديون. وقد كان الخليستي يُعدون أنفسهم، من خلال الغناء والرقص، لحلول روح المسيح فيهم، وهذا قريب من تمارين الحسيديين أيضاً. والمضمون الفكري الاجتماعي لكلٍّ من الخليستي والحسيديين مضمون شعبي يقف ضد التميزات الطبقية بشكل عام.
وفي هذا المناخ، ظهر الدراويش الذين يحملون اسم «بعل شيم»، أي «سيد الاسم»، وهم أفراد كانت الجماهير البائسة تتصور أنهم قادرون على معرفة الأسرار الباطنية، وإرادة الإله، وطرد الأرواح الشريرة من أجساد المرضى، كما أنهم كانوا يتسمَّون بالتدفق العاطفي الذي افتقدته الجماهير في الحاخامات. وظهرت الحسيدية بحلوليتها المتطرفة وبريقها الخاص ورموزها الشعبية الثرية التي تروي عطش الجماهير اليهودية الفقيرة التي كان يخيم عليها التخلف.
وقد تبدَّت هذه الأفكار الحلولية المتطرفة في التصادم الحاد بين الحسديين والمؤسسة الحاخامية (متنجديم)، وهو تصادم كان حتمياً، باعتبار أن الحسيدية تمثل رؤية بعض قطاعات الجماعة اليهودية التي استُبعدت من جانب المؤسسة الحاخامية والقهال. وكانت الحسيدية تحاول أن تحقق لهم قسطاً ولو ضئيلاً من الحرية ومن المشاركة في السلطة. والحسيدية، في جانب من أهم جوانبها، محاولة لكسر احتكار المؤسسة التلمودية للسلطة الدينية، ومحاولة لحل مشكلة المعنى. وقد انعكس هذا التصادم، على المستوى الفكري، حين قام الحسيديون بالتقليل من شأن الدراسة التلمودية أو دراسة التوراة. فإذا كان الهدف من الحياة ليس الدراسة وإنما التأمل في الإله والالتصاق به والتوحد معه وعبادته بكل الطرق، فإن هذه العملية لابد أن تستغرق وقتاً طويلاً، وهو ما لا يترك للإنسان أي وقت لدراسة التوراة على الطريقة الحاخامية القديمة. كما أن التواصل المباشر مع الإله يطرح إمكانيةً أمام اليهود العاديين، ممن لا يتلقون تعليماً تلمودياً، لأن يحققوا الوصول والالتصاق (ديفيقوت). بل إن الجهل، في إطار التجربة الوجودية المباشرة، يصبح ميزة كبرى.
وهدف التجربة الدينية هو الفرح والنشوة، وهو إعادة تعريف للتجربة الدينية تؤكد العاطفة (الجوانية) كوسيلة للوصول إلى الإله، بدلاً من الشعائر والدراسات التلمودية (البرانية)، فالإله (حسب تصوُّر بعل شيم طوف) لا يسمع الدعاء ولا يقبل الصلاة إلا إذا نبعت من قلب فَرح. ومن ثَّم، يصبح الإخلاص العاطفي أهم من التعليم العقلي. وقد قلَب الحسيديون الأمور رأساً على عقب، إذ تبنوا الفكرة اللوريانية الخاصة بحاجة الإله إلى الشعب اليهودي ككل، وخصوصاً القادة التساديك. وقد ذهب الحسيديون إلى أنه لا يوجد ملك دون شعب. وبالتالي، فإن ملك اليهود في حاجة إليهم، ومن خلال حاجته إليهم تتضاءل أهمية الأوامر والنواهي.
وقد نجحت الحسيدية في تحقيق قدر من الاستقلال عن المؤسسة الحاخامية، فاتبعت بعض التقاليد السفاردية في الشعائر (ربما تحت تأثير القبَّالاه اللوريانية ذات الأصول السفاردية)، كما أدخلوا بعض التعديلات على طريقة الذبح الشرعي (وهو ما يعني في واقع الأمر السيطرة على تجارة اللحم). وأصبح للحسيديين معابدهم الخاصة وطريقة عبادتهم، ولذلك تحوَّلت الحركة من يهودية حسيدية إلى يهودية تساديكية (نسبة إلى التساديك الذي يقوم بالوساطة بين أتباعه والإله). وقد أصبح هذا مفهوماً محورياً في الفكر الحسيدي. وكان الحسيديون يعمدون إلى إحلال التساديك محل الحاخام (لتقليص سلطان المؤسسة الحاخامية) كلما كان ذلك بوسعهم. والتساديك نوع من القيادة الكاريزمية يحل مشكلة المعنى والانتماء لأتباعه متجاوزاً المؤسسات التلمودية.
وقد تحولت الحسيدية (التساديكية) إلى بيروقراطية دينية لها مصالحها الخاصة، واستولت على القهال في كثير من الأحيان، ولكنها لم تدخل أية إصلاحات اجتماعية. بل كان القهال أحياناً يزيد الضرائب على اليهود بعد استيلاء الحسيديين عليه.
وقد ارتبطت كل جماعة حسيدية بالتساديك الخاص بها. ولذا، فقد انقسمت الحركة إلى فرق متعددة. فبعض هذه الفرق اتجه اتجاهاً صوفياً عاطفياً محضاً، في حين اتجه بعضها الآخر، مثل حركة حبد، اتجاهاً صوفياً ذهنياً يعتمد على دراسة كل من القبَّالاه والتلمود. كما أن وجود هؤلاء الحاخامات داخل دول مختلفة، زاد من هذا الانقسام. وأثناء الحرب النابليونية ضد روسيا، أيَّد بعض الحسيديين الروس روسيا ضد نابليون، ولكن بعض الجماعات أيدته ضد روسيا، بل تجسست لحسابه. وقد حاولت المؤسسة الحاخامية القضاء على الحسيدية، فأصدر معارضو الحسيدية الذين كان يُقال لهم المتنجديم قراراً بطرد اليهود من حظيرة الدين، وحرق كتاباتهم كلها، وعدم التزاوج بهم. وكان من أهم الشخصيات الحاخامية التي قادت الحرب ضدهم الحاخام إلياهو (فقيه فلنا). ومع هذا، ورغم الانقسامات والخلافات بين الحسيدية واليهودية الحاخامية، فقد وحدوا صفوفهم في النهاية بسبب انتشار العلمانية ومُثُل الاستنارة والتنوير والنزعات الثورية بين اليهود. ولما كان القهال قد تداعى كإطار تنظيمي، فإن الحسيدية استطاعت أن تحل محله كإطار تنظيمي جديد. ولذا، فإن الحسيدية لم تنتشر جغرافياً وحسب، بل انتشرت عبر حدود الطبقات أيضاً.
ويتكون الأدب الحسيدي من الكتب التي تلخص تفاسير الزعماء التساديك للكتاب المقدَّس، وتعاليمهم وأقوالهم، وقصص الأفعال العجائبية التي أتوا بها. ومن أشهر القادة التساديك شيناءور زلمان وليفي إسحق ونحمان البراتسلافي (حفيد بعل شيم طوف). وكان لكل مجموعة من الحسيديين أغانيها وطرقها في الصلاة، وكذلك عقائدها وقصصها. وكانت لهم شبكة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية خارج القهال.
وقد أتت النازية على المراكز الحسيدية الأساسية في شرق أوربا. وقد انتقلت الحركة الحسيدية إلى الولايات المتحدة، مع انتقال يهود اليديشية إليها، منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، لكن جماعات الحسيديين تفرقت وتبعثرت نظراً لابتعاد زعامتها المتمثلة في التساديك. وقد هاجر بعض القادة التساديك بعد الحرب العالمية الأولى، لكن الحركة الحسيدية لم تبدأ نشاطها الحقيقي إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد استقر الحسيديون في بروكلين في منطقة وليامزبرج. وأهم الجماعات الحسيدية هي: جماعة لوبافيتش (حبد)، وجماعة الساتمار، وبراتسلاف وتشرنوبيل، ولا تزال توجد بينهم جيوب قوية معارضة للصهيونية. ويوجد مركزان أساسيان للحسيدية في الوقت الحاضر: أحدهما في الولايات المتحدة والآخر في إسرائيل.
الحسيدية والحلولية
Hassidism and Pantheism

علي العذاري
12-08-2011, 05:24 PM
الحسيدية تعبير متبلور عن الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي الذي يمزج بين الشعب والأرض والإله. وكثيراً ما كانت هذه الحلولية تتبدَّى في شكل حركات مشيحانية كان آخرها الحركة الشبتانية. ومع هذا، فإن الحسيدية قد حددت هذه الأفكار وعمقتها بطريقتين: فقد أوصلت كثيراً منها إلى نتائجها المنطقية وأكسبتها أبعاداً جديدة من خلال القبَّالاه اللوريانية التي تشكل الإطار النظري الكامن للحسيدية. فالقبَّالاه اللوريانية لا تركز على حادثة تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) وحسب، وإنما تركز أيضاً على تَبعثُّر الشرارات الإلهية (نيتسوتسوت)، أي وجود الإله في كل مكان. ويظهر هذا في تأكيد بعل شيم طوف وجود الإله، أو الشرارات الإلهية، فعلاً في النبات والحيوانات، وفي أي فعل إنساني، بل في الخير والشر نفسيهما. ويرى الحسيديون أن العالم بمنزلة ثوب الإله، صَدَر عنه ولكنه جزء منه، تماماً مثل محارة الحيوان البحري المعروف بالحلزون، قشرته الخارجية جزء لا يتجزأ منه. والحسيديون يؤمنون بالتالي بأن الإله هو كل شيء وما عدا ذلك وهم وباطل، أي أن الحسيدية تعبير عن الحلولية في مرحلة وحدة الوجود الروحية التي لا تختلف عن وحدة الوجود المادية إلا في تسمية المبدأ الواحد أو القوة الكامنة في المادة الدافعة لها، إذ يسميها دعاة وحدة الوجود الروحية «الإله»، أما دعاة وحدة الوجود المادية فيسمونها «قوانين المادة والحركة».
وقد استفادت الحركة الحسيدية كذلك من القبَّالاه اللوريانية في نزعتها الكونية. ولكن إذا كانت القبَّالاه اللوريانية تَحصُر اهتمامها في الكون والاعتبارات الكونية، فإن الحسيدية تربط بين الحقيقة النفسية والحقيقة الكونية، كما أنها حولت التأملات الميتافيزيقية إلى تأملات نفسية، وحولت القبَّالاه نفسها من نظرية عن أصل العالم وطرق إصلاحه (تيقون) إلى طريقة للوصول إلى السعادة الداخلية. ولذا، فإن الحسيدية تطالب اليهودي بالغوص في أعماق ذاته. وفي هذه الأعماق، يستطيع الإنسان أن يرتفع ويتسامى على حدود الكون والطبيعة حتى يصل إلى أن الإله هو الكل في الكل ولا يوجد سواه (الواحدية الكونية). ولم تَعُد وسيلة الوصول إلى الإله هي التفكير العقلاني الجاف، وإنما الفرح والرقص والنشوة وصفاء الروح والنية الصادقة.
وكان للإيمان بهذه الصيغة المتطرفة من الحلولية، أو وحدة الوجود، نتائج فكرية عديدة، نجملها فيما يلي:
1 ـ يرى الحسيديون أن الهدف من حياة الإنسان ليس فهم أو تغيير الكون وإنما الالتصاق بالإله والتوحد معه وبإرادته المستقلة (ديفيقوت). وبتأكيد أن الإله هو كل شيء، لا يصبح هناك مجال لممارسة الإرادة الإنسانية ولا مجال للحزن أو المأسأة. ولذا، نجد أن الحسيديين يرفضون ثنائية الموقف الديني التقليدي (وهي مختلفة عن الثنوية) ويحلون محلها واحدية صوفية عمياء. والواقع أن رفضهم هذه الثنائية إنكار ضمني لوجود الإله، هذا الوجود الذي يفترض وجود قطبين متعارضين؛ التاريخ والإله، الإنسان والخالق، الأرض والسماء، وهكذا.
2 ـ ويُلاحَظ أن الحسيدية حاولت أيضاً أن تخفف عن اليهودي إحساسه بوطأة وجوده في المنفى. والمفهوم الحاخامي التقليدي يؤكد أن وجود اليهود في بلاد غير فلسطين هو عقاب لهم على ما اقترفوه من ذنوب. وقد كان هذا الإحساس بالذنب ثقيلاً، فجاءت الحسيدية وأنكرت حقيقة الشر، فالشر إن هو إلا اختفاء الخير وتشويهه، بل إن الشر ليس إلا جسراً للوصول إلى الخير، ويمكن تعديل الشر ليصبح خيراً. وقد ولَّدت هذه الرؤية شكلاً من أشكال القبول لدى اليهود لوضعهم البائس والرضا عنه، وخففت من حدة التطلعات المشيحانية التي تؤدي باليهود إلى الارتطام بالواقع والحكومات، كما خففها أيضاً التركيز على التأمل الباطني بدلاً من التفكير في الكون.
3 ـ نادى الحسيديون بأن عبادة الإله يحب أن تتم بكل الطرق، كما يجب أن نخدمه بكل شكل: بالجسد والروح معاً مادام أنه إله غير مفارق، لا يتجاوز الطبيعة والتاريخ، كامن في كل شيء، حتى في مذاق الطعام وتدخين التبغ وفي العلاقات الجنسية والتجارية. وقد قال أحد زعماء الحسيدية إن على المرء أن يشتهي كل الأشياء المادية، ومنها المرأة، حتى يصل إلى ذروة الروحانية. فالفرح الجسدي عند الحسيديين، يؤدي إلى الفرح الروحي، والحسيدية تؤمن بروحانية المادة لأن الروح ليست إلا شكلاً من أشكال المادة. بل إن العبادة والخلاص بالجسد يصلان إلى حد عبادة الإله من خلال العلاقات الجنسية. ومثل هذا الموقف كامن في أية رؤية حلولية متطرفة، حيث تلتقي وحدة الوجود الروحية بوحدة الوجود المادية.
4 ـ وتنعكس الحلولية في شكلين هما في الواقع شيء واحد: حب عارم لفلسطين أو إرتس يسرائيل، يقابله كره عميق للأغيار. ولذلك، لم يكن مفر من أن يخرج الحسيديون من بين الأغيار المدنَّسين، وبلاد الأغيار المدنسة، ليستقروا في الأرض الطاهرة المقدَّسة التي هي هدف القداسة ومصدرها في وقت واحد. ومما دعَّم هذا الشوق إلى صهيون، تفاقم وضع يهود اليديشية بسبب عمليات التحديث والعلمنة في مجتمعات شرق أوربا.
وتأثير الحركة الشبتانية على الحسيدية واضح، فقد نشأت الحركتان في التربة نفسها وفي المنطقة نفسها. وتتبدَّى نقط التشابه في صدورهما عن القبَّالاه اللوريانية، وفي الدعوة إلى المتعة الجسدية، وفي اعتبار هذه المتعة طريقاً إلى الخير (عفوداه بجشميوت، أي «الخلاص بالجسد»)، وفي تسامحهما في تنفيذ الشريعة، وفي مفهومهما المتساهل إزاء الشر، ورؤيتهما لإمكانية إعلاء الشر، بل في وجود عناصر من الخير داخل الأفكار الشريرة، ثم في إمكانية الوصول إلى الخير من خلال الشر. كما يأخذ الحسيديون بالرؤية اللوريانية للخلق والعالم. ولكنهم، بدلاً من التركيز على حادثة تَهشُّم الأوعية وسجن الشرارات، يؤكدون وجود الإله في كل الوجود.
ولكن الحسيدية تختلف عن الشبتانية في أنها ظلت، في نهاية الأمر، داخل إطار من الشريعة يَتقبَّل الأوامر والنواهي. فالحسيديون قللوا، على سبيل المثال، من أهمية دراسة التوراة، ولكنهم لم ينكروا تعاليمها، وقد انسحبوا من المعابد اليهودية القائمة، لكنهم أسسوا معابدهم الخاصة التي كانوا يمارسون فيها صلواتهم. وهاجموا الحاخامات وطردوهم، ولكنهم أحلوا التساديك محل الحاخام. ورفضوا كتاب الصلوات الأشكنازي، ولكنهم تبنوا بدلاً منه كتاب الصلوات السفاردي. ورفضوا طريقة الذبح الشرعي السائدة، ولكنهم أحلوا محلها طريقة أخرى للذبح. والأهم من كل هذا أنهم رفضوا تماماً الفكرة الشبتانية القائلة بأن الماشيَّح قد وصل بالفعل (ومن هنا كان رفض الحسيدية للهجرة الفعلية). كما أن الممارسات الجنسية ظلت في أضيق الحدود، وأخذت شكل طقوس ورقصات وشطحات، أكثر من كونها ممارسات فعلية.
وقد تكون إحدى نقط الاختلاف الأساسية أن الشبتانية جعلت الفكرة المشيحانية تدور حول شخص الماشيَّح الواحد: شبتاي تسفي أو فرانك. أما الحسيدية، فقد أصبحت مشيحانية بلا ماشيَّح واحد، وأصبح هناك عدد من المشحاء الصغار، يظهرون في شخصية التساديك، وتتوزع عليهم القداسة أو الحلول الإلهي، وهو ما قلل من تركُّزه وقلل بالتالي من تَفجُّر الحسيدية. كما أن النزعة المشيحانية عبرت عن نفسها في النفس الإنسانية لا في الواقع الخارجي. وجعلت النفس البشرية مجال المشيحانية لا مسرح التاريخ. ولذا، كان على الحسيدي أن يغوص في فردوس الذات بدلاً من أن يحاول تحقيق الفردوس الأرضي. وإذا كانت الرؤية المشيحانية التقليدية رؤية أبوكاليبسية تَحدُث بغتة عن طريق تَدخُّل الإله في التاريخ، فالمشيحانية الحسيدية تدرجية، وقد حوَّلت المشيحانية إلى حركة بطيئة متصاعدة يشترك فيها كل جماعة يسرائيل، بقيادة عدد كبير من التساديك، ولا تتوقع أية تحولات فجائية (وقد تأثر الفكر الصهيوني بهذه الفكرة).
التساديك (الصديق)
Tzaddik
«تساديك» كلمة عبرية معناها «الرجل الصالح» أو «الصديق». وتُعتبر كلمة «ربي»، اسماً آخر للتساديك ومعناها «السيد»، كما كان يُدعى أحياناً «أدمور»، وهي اختصار للكلمات «أدونينو» و«مورينو» و«رابينو»، أي «سيدنا» و«أستاذنا» و«معلمنا». ويُعتبر هذا التصور لقائد الجماعة من أهم أشكال التمرد الحسيدي على المؤسسة الدينية، وعلى القيادة الحاخامية التي انعزلت عن الجماهير الفقيرة وارتبطت بالأقلية المالية التي كانت تسيطر على القهال. ومن المعروف أن منصب الحاخام، مع منتصف القرن الثامن عشر، كان يُباع ويُشتَرى، وتتحكم فيه الأقلية الثرية. وقد تَحدَّت الحسيدية المؤسسة الحاخامية، وخلخلت قبضتها على الجماهير في عدة مجالات من بينها وظيفة الحاخام الذي حل التساديك محله.
والتساديك، حسب التصور الحسيدي المتأثر بتصورات القبَّالاه اللوريانية، تعبير متطرف عن الرؤية الحلولية اليهودية. فهو أولاً شخص ذو قداسة خاصة يقف في منزلة لا تتلو إلا منزلة الإله، وهو أحد التجليات النورانية العشرة (سفيروت)، أي أنه جزء من الإله. بل هو أحد العُمُد التي تستند إليها الدنيا، وهو أساس العالم (يسود). وأكثر من ذلك، فإن العالم خُلق من أجله. وكما هو الحال دائماً مع الحلولية، ينتهي بها الأمر إلى تعادل بين الإله ومخلوقاته، ثم إلى ترجيح كفة المخلوقات على حساب الإله، فالتساديك شخصية تبلغ حداً من القداسة يجعلها تقترن بكلام الإله وتتوحد معه، ولذا فقد كان الحسيديون يقولون دائماً: « لقد تحدَّث التساديك توراة »، أي أن كلامه في قداسة التوراة وقداسة الإله، ولذا فإن من يعارضه يجدف في الإله.
ولكن الحسيديين يدينون بالمفهوم اللورياني للشرارات الإلهية (نيتسوتسوت) وضرورة استعادتها بعد تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم). والواقع أن مهمة التساديك هي تحرير هذه الشرارات الإلهية المحبوسة، أي تحرير الإله. ومن هنا كانت حاجته إلى التساديك. بل إن الإله يحتاج إليه في أمر آخر، وهو الوصول إلى الناس، فالتساديك هو الوسيلة الوحيدة التي تربط الأرض بالسماء.
ومهمة التساديك هي أن يقوم بقيادة جماعته، وأن يربط بينها وبين السماء، فهو قادر على التأمل الصوفي الذي يقربه من الإله ويوحده معه، وبذا فإنه يصبح حلقة الوصل بين الخالق ومخلوقاته، وهو إن لم يقم بهذه المهمة فلا معنى لوجوده. ولكن إذا كان التساديك حلقة الوصل، فإن الجماهير تحتاج إليه احتياج الإله إليه، فهو الذي يأتي إليها بالشفاعة، ويحضر لها الحياة من السماء، كما أنه يوصل روح الإله إليها، وهو قادر على الالتصاق بالإله (ديفيقوت)، ومن خلال التصاقه هو بالإله تتمكن الجماهير هي الأخرى من تحقيق الالتصاق بالخالق. وقد تَعمَّق هذا المفهوم حتى أصبح الإيمان بالإله هو الإيمان بقدرات التساديك العجائبية. ويُعَدُّ هذا تطوراً جديداً كل الجدة في اليهودية التي ترفض الوساطة والكهانة، على الأقل من الناحية النظرية. وإذا كانت اليهودية التقليدية تدعو إلى احترام الحاخامات، فاليهودية الحسيدية تدعو إلى تقديس التساديك، فهو يشبه القديسين المسيحيين. وهنا يظهر أثر المعتقدات الدينية الفلاحية السلافية على الحسيديين، وخصوصاً فرقة الخليستي التي كان يرأسها مشحاء، تحل فيهم الروح القدس، فليست تعاليم التساديك هي التي تهم وإنما أفعاله، فكل فعل من أفعاله، مهما كان تافهاً، معبَّأٌ بالمعنى.
لكل هذا، يتمتع التساديك بقدرات خرافية خارقة. وقد جاء في الأدب الحسيدي أنه كان يمكنه شفاء المرضى، وله سلطة على الحياة والموت تفوق قدرة الإله نفسه، إذ يمكنه أن يتدخل لدىه ويجعله يرجئ قراره بشأن موت فرد ما. وقد ورد في أحد الكتب الحسيدية أن مجموعة من الحسيديين كانوا في طريقهم بحراً إلى فلسطين، حين هبت عاصفة هددت السفينة. وحينئذ جمع التساديك كل رعاياه، وأمسك مخطوط التوراة، وقال للإله "إذا كان قد تقرر في محكمة الأعالي أن نقضي نحبنا، فإننا نعلم، باعتبارنا محكمة الجماعة المقدَّسة، أننا لا نوافق على هذا القرار". وقال الجميع «آمين». فتوقفت العاصفة. وكان بعض القادة التساديك يلومون الإله على أي أذى يحل بهم، ويتناقشون معه بصوت عال. وتعود قدرات التساديك هذه ـ حسب التصور الحسيدي ـ إلى صفاء روحه وشفافيتها التي تمكِّنه من الوصول إلى تلك العوالم (سفيروت) التي لا توجد فيها أية قرارات أو حدود، لأن الرحمة وحدها هي التي تسود فيها.
ولكن لمَ يتمتع التساديك بكل هذه القوى الخارقة وبكل هذه الإعجازية التي لم تُمنَح لعظماء اليهود في الماضي؟ ولمَ يتمتع وحده بهذه الشفافية وهذه المقدرات؟ يقول الحسيديون إن الشعب اليهودي يوجد الآن في المنفى. ولذلك، يحل الإله في أي إنسان متواضع شأنه في هذا شأن الملك المسافر الذي يمكنه أن يحط رحاله في أي منزل مهما بلغ تواضعه. وعلى العكس من هذا، فلو أن الملك كان في عاصمته، فإنه لن ينزل إلا في قصره وحده. وفي الماضي، كان الزعماء والأنبياء اليهود هم وحدهم القادرون على الوصول إلى الروح الإلهية، ولكن الشخيناه الآن في المنفى، ولذلك يحل الإله في أية روح خالية من الذنوب، أي أن التساديك أصبح تجسيد الإله، ومن ثم وسيلة اليهودي المنفي للوصول إلى الإله. إنها إذن الحلولية اليهودية في المنفى. وبدلاً من أن يحل الإله في أرض الميعاد ويتكون الثالوث الحلولي: الإله، الأرض، الشعب، يحل الإله في التساديك، ويظل الثالوث على حاله بعد تعديل طفيف (الإله ـ التساديك ـ الشعب في المنفى). ويُلاحَظ هنا التشابه القوي بين المسيحية والحسيدية في أن الحلول الإلهي ينتقل من الشعب إلى شخص واحد هو: المسيح في المنظومة المسيحية والتساديك في المنظومة الحسيدية.
ومهما بلغ التساديك من سمو روحي، فليس بإمكانه، ما دام يقوم بأفعاله وحده، تغيير نظام العالم أو الإسراع بالخلاص، فهو، كما تَقدَّم، لم يكن منفصلاً عن جماعته، ولذا فإن سموه الروحي عديم الجدوى بل قد يأتي ذلك بأثر عكسي، فهو حينما يتسامى ولا يلحق به أتباعه (لأنهم لا يمكنهم أن يصلوا إلى الأعالي التي وصلها)، فإن السماء ستحكم عليهم بقسوة ودون رحمة، ولذا سيلحق بهم الأذى نتيجة تقوى التساديك. ولهذا، فلكي يحقق لشعبه إمكانية الالتصاق بالإله من خلاله دون أن يلحق بهم الأذى، عليه أن ينزل من سموه الروحي حتى يرتفع بالناس، ويقود أتباعه إلى النور المقدَّس، فهو يختلط بالناس في السوق بتواضع، ولكنه في الوقت نفسه ملتصق بالإله في أعاليه. ويمكن القول بأن المفهوم الحسيدي الخاص «يريداه لتسورخ هعالياه »، أي «الهبوط من أجل الصعود» أو «التسامي عن طريق الغوص في الرذيلة» هو ترجمة حسيدية معتدلة للتصور الشبتاني للماشيَّح الفاسد ظاهراً الطاهر باطناً.

علي العذاري
12-08-2011, 05:30 PM
وقد كان يرأس كل جماعة حسيدية تساديك خاص بها، له بلاطه الذي يُعَد مركز القداسة الخاص بها، فهو مركز الحلول الإلهي أو اللوجوس الذي يوحد بينهم. وكان التساديك يعيش قريباً من الجماهير محبوباً منهم يتحدث لغتهم، فكان يُدخل على قلبهم الطمأنينة التي افتقدوها في عالم تَعثُّر التحديث والعلمانية والثورة، على عكس الحاخام البعيد عنهم، المنغلق على دراساته التلمودية، وبهذا صار نوعاً من القيادة الكاريزمية التي تتجاوز المؤسسات. وكان المريدون يسافرون يوم السبت إلى بيت التساديك ليسمعوا مواعظه، وليأتنسوا بمشورته، وأحياناً لم يكونوا يزورنه إلا ثلاث مرات سنوياً. وكان التساديك يعيش على معوناتهم. فمن فرط حبهم له، كانوا يساعدونه مالياً، وهو من فرط حبه لهم كان يعتمد عليهم مالياً، أي أن المساعدة المالية كانت وسيلة للارتباط الروحي والعاطفي، فكان يقف المحصل أو الجابي (بالعبرية: الجَبَّاي) على بابه فيكتب اسم المريد ويدوِّن احتياجاته الروحية والمالية، ويقوم التساديك بإسداء النصح له، ويعطيه السيجيلوت أو الصيغة الصوفية التي تضمن له النجاح. وكان لدى التساديك أحجبة لا حصر لها لكل المناسبات والأمراض (وكما هو واضح، فإن البحث عن الصيغة السحرية للتحكم في العالم سمة أساسية في النظم الحلولية). وبعد الزيارة، يقوم المريد بإعطاء المحصل بعض المال (بالعبرية: فيديون)، من أجل الخلاص الروحي وهي اختصار «فيديون نيفيش»، أي «فدية أو خلاص النفس». ويرى أحد المؤرخين اليهود أن هذه العادة تشبه من بعض الوجوه صكوك الغفران المسيحية في العصر الوسيط. وكان التساديك يلبس الأبيض مثل قيادات الجماعات المسيحية كالدوخوبور والخليستي وغيرهما. وكان يبدأ في تفسير تعاليمه لمريديه بعد أن يتناول وجبة الطعام، ويترك فضلات الطعام ليتخاطفها المريدون باعتبارها مصدر بركة.
وبعد انتهاء طقس تناول وجبة الطعام، يقوم المريدون بالرقص والغناء، وكان التساديك يشاركهم هذا الطقس أيضاً. وحينما يموت التساديك، كان يُدفَن في ضريح فاخر يحج إليه المريدون. ويُقال إن بعض المريدين كانوا يقومون بالإدلاء باعترافاتهم أمامه على طريقة الكنائس المسيحية.
وكان بعض القادة التساديك يتصف بالتقوى والزهد والتضحية بالنفس، وكانوا يؤكدون زعامتهم على أساس تفوقهم الأخلاقي والروحي. ولكن بعضهم الآخر أثرى ثراءً فاحشاً أدَّى إلى ظهور عوامل الانحلال بينهم في نهاية الأمر، مثال ذلك حفيد بعل شيم طوف الذي كان يعيش مثل النبلاء البولنديين ويمتلك مهرجاً داخل بلاطه، وكان يطارد أي تساديك حسيدي آخر يدخل منطقته. وكان بعض القادة التساديك يتجولون في عربات تجرها عدة أحصنة مثل النبلاء البولنديين (ومثل جيكوب فرانك من قبلهم). وقد تحوَّل منصب التساديك إلى منصب يتوارثه أعضاء الأسرة. وقد أصبح هذا التوارث القاعدة فيما بعد، الأمر الذي يعكس التأثر بالنظم الإقطاعية البولندية السائدة. وبهذا، أصبحت القداسة، مثل الكهنوت، مسألة داخلية تُورَّث. ولكن الحسيديين يفسرون هذا الفساد باعتباره ضرورياً للوصول (كما هو الحال مرة أخرى مع الماشيَّح)، ولكن توارث القداسة هو في واقع الأمر سمة أساسية في الأنساق الحلولية.
بعل شيم طوف (1700-1760(
Baal Shem Tov
«بعل شيم طوف» هو التساديك الحسيدي إسرائيل بن إليعارز. وكان يُدعَى أيضاً «بشط»، وهي الأحرف الأولى من اسمه. و«بعل شيم» عبارة عبرية تعني «سيد الاسم» أو «الذي تملَّك ناصية الاسم»، والاسم هنا هو اسم الإله (الغنوص)، فمن امتلك ناصيته (أي نطق به واستخدمه بحيث يمكنه التأثير في الإرادة الإلهية) أصبح قادراً على التحكم في الكون من خلال التحكم في الذات الإلهية. والبعل شيم مجموعة من الدراويش اشتهروا بتملُّك ناصية الاسم، وبالتالي بمقدرتهم على الإتيان بالمعجزات. وكان بعل شيم طوف (مؤسس الحركة الحسيدية) أحد هؤلاء، ومعنى اسمه «ذو السمعة الطيبة» أو «صاحب السيرة العطرة»، ولكن هذا الاسم كان يحمل أيضاً دلالة الإتيان بالمعجزات فهو يعني «الذي يعرف اسم الإله».
ويكتنف الغموض حياة بعل شيم طوف، إذ أحاطته الروايات والمأثورات الشعبية بهالة من القداسة، ووُصفَت حياته بأنها سلسلة من الأحداث الخارقة والمعجزات. وكانت روحه تُعَدُّ شرارة الماشيَّح المخلِّص نفسه (الشرارات الإلهية). وحسبما جاء فيما نشر عنه بعد وفاته، فإنه وُلد لأبوين فقيرين في جنوب بولندا، وقد تيتم في طفولته، وقضى أول مراحل شبابه يعمل في المدارس الدينية. وفي العشرينيات من عمره، ذهب إلي الغابات، واشتغل بالأعمال اليدوية، وبدأ دراسة القبَّالاه. ويُلاحَظ أنه لم يدرس التلمود دراسة كافية. وقد أمضى بعل شيم طوف شطراً من حياته متجولاً في بلدان كثيرة داخل بولندا وأوكرانيا يواسي المحتاجين ويشفي المرضى، شأنه في هذا شأن فئة الدراويش من بعل شيم. ومع أنه لم يتلق التعليم الحاخامي اللازم، فإنه كان يلقي المواعظ الدينية. وكان عدد الوعاظ الشعبيين (مُجِّيديم) قد زاد زيادة كبيرة بسبب ضعف اليهودية الحاخامية. وكان اليهود المعادون له يشيرون إلى كسله وغبائه وفشله في إنجاز أي شيء عهد به إليه، ولذا فقد فُصل من كل الوظائف التي التحق بها. أما المريدون، فكانوا يرددون أن بعل شيم طوف كان يتعمد كثرة النوم لأنه كان ينتظر الوحي الإلهي! وكان سلوكه الجنسي مثار النقاش، فأعداؤه يشيرون إلى كثرة النسوة اللائي كن يصحبنه. ولكن يبدو أن سلوكه الجنسي يشبه، من بعض الوجوه، سلوك شبتاي تسفي الذي كان يتأرجح بين الإباحية والشذوذ أحياناً والامتناع عن الجنس أحياناً أخرى. فقد جاء على سبيل المثال في كتاب مدائح بعل شيم طوف أنه امتنع عن معاشرة زوجته جنسياً مدة أربعة عشر عاماً، وأنها حملت ابنهما هرشل من خلال الكلمة (لوجوس). وقد تواترت قصة أخرى عنه مفادها أن فتاة حملت من بعل شيم طوف من خلال دعائه. وكل هذه القصص تبين أثر الفكر الديني المسيحي، وخصوصاً جماعة السكوبتسي (المخصيين) التي نادت بالامتناع عن ممارسة الجنس، وقالت إنه لو أراد الإله
أن تحمل عذراء فإن ذلك سيتم من خلال الروح القدس.
ويبدو أنه تأثر ببيئته السلافية أكثر من تأثره بالمعتقدات الدينية اليهودية، فكان محباً للطبيعة والخمر والخيل، كما كان يدخن الغليون طول الوقت (وقد كان أعداؤه يتهمونه بأنه كان يدخن شيئاً غير الطباق). كما كان يتسم بخشونة الطبع، شأنه في هذا شأن الفلاحين السلاف، وكان يحشو مخه بعدد كبير من الأساطير والقصص الخاصة بالعفاريت والأشباح. كما كان يرتدي ملابس تشبه أردية رجال الحركات الدينية المسيحية المقدَّسين في تلك المنطقة. وقد استقر بعل شيم طوف سنة 1740 في بلدة مودزيبوز حيث أقام مدرسة اجتذبت إليها المريدين والتلاميذ ليحظوا بالراحة النفسية والجسدية. وقد كانت نظرياته مستقاة من مصادر يهودية، وبخاصة القبَّالاه، غير أنه أضاف إليها الكثير من الفلكلور الديني المسيحي بحيث خلق نوعاً جديداً من الفلسفة الصوفية الحلولية. وتتلخص تعاليمه في أن الإنسان يبحث عن وسيلة للالتحام والالتصاق بالإله (ديفيقوت) بل التوحد معه حتى يستطيع التوصل إلى القوة الروحية الموجودة والكامنة في كل شيء. أما وسيلة الإنسان إلى ذلك فهي حب الإله والثقة به والبُعد نهائياً عن الحزن والخوف اللذين يفسدان القلب، وأن يصلي الإنسان بإخلاص وتفان ومرح ونشوة، صلاةً حقيقية تحمي الروح من قيود الجسد وتسمو بها إلى السماء. ويُلاحَظ في كل هذا ابتعاده عن التعاليم الحاخامية الشكلية الجافة التي كانت تؤكد أهمية تنفيذ الأوامر والنواهي بدقة شديدة. وقد كان لتعاليم بعل شيم طوف هذه تأثير قوي، وكانت أقواله تبعث الدفء والمرح في نفوس مريديه من اليهود.
ولم يترك بعل شيم طوف أية كتابات باسمه ما عدا بضعة خطابات. ولكن تعاليمه الشفوية ظهرت مطبوعة بعد عشرين عاماً من موته، في ثمانينيات القرن الثامن عشر، وظهرت القصص التي كانت تُتداوَل عنه عام 1814. ومن أهم الكتب عن أقواله وأفعاله والقصص التي نسجت حوله كتاب مدائح بعل شيم طوف. والجدير بالذكر أن أقواله وتعاليمه قد ساهمت في فصل يهود اليديشية عن واقعهم التاريخي، وهذا ما جعلهم أكثر تَقبُّلاً للأفكار الصهيونية. كما تأثر بأفكاره كثير من المفكرين الصهاينة، وخصوصاً الفيلسوف الوجودي الصهيوني مارتن بوبر.
دوف بير (واعظ ميجيريك) (1704-1772(
Dov Ber (The Maggid) of Mezhirech
ويُعرف أيضاً باسم «هامجيد»، أي «الواعظ المتجول»، وهو المؤسس الحقيقي للحركة الحسيدية وخليفة بعل شيم طوف، تلقَّى تعليماً دينياً تقليدياً في إحدى المدارس التلمودية العليا. ثم بدأ يعمل واعظاً متجولاً إلى أن وصل إلى مدينة ميجيريك في مقاطعة فولونيا التي أصبحت واحداً من أهم مراكز الحركة الحسيدية. ويُقال إنه أصبح من الزهاد الأمر الذي أثر في صحته، وذهب يبحث عن دواء لدائه عند بعل شيم طوف مؤسس الحركة الحسيدية الذي ذاع صيته كأحد الموآسين. وقد قال دوف بير « إن بعل شيم طوف كشف له لغة الطير والأشجار، وأسرار القديسين والتجسدات الربانية، وأنه بيَّن له كتابات الملائكة وشرح له المغزى الكامن في حروف الأبجدية العبرية ». وعندما مات بعل شيم طوف عام 1760، أصبح دوف بير زعيم الحركة عام 1766 رغم معارضة جيكوب جوزيف له، ورغم أنه كان مريضاً قعيداً في الفراش، ورغم أنه لم يكن رجلاً شعبياً مثل بعل شيم طوف. ولعله نجح في أن يصبح زعيم الحركة لأن شخصيته كاريزمية إلى درجة أن أتباعه قاموا بتقديسه، فكان بعضهم يزوره ليرى كيف يلبس حذاءه ويربط رباطه، فكأن كل فعل يقوم به، مهما ضؤلت قيمته، له معناه. وقد نقل دوف بير مركز الحسيدية من بودوليا إلى فولونيا، الأمر الذي سهَّل عملية انتشارها، كما قام بحركة تبشيرية بين طبقات جديدة وفي مناطق جديدة في بولندا بأسرها، ولذا يُعتبر نشاطه البداية الحقيقية للحسيدية كحركة وعقيدة. وتحت قيادته، انتشرت الحسيدية في أوكرانيا وليتوانيا وبوزنان وتَجذَّرت في وسط بولندا، ومن ثم تحولت إلى أهم حركة شعبية بين يهود اليديشية، ويُقال إن سلوكه الشخصي هو الذي أدَّى إلى ظهور مؤسسة التساديك بشكل عملي، رغم أنه لم يكن له إسهامات نظرية في هذا المجال. وقد أصبح أتباعه زعماء الحركة الحسيدية.
ولا شك في أن دراسته للتلمود ساعدته كثيراً على صياغة العقيدة الحسيدية بطريقة تشكل تحدياً للمؤسسة التلمودية. فقد جعل الحسيديين يتبنون الشعائر اللوريانية (السفاردية)، وغيَّر بعض تفاصيل الذبح الشرعي، وبذلك جعل جماهيره غير خاضعة للقيادات الحاخامية التلمودية التقليدية التي تحكمت في الجماهير من خلال الشعائر، وخصوصاً الذبح الشرعي. وقد شجع دوف بير الشباب على إهمال دراسة التوراة ليعيشوا تجربتهم الدينية بشكل عاطفي ومباشر، مبتعدين بذلك عن الطقوس الجامدة الخالية من الروح التي تفرضها المؤسسة التلمودية. والعبادة عند أتباعه كانت تأخذ شكل رقص وشطحات. وقد اتهمته المؤسسة الحاخامية بالكفر والحلولية، فصدر قرار بطرده من حظيرة الدين في فلنا قلعة الأرثوذكسية.
ونسق دوف بير نسق حلولي غنوصي واحدي وصل إلى مرحلة وحدة الوجود، فالعالم هو الإله «ولا يوجد مكان لا يشغله الإله». فالتجليات الربانية التي تتبدَّى من خلال كل الكائنات والتي تملأ الفراغات والثغرات تجعل الوصول إلى جذور الوجود من خلال التأمل الداخلي أمراً ممكناً. والتساديك من ثم هو الإنسان الذي يتمتع بعلاقة خاصة مع الإله. والهدف من وجود الإنسان هو أن يلغي الوجود المتعين للواقع الذي يكتسب تعيُّنه من خلال الحدود المفروضة عليه ويعود إلى حالة الآيين (العدم) وهي حالة اللا تحدد التي تسبق الخلق («الإله خلق الوجود من العدم وهو يخلق العدم من الوجود»). فالعدم (وحالة السيولة الرحميّة الكونية ـ الحالة الروحانية التامة اللا إنسانية) هي نقطة البدء الأولى ونقطة العودة النهائية، فوجود الإنسان في هذا الكون عملية عذاب وسقوط في الحدود (كما هو الحال دائماً في الأنساق الغنوصية). بل إن الحالة الإنسانية نفسها هي حالة خلل، إذ أنها حالة تُفرض فيها حدود على الإنسان. لكل هذا، تُعتبَر مرحلة الوجود هذه مرحلة مؤقتة تسبق المرحلة النهائية، ومرحلة العدم التي تنتفى فيها الحدود، وهي الحالة التي يسعى إليها كل إنسان، سقط في هذا الكون. وقد نزلت الروح من الأعالي حتى ترتفع بالوجود المادي المحدود من خلال تساميها الروحي الذي لا حدود له، وهي بذلك تستعيد حالة الوحدة التامة (حالة وحدة الوجود) وانتفاء الحدود. عندئذ تصبح الصلاة، بل كل الشعائر (رمز الحدود المفروضة على الإنسان ووسيلته لإظهار طاعته للإله)، تصبح (داخل الإطار الحلولي) الطريقة التي يفقد بها الإنسان ذاتيته ويتجاوز حدوده فيلتصق بالإله ويصبح جزءاً منه. بل إن كلام مثل هذا الإنسان (الذي ينجح في تجاوز حدوده) يتحول من كونه كلاماً عادياً إلى كلام إلهي مقدَّس. بل إن عملية العبادة بأسرها تفقد حدودها وهويتها، فأي فعل يأتي به الإنسان هو شكل من أشكال العبادة.
وكما هو الحال دائماً مع الأنساق الغنوصية، ليس هناك وجود حقيقي للشر، فالعالم كله سلسلة واحدة متصلة، وما يبدو منها شراً إن هو إلا حلقة في السلسلة. ومن هنا ظهرت فكرة «عفوداه بجاشيموت»، أي «الخلاص بالجسد» كوسيلة لجمع الشرارات الإلهية (نيتسوتسوت)، وهي فكرة تعني أن أفعال الإنسان، مهما تدنت وتدنست، هي وسيلة للالتصاق بالإله (ديفيقوت) وعوناً له على استعادة وحدته. ولعل إحساس دوف بير بأن مثل هذه الأفكار قد تفتح الباب على مصراعيه مرة أخرى للعدمية الشبتانية جعله يتراجع قليلاً ويقول إن الالتصاق يجب أن يكون روحياً وحسب، وأن على اليهودي أن يراعي الشعائر بدقة بالغة. وقد ذهب إلى أن القداسة من خلال الجسد (والدنس) أمر صعب على البشر العاديين، ولذا جعله مقصوراً على الرجال المتميزين (فهم وحدهم الذين يمكنهم تجاوز مقولات الخير والشر كأبطال نيتشه(.
وقد أعاد دوف بير تفسير مفهوم الانكماش (تسيم تسوم)، فتخلى عن المفهوم اللورياني الذي يذهب إلى أنه عملية انكماش في ذات الإله، إذ يذهب بدلاً من ذلك إلى أن التسيم تسوم إنما هو في واقع الأمر زيادة في التجليات. ويختلف معنى التسيم تسوم حسب زاوية الرؤية والإدراك، فزاوية المعطي غير زاوية المُتلقِّي، فهي شكل من أشكال التجلي والمعرفة التي تفرض على الإله أن يتبدَّى حسب قوانين العقل. فانكماش الضوء يشبه تَبدِّي الفكر من خلال الصوت والكلام. وبذا، ينجح دوف بير في أن يبتعد عن فكرة الكارثة الكونية الموجودة في مركز المنظومة اللوريانية، فلا يصبح حادث تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) كارثة داخل الذات الإلهية وإنما واقعة تهدف إلى إشاعة النور، تماماً مثل الترزي الذي يقطع ليحيك، ومن ثم يتم تقديم حادثة تَهشُّم الأوعية من خلال مصطلحات نفسية مثل «القلب الكليم»، وهو أمر لا يحدث في الذات الإلهية وإنما في حياة الإنسان. وحيث إن الكارثة الكونية انتقلت من الإله والكون إلى الإنسان، فإن النسق يتخلص بالتالي من أي نزوع نحو التفجر المشيحاني. فالحياة عملية خلاص روحية مستمرة، ولم تعد حادثة تاريخية قومية واحدة. وعلى كل، فإن مثل هذا الانتقال ليس أمراً صعباً داخل الأنساق الحلولية التي تلغي كل الثنائيات والتعددية، وفي القبَّالاه نجد أن الميكروكوزم (الإنسان) هو الماكروكوزم (الكون)، ولذا فالانتقال من الخارج إلى الداخل (والعكس) أمر متيسر للغاية وأصبح الصراع بين الخير والشر يتم في المجال الفردي وأصبح إصلاح الخلل الكوني عملية فردية، وتيقون آدم قدمون (إصلاح آدم القديم أو الرمز الكامل للإنسان) مرتبط تماماً بالآدم تحتون (أي آدم السفلي أو التحتي). ويُعَدُّ هذا من أهم إسهامات الحسيدية التي استوعبت النزعة المشيحانية داخل النفس اليهودية ومنعتها من التفجرات التي تؤدي إلى كوارث، كما حدث في حالة شبتاي تسفي وغيره من المشحَّاء المخلصين
الدجالين. ولكنها، مع هذا، ضمنت لها الاستمرار في حالة كمون، إلى أن حانت اللحظة التاريخية، فظهرت مرة أخرى في إطار الصهيونية.
ولم يترك دوف بير أي كتب، ومع هذا فقد استُخلص نسقه الفكري والعقائدي من تفسيراته للعهد القديم والتلمود. وقد جُمعت بعض أقواله في كتاب بعنوان ليقوطي أماريم (مجموعة الأقوال)، و ماجيد دفاراف ليعقوف (الذي يخبر يعقوب أقواله(.
إليميليك الليجانسكي (1717-1787(
Elimelech of Lyzhansk
تساديك حسيدي، من تلاميذ دوف بير، وأحد مؤسسي الحركة الحسيدية في جاليشيا. تجوَّل هو وأخوه في جاليشيا وغيرها من الأماكن، باعتبار أن تجوالهما هذا تعبير عن تجوال الشخيناه (التجلي الأنثوي للحضرة الإلهية). وبعد موت دوف بير، استقر إليميليك في ليجانسك في جاليشيا التي أصبحت من ثم مركزاً للحسيدية وأسس بلاطه فيها.
وقد أكد إليميليك أهمية التساديكية في النسق الحسيدي، فهو أهم من الملائكة، بل هو قادر على التأثير في الأعالي، وعلى حد قوله: «التساديك يشاء، والإله ينفذ». فكل قول من أقوال التساديك يتحول إلى ملاك يؤثر في الأعالي. والتساديك يخوض حرباً تهدف إلى التصاقه هو والجماعة بالإله والصعود إلى المطلق. والتساديك يعيش في الأرض في الظاهر ولكنه في الواقع يعيش في السماء.
ويذهب إليميليك إلى أن ثمة نوعين من أنواع السقوط: السقوط من أجل إصلاح الخلل الكوني (تيقون) والسقوط من أجل الشيطان. والسقوط من أجل إصلاح الخلل الكوني عملية طوعية. فالتساديك يعرف أن عليه أن يصلح من حال جماعته، ولذا فعليه أن يهبط إلى مستواها ليصعد بها. أما السقوط من أجل الشيطان، فهو أمر تلقائي وتعبير عن قوى داخل التساديك وداخل جماعته. ومهما كان الأمر، فعلى التساديك أن يتوحد مع جماعته وبالتالي يتحول المدنَّس إلى مقدَّس. وسقوط التساديك ومقدرته على ارتكاب الخطيئة أمر أساسي لقيادته إذ سيعوقه فشله في السقوط عن السمو بنفسه وبجماعته. وسموه بعد سقوطه سيصل إلى مرتبة أعلى من تلك التي كان يشغلها من قبل، ومن ثم فالشر هو الذي يدعم القداسة. والتغلب على الشر يكون بالاستسلام له، كما أن هزيمة المادة تكون بتقبلها تماماً، أي أن ثنائية الخير والشر يُقضَي عليها بأن يتحول الشر إلى خير، وهو أمر سيعجل بمجيء الماشيَّح، وهي اللحظة التي سيعود فيها الجميع إلى الوحدة الأصلية.
وفكر إليميليك فكر حلولي متطرف يظهر فيه التساديك باعتباره إلهاً في الأرض تتحول كلماته إلى ما يشبه التعويذة السحرية التي تؤثر في الإرادة الإلهية. كما أن أثر الشبتانية واضح للغاية في كتاباته وتأخذ شكل محاولة محو الثنائية الأخلاقية. ويُقال إن حياته الشخصية كانت مليئة بالسقطات الأخلاقية المتعددة. ولكن داخل الإطار الحلولي، لا يمكن تسمية السقطات الأخلاقية «سقطات»، فما هي إلا آلية من آليات الصعود وجزء لا يتجزأ من الخير النهائي. ومن أهم مؤلفاته نُوعَم إليميليخ (بهجة إليميليك)، و ليقوُّطي شوشانيم (مقتطفات الزهور).
مناحم البراتسلافي (1772-1811(
Menahem of Bratslav
تساديك حسيدي في بودوليا وأوكرانيا ومؤسس فرقة براتسلاف الحسيدية، وهو حفيد بعل شيم طوف من ناحية الأم، وحفيد أحد القادة الصوفيين (قبل ظهور الحسيدية) من ناحية الأب. وقد كانت أمه معروفة بأنها «ممن تملكتهم الروح المقدَّسة». تزوج مناحم في سن مبكرة ونشأ في بيت حميه، وكان من يهود الأرندا. ثم انتقل إلى مقاطعة كييف بعد أن تزوج حموه للمرة الثانية. زار فلسطين في بداية حياته وعاد عندما وصلت حملة نابليون على مصر إلى فلسطين. وقد اتُهم منذ مطلع حياته بأن تعاليمه ذات طابع شبتاني فرانكي، بل اتهمه بعض القادة الحسيديين بأن سلوكه إباحي داعر، واتهمهم هو بأنهم من أتباع الشيطان.
كان مناحم البراتسلافي يدَّعي أنه استمرار لسلسلة طويلة من المفكرين اليهود المتصوفين تبدأ بشمعون بريوحاى وتنتهي ببعل شيم طوف مروراً بإسحق لوريا. وهو محقّ تماماً فيما يقول وإن كان قد قام ببلورة بعض الأفكار الحلولية في أنساقهم الفكرية ودفعها إلى نتيجتها المنطقية، وهذا ما أثار ذعر كثير من القيادات الحسيدية. ونسق مناحم حلولي متطرف فالإله هو الإين سوف (اللامتناهي) الذي خلق العالم وحلَّ فيه كله، من ضمنه عالم الشر والمحارة (قليبوت). ولذا، حينما يغوص الإنسان في حمأة الرذيلة، فإنه حتماً سيجد الإله. وهو يفسر مفهوم الانكماش (تسيم تسوم) تفسيراً يوحِّد بين الشر والخير، فالانكماش يؤدي إلى انسحاب الإله من ذاته بل إلى اختفائه (شحوب الإله وموته)، ومن ثم يؤدي إلى خلق فراغ. ولكن الفراغ في الأعالي يعني، في واقع الأمر، الامتلاء الأرضي، أي الحلول الإلهي في كل كائنات الكون.
والانكماش يؤدي إلى ظهور الفراغ، والفراغ قد يطرح على الإنسان بعض الأسئلة النهائية ويولد الشك في نفسه. ولكن هناك سؤالاً آخر ينبع من تحطُّم الأوعية (شفيرات هكليم). وحسب هذه النظرية، فإن الانكماش أدَّى إلى ظهور المحارة، وهذه المحارة هي الدراسات العلمانية، مصدر الشك والهرطقة. فالأسئلة الكبرى تأتي من الفراغ، ثم من خلال الصمت. ولذا، فإن الإجابة عنها لا تكون إلا «بالصمت المقدَّس» (وهي من عبارات جيكوب فرانك الأثيرة). والصمت المقدَّس هو الإيمان الأعمى، الذي يتجاوز الشك تماماً ويصل إلى الجوهر الإلهي، وهو أمر غير متاح للإنسان إلا بأن يعبد الإله بطريقة مباشرة ساذجة. ولذا، عارض مناحم دراسة الفلسفة. فالإيمان يبتدئ حينما ينتهي العقل. وحالة المنفى مستمرة بسبب ضعف الإيمان، فالخلاص إن هو إلا حسم كل التناقضات والشكوك. ولكن السقوط في الشك ليس أمراً سيئاً تماماً، فالسقوط شرط من شروط الصعود.
وتشكل الأرض عنصراً أساسياً في نسق مناحم الذي يذهب إلى أن الإنسان الذي يعرف كيف يتكيف مع إيقاع الكون يمكنه أن يفقد ذاته من خلاله، ومن ثم يكشف الإله له نفسه من خلال المراحل المختلفة في الطبيعة فيستطيع الإنسان الالتصاق به. وأرض إسرائيل تعطي الإنسان اليهودي الفرصة لهذا الالتصاق بالإله. وكان مناحم يدَّعي أنه أصبح أعظم القادة التساديك لأن جو أرض إسرائيل قد منحه الحكمة.
وحتى الآن، لا يختلف نسق مناحم عن الأنساق الحلولية والقبَّالية المختلفة، ولكن تطرفه الشبتاني يظهر في مفهوم التساديك عنده، وهو مفهوم متأثر بالأجواء المسيحية من حوله. فقد أكد مناحم البرتسلافي دور التساديك باعتباره الماشيَّح، وكان يذهب (على عكس الحسيديين) إلى أنه لا يوجد سوى تساديك واحد وأنه هو، بل كان يذهب إلى أنه هو الماشيَّح ابن داود والماشيَّح ابن يوسف الذي يجسد كل ما يحدث في الأرض والعوالم السماوية، القادر على أن يهدي أتباعه وأن يحول صلواتهم وأدعيتهم حتى تصبح أداة للخلاص، ولذا لابد أن يسافر له أتباعه حتى يستمعوا إلى الكلمة من فمه. ومن المعروف أن أتباع أي تساديك حسيدي كانوا يزورونه بشكل دائم خلال العام (كل يوم سبت عادةً)، أما أتباع مناحم فكانوا لا يزورونه سوى ثلاث مرات كل عام (رأس السنة، وعيد التدشين، وعيد الأسابيع)، وكانت أهم المناسبات هي رأس السنة، وهو في هذا يشبه الإله الحالّ (الذي يراه أتباعه) والإله المفارق (فهم لا يرونه إلا ثلاث مرات). وبالفعل، كان مناحم يعلِّم أتباعه أن التساديك الماشيَّح (مناحم نفسه) يقلد الإله في أفعاله، باعتباره تجسد الكلمة. بل إنه يعلِّم الإله كيف يتعامل مع شعبه، فالتساديك الماشيَّح ليس واسطة بين الشعب والإله بل هو أيضاً واسطة بين الإله والشعب، فكأنه هو (وليس الإله أو الشعب) مركز الكون، ولذا فالتواصل معه يساعد على الإسراع بعملية إصلاح الخلل الكوني (تيِّقون) التي يقوم بها اليهود.
وكان أتباع مناحم يقومون بالاعتراف بين يديه (على عادة المسيحيين) وبهذا كانوا يطرحون عليه ذنوبهم باعتباره التساديك (الماشيَّح) الذي كان يصف الطرق المناسبة للندم، أي أنه كما تَقدَّم قادر على غفران الذنوب، ولكن الخير والشر هنا جزء من منظومة حلولية سحرية تتجاوز الخير والشر.
والتساديك يرى أتباعه كما لو كان إلهاً، وهو يصوِّر لهم أنه سوف يعيش إلى الأبد، سواء كان يعيش على الأرض أو في مقبرته. ولذا، أوصى مناحم أتباعه ألا يختاروا خليفة له من بعده «لأنني أود أن أكون معكم دائماً وستأتون لزيارتي وأنا في قبري». وهذه أقوال تشبه أقوال المسيح لحوارييه. ولعل هذا الجانب من فكره هو الذي أفزع المؤسسة الحسيدية، إذ أن التساديك قد تحوَّل حرفياً إلى إله (بل تذهب بعض المراجع إلى أن أتباعه كانوا يعبدونه بالفعل(.
وقد كانت حياة مناحم مليئة بالمآسي إذ مات ابنه (الذي كان يتصور أنه سيخلفه في المشيحانية) ثم ماتت زوجته، وأصيب هو بالسل، بل إن مدينة براتسلاف نفسها احترقت وفيها منزله، فاضطر إلى الانتقال إلى مدينة أخرى ومنزل آخر. وقد فسر فشله هذا بأن جيله غير ملائم لتحقيق رؤيته المشيحانية.
ويمكن القول بأن مناحم هو النقطة التي تظهر فيها العلاقة البنيوية الوثيقة بين الشبتانية من جهة والحسيدية من جهة أخرى، وأنهما مجرد تجليين مختلفين لنفس الحلولية في مرحلة وحدة الوجود. وإن كان يمكن القول بأن فكر مناحم يبين أثر التربة المسيحية السلافية القوي إذ يتركز الحلول في شخص واحد، ماشيَّح ينزل كإله للبشر ويأخذ خطاياهم ثم يقوم، أي أنه حلول شخص مؤقت منته على الطريقة المسيحية، وليس حلولاً جماعياً مستمراً دائماً على الطريقة اليهودية.
وقد قام نيثان سترنهارتز، تلميذ مناحم وسكرتيره وتلميذه، بجَمْع تعاليم مناحم والأقاصيص التي تُروَى عنه. ومن بين هذه الكتب حايبي موران (1826) (حياة موران ـ معلمنا الراب مناحم). كما توجد عدة كتب خفية كتبها نحمان من بينها سيفر هانسراف (الكتاب المحروق) حيث طلب مناحم نفسه أن يُحرَق، و سيفر هاجانوز (الكتاب المخفي) وهو كتاب لن يفسره إلا الماشيَّح، وهناك كذلك مجيلات هايسترايم الذي يلعب فيه مناحم دور المسيح بن يوسف والمسيح بن داود.
ولم يحقق اتجاه مناحم الحسيدي شيوعاً كبيراً إبان حياته، فلم تكن حركته تضم سوى بعض الفقراء وصغار التجار. وبعد موته، قام تلميذه نيثان بتنظيم الحركة ثم قام الحسيد مناحم (من تولكين) بقيادة الحركة بعد موت نيثان، وبدأت الفرقة في الانتشار والشيوع واستمرت في الوجود إلى ما بعد اندلاع الثورة البلشفية. ويوجد الآن فرع للحركة في إسرائيل.
جيكوب جوزيف تسفي هاكوهين (؟ -1810(
Jacob Joseph Zevi Hakohen
أحد قادة الحركة الحسيدية وأحد مُنظِّريها الأوائل، وقع تحت تأثير بعل شيم طوف عام 1741، ولكنه لم يخلفه بعد موته. يُعَد مؤلفه سيفر لتوليدوت يعقوب يوسف (كتاب تاريخ يعقوب يوسف) (1780) الذي يحوي بعض مواعظ وأقوال بعل شيم طوف أول كتاب نظري عن الحسيدية: سواء في محاولته تعريف فلسفة الحسيدية أو في هجومه على المؤسسة الحاخامية وممثليها.
وتعاليم جيكوب جوزيف حلولية وصلت مرحلة وحدة الوجود، فالإله موجود في كل شيء، ولا يمكن تجاوز الشر إلا بالقول بأن الخير والشر ممتزجان تماماً، وهدف الإنسان في الوجود الالتصاق بالإله وهو أمر لا يمكن أن يحققه إلا عن طريق الفرح. وصلاة المرء يجب أن تكون ممتزجة بالفرح، ولكنها في حد ذاتها لا تجدي فتيلاً إذ أن التساديك هو وحده القادر على أن يغير الإرادة الإلهية.
والجماعة تشبه الكيان العضوي، فهناك العامة من جهة وهناك العَالم أو التساديك من جهة أخرى. فالعامة هم القدم أما التساديك فهو الرأس والعيون، والعامة هم الجسد أما التساديك فهو الحياة والروح. ولذا، فإن عملية الالتصاق بالإله والتوحد معه لابد أن تتم بشكل عضوي جماعي. ولكن التساديك هو المسئول عن أن يبذل جهده للسيطرة على الجسد، وعليه أن ينزل من عليائه ليؤثر في العامة، ولكن لا يمكنه التأثير فيهم وتوحيدهم كجماعة عضوية إلا بأن يصبح مثلهم فيرتكب الرذائل من أجل تنفيذ مهمته. وحيث إن الإنسان اليهودي العادي لا يمكنه قراءة التوراة بسبب جهله، وهو ليس مسئولاً عن هذا الأمر، فإن الإله سيغفر له ذنوبه شريطة أن يتحد والإله من خلال التساديك. فالتساديك وسيلته الوحيدة للخلاص، وهو الذي يعرف التوراة الظاهرة (توراة الخلق) والتوراة الباطنة (توراة الفيض والتجليات). ولذا، فإن على اليهودي أن يؤمن بالتساديك إيماناً أعمى، دون تفكير أو شك في أسلوب التساديك في الحياة، حتى لو كان فاسداً أو فاسقاً، لأن كل أفعاله تتم من أجل السماء!
ورجل المادة (اليهودي العادي) عليه أن يعول التساديك مالياً حتى يتسنى له أن يكرس كل وقته لدراسة التوراة والصلاة. وقد هاجم جيكوب جوزيف الحاخامات الذين أكدوا أهمية دراسة التوراة وأهملوا الجوانب الأخرى من الحياة الدينية (مثل محاولة الالتصاق بالإله)، فبيَّن أنهم مرتزقة متعجرفون قصيرو النظر غارقون في الجدل المجدب، بل صفهم بأنهم » شياطين يهودية مساوية للشيطان، تنزع نحو الشر، دراستهم للتوراة تهدف إلى تضخيم الذات وتعظيمها. «
ومن أعمال جيكوب جوزيف الأخرى بن بورات يوسف (يوسف كرمة مثمرة) (1781) وهو شرح قبَّالي لسفر التكوين. وله أيضاً تعليقات على سفر اللاويين والأعداد، وقد نشر ابنه أعماله.
ليفي إسحق بن مائير البيردشيفي (1740-1810(
Levi Isaac Ben Meir of Berdichev

علي العذاري
12-08-2011, 05:44 PM
تساديك حسيدي من أهم شخصيات الجيل الثالث من القيادات الحسيدية، تَعرَّف إلى بعل شيم طوف وتتلمذ على يد دوف بير وأصبح من أهم تلاميذه، عمل حاخاماً بعض الوقت ثم أصبح بعد ذلك تساديك، وقد أخذ موقفاً متشدداً للغاية من المتنجديم، ولكنهم طاردوه من مكان لآخر فاضطر إلى أن يترك وظيفته كحاخام في زيلخوف ثم في منسك.
وفكر ليفي فكر حلولي متطرف يدور داخل نطاق الدائرة الحلولية المغلقة الثلاثية (الإله - الشعب - الأرض) في مرحلة وحدة الوجود. فالإله داخل هذا الإطار جزء لا يتجزأ من الشعب اليهودي، منفي معه ويتجول معه. والعالم بأسره (الأرض والسماء) لم يخلقه الإله إلا من أجل هذا الشعب اليهودي.بل إن الإله يأخذ في الشحوب وتحل محله إرادة الإنسان (اليهودي)، وخصوصاً التساديك، فهو القناة الموصلة بين الإله والشعب ومركز الكون.
وداخل هذا الإطار، اشتهر ليفي إسحق بأنه من أكثر المدافعين عن الشعب اليهودي ضد الإله. فقد ورد عنه أنه قال: "اسمع يا إلهنا، إن أصدرت يوماً ما قراراً قاسياً ضد اليهود، فنحن القادة التساديك لن ننفذ أوامرك!". وفي مرة أخرى، قال موجهاً كلامه للإله: "إن الشعب يصلي لك ويخدمك وأنت تجرؤ على أن تشكو من جماعة يسرائيل". ومن أشهر القصص عنه أنه استدعى الإله مرة في محكمة دينية ليفسر هذا العذاب الذي يُلحقه بشعبه المختار ولماذا يطلب من شعبه الكثير دائماً.
وليفي إسحق دفع الأطروحات الحلولية إلى نهايتها المنطقية (الكوميدية) وهي تحوُّل التساديك إلى ما يشبه الإله، وهو ما يبين الجذور الشبتانية والفرانكية للحسيدية.
عذراء لادومير (1815-1905(
Virgin of Ludomir
«عذراء لادومير» هي فتاة تُدعَى حنه بربر ماخر. كانت على إلمام كامل بالتراث التلمودي، كثيرة الصلاة، فانتشرت عنها الشائعات بأنها شخصية مقدَّسة، وأنها تساديك. وكانت مخطوبة لرجل تحبه، ولكنها بعد وفاة أمها، ألم بها المرض وقيل إن روحها صعدت إلى السماء، حيث تلقت روحاً جديدة أكثر سمواً. وبعد ذلك فسخت خطبتها، وبدأت تعيش حياة الرجال وتقيم الشعائر التي لا يُسمَح إلا للذكور بإقامتها، ومنها ارتداء شال الصلاة وتمائمها. وبنت بيتاً للعبادة، وكانت تقدِّم المواعظ للناس من غرفة مجاورة. وذاعت شهرتها، وبدأ يحج إليها الآلاف بسبب معجزاتها. وتجمَّع حولها مجموعة من الحسيديين، كانوا يُعرَفون باسم «حسيديو عذراء لادومير». وقد كانت عذراء لادومير ترفض الزواج، ولكنها في نهاية الأمر تزوجت مرتين (اسمياً) ثم طُلقت، ففقدت شعبيتها وهاجرت إلى فلسطين.
ومن الواضح أن حادثة عذراء لادومير تعبِّر عن تغلغل الرموز المسيحية في اليهودية. ففكرة العذراء التي تقوم بدور قيادي ليست فكرة يهودية. كما يُلاحَظ أثر جماعة الخليستي المسيحية الصوفية التي كانت تؤمن بالحمل بلا دنس. ولكن الواقعة تعبِّر أيضاً عن تزايد معدلات العلمنة، وأثر فكر الاستنارة وتحرير المرأة أو ربما التمركز حول الأنثى.
أسر وجماعات وحركات حسيدية
Hassidic Dynasties, Groups, and Movements
بعد أن مرت الحركة الحسيدية بمرحلتها الأولى الشعبوية (والتي كانت تتميَّز بوجود قيادات كاريزمية قوية) بدأت تتحول إلى مؤسسات روتينية. وبما أن القداسة في المنظومات الحلولية يتم توارثها، فقد تم توارث القداسة المتركزة في التساديك باعتباره موضع الحلول والكمون من خلال أحد أبنائه، وتكوَّنت الأسر الحاكمة الحسيدية. ومن أهم الأسر الحاكمة أسرة جيدا خوف وأسرة شنيرسون. كما ظهرت جماعات حسيدية مختلفة هي أقرب إلى الأسر في ترابطها منها إلى شيء آخر، وينتمي أعضاء الجماعة إلى مدينة أو منطقة واحدة وبين هذه الجماعات جماعة جور وسبنكا وفيشنيتس وروزين. أما الحركات الحسيدية فمن أهمها حركة حبد وحركة الموسار.
جيدا خوف (أسرة(
Zhidachov Dynasty
أسرة حسيدية مؤسسها تسفي هيرش أيختشتاين (1785 ـ 1831) الذي درس القبَّالاه في شبابه وتأثر ببعض القادة التساديك الحسيديين، كما حاول أن يعمق من التيار اللورياني في الحسيدية ذاهباً إلى أن الحسيدية لا يمكن فهمها دون دراسة القبَّالاه اللوريانية. وقد اتسم تلاميذه بولائهم الكامل والواضح للقبَّالاه اللوريانية. وكان بين أتباعه إيزاك أيزيك (1804 ـ 1872) الذي كتب بعض الأعمال الحسيدية التي تستند إلى أسس قبَّالية وتشكل حلقة وصل بين القبَّالاه والحسيدية.
حبد (حركة(
Habad
«حبد» اختصار للكلمات العبرية الثلاث: «حوخماه» و«بيناه» و«دعت»، أي «الحكمة» و«الفهم» و«المعرفة». وهي أعلى درجات التجليات النورانية العشرة (سفيروت). وحبد حركة حسيدية أسسها شنياءور زلمان في روسيا البيضاء في قرية لوبافيتش (ولذا يشار إليها أحياناً على أنها «حركة لوبافيتش» ويُشار إلى قائد الحركة على أنه «اللوبافيتشر ربي» أي «حاخام لوبافيتش»). ويكمن الاختلاف بينها وبين الحركة الحسيدية الشعبية المعروفة في أنها أقل عاطفية وأكثر فكرية رغم صوفيتها وحلوليتها، فالتجليات العاطفية جاءت بعد التجليات الفكرية. كما أنها تبتعد عن بعض المفاهيم الحسيدية المتطرفة مثل "التسامي عن طريق الغوص في الرذيلة". والنسق الفكري عند حبد نسق حلولي قبَّالي.
وقد طوَّر شنياءور زلمان فكرة الانكماش (تسيم تسوم) فذهب إلى أن الإله لا ينكمش داخل نفسه، وإنما يتوارى وحسب، حتى يبدو العالم وكأنه منفصل عنه، ولكن الأمر ليس كذلك. ومن خلال التأمل لكل سلسلة المخلوقات، كما وردت في القبَّالاه، يستعيد الإنسان في عقله كل شيء حتى يصل إلى الإين سوف. ومن ثم، فهو يقوم بعملية التوحيد من أسفل، أي أنه ينجز الإصلاح الكوني من خلال عقله. فالذات الإلهية في تَوحُّدها ليس لها وجود خارج حالة الإنسان العقلية. ويُقال إن شيناءور زلمان قد قال وهو على فراش الموت إنه لم يَعُد يرى غرفة أو أثاثاً، وإنما الطاقة الإلهية وحسب، وهي الحقيقة الحقة. وقال أيضاً: "من الإله؟ إنه ما ندركه. وما الدنيا؟ هي المكان الذي يتم فيه الإدراك. وما الروح؟ هي أداة الإدراك". ويتردد في كتابات حبد عبارة حسيدية هي «بيطول هاييش» أي «نفي الوجود»، وهي تعني أن العالم المادي ليس له وجود حقيقي، وأن هذا العالم هو الإله، وأن الحضور الإلهي يحل في مادته، كما تعني أيضاً أن على الإنسان أن يفني ذاته في الذات الإلهية تماماً. ولكن حبد تذهب أيضاً إلى أن كل يهودي يوجد داخله جزء من الإين سوف. ووفقاً لنسق حبد، فإن الإنسان له روحان: إحداهما الروح الإلهية (نيفيش إلوهيت)، والثانية الروح الحيوانية أو البهيمية (نيفيش ها بيهيميت). والإنسان هو ميكروكوزم، أي نموذج مصغر للعالم، وهو أيضاً حلبة صراع لقوى الخير والشر التي تتصارع في الكون (ولكن الشر هو السترا أحرا أو الجانب الآخر للإله، حسبما جاء في القبَّالاه). ويوجد طريق وسط يجمع بين الشيئين، وهو المحارة التي التصقت بها الشرارات الإلهية حسب العقيدة القبَّالية. وتنقسم أرواح البشر، وفقاً لدرجة تجلِّي القوى الإلهية (سفيروت) فيها، فالأرواح العليا تجسِّد القيم الثلاث العليا، أي: الحكمة والفهم والمعرفة، كما أنها تتصف بشدة القوى العاطفية. أما الأرواح البهيمية، فتتبع الشهوات.
واليهودي العادي حلبة صراع بين العواطف والشهوات من جهة، والقوى العقلية من جهة أخرى. وبمقدوره أن يسيطر على رغباته الشريرة من خلال الحكمة والفهم والمعرفة، وبإمكان الإنسان أن يصل إلى خشية الإله من خلال التأمل في صفاته، الأمر الذي يقوده إلى حبه والالتصاق به والتوحد معه (ديفيقوت). وقد ركزت حركة حبد على التوراة والتأمل العقلي، ولهذا فإن أول مدرسة تلمودية (يشيفا) حسيدية كانت تابعة لهذه الحركة. وقد أكدت حبد أهمية الأوامر والنواهي، ولكنها عارضت التطرف في تطبيقها.
وإذا كان هذا هو الأمر بالنسبة إلى اليهودي العادي، فإنه ليس كذلك بالنسبة إلى التساديك، إذ أن الصراع داخل ذاته لا يتسم بهذه القوة، ولهذا يكون بوسعه تجاوز الشهوات وبسرعة، إلا أنه لا يتسم بصفات خارقة، ولا يمنح البركة مثلما هو الحال في بقية المدارس الحسيدية، فهو مُعلِّم في المقام الأول. وإذا كان مريدوه يريدون النجاح في الحياة الدنيا، فعليهم (على عكس ما يحدث في المدارس الحسيدية الأخرى) أن يطلبوا العون من الإله لا من التساديك. ولهذا، فقد أسقط أتباع مدرسة حبد استخدام كلمة «تساديك» وعادوا إلى استخدام كلمة «حاخام».
ويذهب شيناءور زلمان في كتاب هاتانيا (دستور حركة حبد) إلى أن الأغيار مخلوقات بهيمية شيطانية تماماً وخالية من الخير وأن ثمة اختلافاً جوهرياً بين اليهودي وغير اليهودي. ولهذا يختلف الجنين اليهودي عن الجنين غير اليهودي. ووجود الأغيار في العالم أمر عارض، فقد خُلقوا من أجل خدمة اليهود، وهذا متسق تماماً مع القبَّالاه التي جعلت اليهودي ركيزة للكون.
وقد انتقلت قيادة حبد إلى الولايات المتحدة حيث يترأسها في الوقت الحالي الحاخام لوبافيتش في نيويورك (في كراون هايتس في بروكلين). وحبد منظمة ثرية للغاية إذ تبلغ ميزانيتها نحو مائة مليون دولار (ويقدرها البعض بثمانمائة مليون دولار) ويبلغ أتباعها 130 ألف (30 ألف في بروكلين و100 ألف في أنحاء العالم). ويُقال إن عدد مؤيديها وأتباعها يصل إلى ما يزيد عن مليونين، وهو رقم مُبالَغ فيه. وتتبع حركة حبد دار للنشر طبعت ملايين الكتب بعدة لغات ولها مكتبة وأرشيف يضم مجموعة فريدة من الكتب والمنشورات والوثائق اليهودية. كما تمتلك الحركة صحيفة خاصة بها. وقد بدأت الحركة تمارس نشاطها مؤخراً في روسيا وأوكرانيا. ويتبعها آلاف الذين يعملون في كثير من دول العالم التي توجد فيها جماعات يهودية.
ولحبد فرع في إسرائيل، ويتبعها بعض المستوطنات الزراعية. ويُلاحَظ انتشار أفكارها العنصرية في الآونة الأخيرة. وقد قالت شالوميت ألوني عضو الكنيست إن الجماعة صعَّدت دعايتها العنصرية قبل غزو لبنان، وطلبت إلى الأطباء والممرضات ألا يعالجوا جرحى الأغيار، أي العرب.
ومن أهم أتباع حبد اثنان من رؤساء دولة إسرائيل السابقين هما زلمان شازار وأفرايم كاتزير. كما أن عدداً كبيراً من أعضاء جماعة جوش إيمونيم من أتباع حبد. ويبدو أن حزب أجودات إسرائيل يمثل حبد ضد أعدائهم من المتنجديم الليتوانيين (الليتفاك) اللذين يمثلهم حزب ديجيل هاتوراه. وقد سئل الحاخام إليعازر شاخ، الأب الروحي لهذا الحزب، عن أقرب عقيدة لليهودية، فقال: «حبد»، أي أنها لا تنتمي إلى اليهودية أساساً من وجهة نظره، وقال إن أتباع حبد قوم لا يختلفون عن آكلي لحم الخنزير. ويرى شاخ أن زعيم حبد (شنيرسون) عنده تطلعات مشيحانية مهرطقة.
وموقف حبد من الصهيونية هو موقف دُعاة الصهيونية الإثنية الدينية (انظر الباب المعنون «الصهيونية الإثنية الدينية»). وهو موقف يتسم بالرفض المبدئي في البداية باعتبار أن الصهيونية هي تعجيل بالنهاية، ورفض لمشيئة الإله. ثم تدريجياً بدأ يتغيَّر الموقف بحيث يتم تأييد الدولة من خلال ديباجات دينية خاصة. وقد أصبحت حركة حبد من أكثر الحركات تطرفاً في التوسعية والعنصرية الصهيونية (على عكس حركة ناطوري كارتا).
زلمان شنياءور (1747-1813(
Zalman Sheneur
مؤسس حركة حبد المتفرعة من الحسيدية وتلميذ دوف بير. انضم إلى الحركة الحسيدية، وهو في سن العشرين، وأصبح منظرها الأساسي، واشترك في المناقشة المريرة مع المتنجديم. وقد قبضت عليه السلطات الروسية، بعد أن اتهمه أعداؤه من اليهود الحاخاميين بأنه يتآمر ضد الدولة، ولكن أُفرج عنه حينما ثبت أن التهم الموجهة ضده باطلة. وقد هرب زلمان شيناءور زلمان حينما قامت القوات الفرنسية تحت قيادة نابليون بغزو روسيا. ومن أهم كتبه كتاب هاتانيا ، وهو كتاب حركة حبد الأساسي، ويضم تفسيرات للقبَّالاه. وقد صدر الكتاب في طبعته الأولى باسم ليقُّوطِّي إماريم (مقتطفات من الحكم) (1796)، ولكن وُضعت على الغلاف كلمة «تانيا» وهي الكلمة الأولى في النص، وهي كلمة آرامية تعني «مُعلِّم»، وعُرف الكتاب بهذا الاسم. وقد حاول شنياءور زلمان أن يخفف من حدة الحلولية اللوريانية بعض الشيء بإدخال عنصر عقلي. ولكن رؤيته تظل، مع هذا، حلولية انعزالية متعالية.
لوبافيتش
Lubavitch
قرية روسية بالقرب من موهيليف في روسيا، وهي المركز السابق لحركة حبد. ولا يزال رئيس جماعة حبد، الموجود الآن في نيويورك، يُدعَى حاخام لوبافيتش (باليديشية: لوبافيتشر ربي(
مناحم مندل اللوبافيتشي (1789 - 1866(
Menahem Mendel of Lubavitch (Schneersohn Dynasty)
حاخام حسيدي، وقائد جماعة حبد قضى طفولته في منزل مؤسس الحركة شنياءور زلمان وبدأ في دراسة القبَّالاه في سن الثالثة عشرة. خلف ابن شنياءور زلمان في رئاسة الحركة وأعلن أنه تلقَّى تعاليم زلمان في أحد أحلامه بعد موته ودوَّنها هي وبعض أفكاره في كتاب يُسمَّى ليقُّوطِّي توراة. وقد أصبحت أسرة شنيرسون الأسرة الحاكمة لحركة حبد.
شنيرسون )أسرة(
Schneersohn Family
أسرة حسيدية شهيرة، ترأس أعضاؤها جماعة حبد، وهم من نسل الحاخام مناحم مندل لوبافيتش الذي تَزعَّم الحركة بعد وفاة زلمان شنياءور، مؤسس الحركة.
مناحم مندل شنيرسون (1902-1994(
Menahem Mendel Schneersohn
حاخام حسيدي، وزعيم حركة حبد لوبافيتش، وشخصية أساسية في المؤسسة الحسيدية والدراسات القبَّالية، وهو من نسل شنياءور زلمان مؤسس حركة حبد، ومن أسرتها الحاكمة. درس الفرنسية والروسية والعلوم الطبيعية والفيزياء وتلقى تعليماً دينياً في مرحلة متأخرة من حياته، ثم تزوج من ابنة يوسف إسحق شنيرسون (زعيم حركة حبد)، وصار من المعروف أنه سيخلف حماه في رئاسة الحركة. وبالفعل قام حموه بتعليمه وإعداده للاضطلاع بدوره القيادي وأطلعه على المخطوطات التي كتبها قواد حبد السابقون والتي لم تُكشَف لأتباع الحركة (كما جاء في الموسوعة اليهودية). وقد درس شنيرسون الفلسفة في السوربون، كما درس الهندسة الكهربائية، وعُيِّن مهندساً في البحرية الأمريكية بعد هجرته إلى الولايات المتحدة. وفي عام 1950، خلف مناحم شنيرسون حماه في قيادة الحركة، وهو من موقعه هذا يتحكم في مئات المعاهد التربوية في أنحاء العالم، كما يأتي لمكتبه المئات يبحثون عن حل إما لمشاكلهم الشخصية أو للمشاكل العامة التي تواجه الجماعات اليهودية في العالم أو في دولة إسرائيل.
وموقف شنيرسون من إسرائيل يتسم بالجذرية، فهو يؤيد حق إسرائيل في كل إرتس يسرائيل ويعارض أي تنازل عن الأرض، ولكنه يتوجه بالنقد لإسرائيل بسبب تزايد معدلات العلمنة فيها، وخصوصاً في القطاع التعليمي، بل إنه ليصنف دولة إسرائيل باعتبارها جزءاً من المنفى. كما أنه يثير قضية الهوية اليهودية من آونة لأخرى، ومن وجهة نظره أن اليهودي هو من تَهوَّد حسب الشريعة، أي على يد حاخام أرثوذكسي. وتقوم حركة لوبافيتش تحت قيادته بحملة منظمة لنشر فكر حركة حبد التي يتبعها أسطول يُسمَّى «مدرعات المتسفاه» أو «مدرعات الأوامر والنواهي». ويوجد دعاة للحركة في كل بقعة من الولايات المتحدة بين اليهود وحسب، لأنهم لا يقومون بالتبشير بين الأغيار، فهذا مناف للعقيدة اليهودية كما يرون. وتقوم الحركة بنشر عشرات الكتب والمؤلفات، ولم يقم شنيرسون بزيارة أي مكان في العالم، ومنه إسرائيل. وهو يرفض أي حوار مع الأديان الأخرى. وقد بدأ أتباعه يرون فيه أنه الماشيَّح. فقد أعطى إشارة البدء لبناء منزل له في كفر حباد (قرب تل أبيب). وقد رأى الجميع في هذا أنه المخلِّص، فهو قد صرح بأنه لن يذهب إلى إسرائيل إلا لحظة الخلاص. ولذا، بدأ أتباعه يرددون: «نريد الماشيَّح الآن» ثم يضيفون كلمة «ممش» العبرية والتي تعني «واقعياً» ولكنها تضم أيضاً الحروف الأولى من اسم مناحم مندل شنيرسون. كما بدأ بعض أتباعه في إعداد حفل تتويج له باعتباره الماشيَّح. وقد صرح الحاخام إليعازر شاخ، الزعيم الروحي لحزب ديجيل هاتوراه (المناوئ للحسيديين) بأن شنيرسون مجنون وغير طبيعي وأنه المسيح الدجال، وهدد بطرده من حظيرة الدين (حيريم). وقد مات شنيرسون دون أن يصل العصر المشيحاني.
لم يُخلِّف شنيرسون مؤلفات عديدة، ومن أهم مؤلفاته تعليق على هجاداه (عيد الفصح). ولكن كثيراً من خطبه باليديشية تُرجمت إلى العبرية وظهرت في حوالي 30 مجلداً، كما نُشر 13 مجلداً من خطاباته.
حركة الموسار
Musar Movement
«حركة الموسار» حركة دينية ظهرت بين يهود ليتوانيا الأرثوذكس لتشجيع اليهود على دراسة الأدب الأخلاقي التقليدي (موسار) ولتهذيب الذات. وقد أسسها إسرائيل سالانتر. وتُعَد الحركة جزءاً من البعث الرومانسي في الغرب، فقد أكدت الجوانب العاطفية والروحية في الدراسة الدينية (مقابل الدراسة العقلية). ونادى مؤسس المدرسة بأن دراسة التلمود لا تعصم الإنسان من الشرور، ولذا يجب إكمال الدراسة بالتأمل في أدب الموسار. وقد عُدِّلت مناهج المدارس التلمودية العليا (يشيفا) بحيث أصبحت تضم نصف ساعة مخصَّصاً لقراءة أدب الموسار. ويجب ألا يُفهم من هذا أن حركة الموسار كانت حركة تجديد وإصلاح بل هي بالأحرى حركة استمرار للترات الحاخامي مع محاولة إدخال عناصر حيوية عليه. وكان إسرائيل سالانتر (مؤسس الحركة) من غلاة المحافظين.
المعارضون (متنجِّديم9
Mitnaggedim
«متنجديم» كلمة عبرية معناها «المعارضون»، أطلقها الحسيديون على أعضاء المؤسسة الحاخامية الذين تصدوا لحركتهم. أما مؤسسة الحاخامات، فقد عارضت الحسيدية لعد أسباب أهمها:
1 ـ وجود اتجاهات حلولية متطرفة شديدة الوضوح داخل الحسيدية، ولذلك فقد رأي المتنجديم أن المفهوم الحسيدي للإله ينفي عنه أي تسام أو تجاوز.
2 ـ موقف الحسيدية من الشر، وقد قال الحسيديون إن الشر غير موجود، فالشر نفسه قد التصقت به الشرارات الإلهية، وهي رؤية حلولية تتنافى تماماً مع التمييز بين الخير والشر.
3 ـ ويرتبط بهذا اعتراض المتنجديم على دور التساديك في الشفاعة عند الإله وفي الوساطة بينه وبين المخلوقات، وفي تمتعه بقوى خارقة. ومثل هذه الأفكار متسقة مع الفكر الحلولي.
4 ـ وقد اعترض المتنجديم أيضاً على أن الحسيديين أهملوا دراسة التوراة (والتلمود) التي هي الهدف الأساسي من وجود اليهود، وأنهم يكرسون وقتاً طويلاً في الاعداد العاطفي والنفسي للعبادة، بل يهملون العبادة نفسها، وأنهم يهملون مضمون الصلوات ويحولونها إلى تكأة أو وسيلة لتوليد حالة من الشطحة الصوفية. ويذهب المتنجديم إلى أن الأغاني التي يغنيها الحسيديون، والرقصات التي يؤدونها، أمر غير لائق تماماً.
5 ـ اعترض المتنجديم أيضاً على التعديلات الشعائرية المختلفة التي كان الحسيديون يحاولون عن طريقها تحقيق قدر من الاستقلال عن المؤسسة الحاخامية. ومن هذه التعديلات تَبنِّي فصل القبَّالاه السفاردي الذي كان يؤكد تَرقُّب الماشيَّح، والتعديل الذي أُدخل على الذبح الشرعي. وبطبيعة الحال، فقد وجد الحاخامات أن قيام الحسيديين بتأسيس معابد يهودية خاصة بهم يدعم شكوكهم. ولعل الحركة الفرانكية هي ما كان في ذهن الحاخامات حينما تصدوا للحسيدية. وفي الواقع، فإن ربطهم بين الفرانكية والحسيدية أمر منطقي للغاية، فكلتاهما تنبعان من القبَّالاه اللوريانية، وكلتاهما تدوران حول الموضوعات المشيحانية نفسها.
وقد تصاعد الصراع بين الفريقين بشدة عام 1772، حينما أصدرت المحكمة الشرعية الحاخامية التابعة لقهال فلنا، وبموافقة الحاخام إلياهو زلمان (فقيه فلنا)، قراراً بطرد الحسيديين من حظيرة الدين (حيريم). وأُرسلت نسخة منه إلى الجماعات اليهودية في بولندا وجاليشيا الشرقية، طالبةً من كل الحاخامات أن يتخذوا خطوات مماثلة. ورداً على هذا، قام أعضاء القيادة الحسيدية بالهجوم الشديد على علْم الحاخامات الزائف ومعرفتهم الجافة؛ ووصفوهم بأنهم حولوا التوراة إلى مجرد معول، وأداة يحصلون عن طريقها على المكانة الاجتماعية والربح المادي، وانعزلوا عن الجماهير وانشغلوا بالتفسيرات التي تتبع نمط البيلبول الذي لا فائدة تُرجى من ورائه. فنشر الحاخامات حظراً آخر يمنعون فيه أعضاء الجماعة اليهودية من التعامل مع الحسيديين، أو الزواج من أبنائهم وبناتهم، أو حتى دَفْن موتاهم. وكان فقيه فلنا قائد هذه الحملة. وحينما حاول زلمان شنياءور مقابلته، قوبلت محاولته بالرفض. وحينما ظهر كتاب شنياءور زلمان هاتانيا (1796)، هاجمه الحاخام إلياهو باعتباره كتاباً يَصدُر عن رؤية حلولية. وحينما مات الحاخام إلياهو بعد ذلك بعام احتفل بعض الحسيديين سراً بالمناسبة، فقررت قيادة الجماعة اليهودية الانتقام منهم. وفي اجتماع سري، قرروا أن يدعوا الدولة الروسية، التي كانت قد ضمت ليتوانيا لتوها، للتدخل في معركتهم، واتهموا شنياءور زلمان بالقيام بأعمال تخريبية وجمع الأموال لأهداف مشبوهة. فقُبض عليه، وأُرسل مكبلاً بالأغلال إلى سانت بطرسبرج حيث سجن عدة أشهر، ثم أُفرج عنه بعد أن ثبتت براءته، ولكنه وُضع تحت المراقبة. وقد قام الحسيديون برد الصاع صاعين بعد عام واحد، وأدَّت وشايتهم لدى الدولة إلى القبض على بعض القيادات الحاخامية. وقد جاء دور المتنجديم مرة أخرى عام 1800، واتهموا الحسيديين بأنهم جماعة « لا تخاف إلا الإله ولا تخاف الإنسان »، أي أنهم لا يخافون من
السلطة الروسية، فأُعيد القبض على شنياءور زلمان، وأُحضر إلى العاصمة حيث سُجن مدة أخرى وأُفرج عنه. ولم يتوقف الصراع المرير إلا بعد تَدخُّل الحكومة القيصرية التي أعطت الحسيديين الحق (عام 1804) في أن يقوموا بنشاطهم دون تَدخُّل من المؤسسة الحاخامية. وقد ساعد على فض الاشتباك تقسيم بولندا لأن المقاطعات الحسيدية ضُمَّت إلى النمسا في حين ضمت روسيا مقاطعات قيادتها أساساً من المتنجديم.
ومع هذا، فلا يزال الصراع دائراً حتى الآن، وله أصداؤه في الكيان الصهيوني. ويبدو أن حزب ديجيل هاتوراه يمثل المتنجديم والنخبة الليتوانية (الليتفاك) في مواجهة حبد والحسيديين الذين يمثلهم حزب أجودات إسرائيل. وقد سُئل الحاخام شاخ، الزعيم الروحي لديجيل هاتوراه، عن أقرب الديانات إلى اليهودية، فقال: حبد. وهي إجابة ساخرة تعني أنه لا يعتبر الحسيديين يهوداً.
أثر الحسيدية في الوجدان اليهودي المعاصر
Impact of Hassidism on the Contemporary Jewish Imagination
أثَّرت الحسيدية (بحلوليتها المتطرفة) في الوجدان اليهودي المعاصر تأثيراً قوياً، ففرويد العَالم النفساني النمساوي اليهودي، كان مهتماً بالحسيدية القبَّالية، ومن هنا كانت نظرياته في الجنس، وفي علاقة الذات بالكون. كما أن أدب كافكا متأثر بالحسيدية أيضاً. ويظهر تأثيرها واضحاً تماماً في أعمال مارتن بوبر وفلسفته التي تُوصَف بأنها «حسيدية جديدة» لأن الإله حسب هذه الفلسفة لا يحل في مخلوقاته ويؤثر فيها وحسب، بل إن مخلوقاته تؤثر فيه بدورها، ولذا يكتسب كلُّ فعل، مهما تدنَّى، دلالة كونية. كما أن بوبر كان يقدس الحسيديين بوصفهم جماعة عضوية مترابطة، أو شعباً عضوياً (فولك)، فهذا هو نموذجه للشعب اليهودي. والتساديك بالنسبة له هو القيادة الكاريزمية للشعب العضوي.
ومع هذا، يمكننا الحديث عن جو نيتشوي عام في أوربا يتصاعد مع تصاعُد معدلات العلمنة وتآكل المنظومات الدينية المختلفة (مسيحية كانت أم يهودية) الأمر الذي يؤدي إلى تصاعُد معدلات الحلولية إلى أن نصل إلى نقطة وحدة الوجود الروحية والمادية والواحدية الكونية حيث تَمَّحي ثنائيات الخير والشر ويظهر التساديك الحسيدي أو سوبرمان نيتشه؛ قيادات كاريزمية تجسِّد الإرادة الكونية، وتقف وراء الخير والشر، تعيش في بساطة وتلقائية ونشوة، فكل ما تقوم به مقدَّس.
الحسيدية والصهيونية
Hassidism and Zionism
من المعروف أن معظم المفكرين والزعماء الصهاينة إما نشأوا في بيئة حسيدية، أو تعرَّفوا إلى فكرها الحلولي بشكل واع أو غير واع. بل إن الصهيونية ضرب من « الحسيدية اللادينية » أو الحسيدية داخل إطار حلولية بدون إله ووحدة الوجود المادية. والدارس المدقق يكتشف أن ثمة تشابهاً بين الحسيدية والصهيونية، فالجماهير التي اتبعت كلاًّ من الصهيونية والحسيدية كانت في وضع طبقي متشابه؛ أي جماهير توجد خارج التشكيلات الرأسمالية القومية بسبب الوظائف المالية والتجارية التي اضطلعت بها مثل نظام الأرندا. لذلك، نجد أن جماهير الحسيدية، شأنها شأن جماهير الصهيونية، تتفق على حب صهيون؛ الأرض التي ستشكل الميراث الذي سيمارسون فيه شيئاً من السلطة. كما قامت الحسيدية بإضعاف انتماء يهود اليديشية الحضاري والنفسي إلى بلادهم، وهذه نتيجة طبيعية لأية تطلعات مشيحانية الأمر الذي جعل اليهود مرتعاً خصباً للعقيدة الصهيونية. كما أن الحسيدية والصهيونية تؤمنان بحلولية متطرفة تضفي قداسة على كل الأشياء اليهودية وتفصلها عن بقية العالم. وفي الحقيقة، فقد كانت الهجرة الحسيدية التي تعبِّر عن النزعة القومية الدينية فاتحةً وتمهيداً للهجرة الصهيونية.
والصهيونية، مثل الحسيدية، حركة مشيحانية تهرب من حدود الواقع التاريخي المركب إلى حالة من النشوة الصوفية، تأخذ شكل أوهام عقائدية عن أرض الميعاد التي تنتظر اليهود. ويعتقد المفكر النيتشوي الصهيوني بوبر أنه لا يمكن بعث اليهودية دون الحماس الحسيدي، بل يرى أن الرواد الصهاينة قد بعثوا هذا الحماس.
ولكن الحسيدية تظل، في نهاية الأمر، حركة صوفية حلولية واعية بأنها حركة صوفية، ولذا فإن غيبيتها منطقية داخل إطارها، ولا تتجاوز أفعالها، النابعة من المشيحانية الباطنية، نطاق الفرد المؤمن بها وأفعاله الخاصة، أما سلوكه العام فقد ظل خاضعاً إلى حدٍّ كبير لمقاييس المجتمع. ولذا، ظل حب صهيون بالنسبة إلى هذه الجماهير حباً لمكان مقدَّس لا يتطلب الهجرة الفعلية. أما الصهيونية، فهي حركة علمانية، ذات طابع عملي حرفي. كما أن الفكرة الصهيونية لا تنصرف إلى السلوك الشخصي لليهودي وإنما إلى سلوكه السياسي. ولكي تتحقق الصهيونية، لابد أن تتجاوز حدودها الذاتية لتبتلع فلسطين، وتطرد الفلسطينيين بحيث يتحول حب صهيون إلى استعمار استيطاني. ومما لا شك فيه أن الحسيدية قد ساهمت في إعداد بعض قطاعات جماهير شرق أوربا لتتقبل الأفكار الصهيونية العلمانية الغيبية، عن طريق عزلها عن الحضارات التي كانت تعيش فيها، وإشاعة الأفكار الصوفية الحلولية شبه الوثنية التي لا تتطلب أيَّ قدر من إعمال العقل أو الفهم أو الممارسة. ولكن هذا لا يعني أن الحسيدية مسئولة عن ظهور الصهيونية، فكل ما هناك أنها خلقت مناخاً فكرياً ودينياً مواتياً لظهورها.
ومما يجدر ذكره أن بعض الحسيديين عارضوا فكرة الدولة الصهيونية وأسسوا حزب أجودات إسرائيل. ولكن بعد إنشاء الدولة، بل قبل ذلك، أخذوا يساندون النشاط الصهيوني، وهم الآن من غلاة المتشددين في المطالبة بالحفاظ على الحدود الآمنة و«الحدود المقدَّسة» و«الحدود التاريخية لإرتس يسرائيل». ولكن هناك فرقاً حسيدية قليلة لا تزال تعارض الصهيونية ودولة إسرائيل بعداوة، من بينها جماعة ساتمار (ناطوري كارتا). (انظر الباب المعنون «الصهيونية الإثنية الدينية»).
الباب الخامس: اليهودية الإصلاحية
اليهودية الإصلاحية: تاريخ
Reform Judaism:History
«اليهودية الإصلاحية» فرقة دينية يهودية حديثة ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر في ألمانيا، وانتشرت منها إلى بقية أنحاء العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة. وهي تُسمَّى أيضاً «اليهودية الليبرالية» و«اليهودية التقدمية». وهذه المصطلحات ليست مترادفة تماماً، إذ يُستخدَم أحياناً مصطلح «اليهودية الليبرالية» للإشارة إلى اليهودية الإصلاحية التي حاولت أن تحتفظ بشيء من التراث. كما استُخدم المصطلح نفسه للإشارة إلى حركة دينية أسسها كلود مونتفيوري في إنجلترا عام 1901، وكانت متطرفة في محاولاتها الإصلاحية. أما مصطلح «اليهودية التقدمية» فهو مصطلح عام يشير إلى التيارات الإصلاحية كافة.
وظهور الحركات الإصلاحية في اليهودية يعود إلى أزمة اليهودية الحاخامية أو التلمودية التي ارتبطت بوضع اليهود في أوربا قبل الثورة الصناعية. فقد فشلت اليهودية كنسق ديني في التكيف مع الأوضاع الجديدة التي نشأت في المجتمع الغربي ابتداءً من الثورة التجارية واستمرت حتى الثورة الصناعية وبعدها، ثم واجهت أزمة حادة مع تصاعد معدلات العلمنة. وقد أدَّى سقوط الجيتو، ثم حركة الإعتاق السياسي إلى تصعيد حدة هذه الأزمة، إذ عرضت الدولة القومية الحديثة الإعتاق السياسي على اليهود شريطة أن يكون انتماؤهم الكامل لها وحدها، وأن يندمجوا في المجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً ولغوياً، وهو ما كان يتعارض وبشكل حاد مع اليهودية الحاخامية التي عرَّفت الهوية اليهودية تعريفاً دينياً إثنياً، وأحياناً عرْقياً، وجعلت الانتماء اليهودي ذا طابع قومي. وقد استجاب اليهود إلى نداء الدولة القومية الحديثة، وظهرت بينهم حركة التنوير اليهودية، والدعوة للاندماج، واليهودية الإصلاحية جزء من هذه الاستجابة. وقد استفاد اليهود الإصلاحيون من فكر موسى مندلسون، ولكنهم استفادوا بدرجة أكبر من الأفكار والممارسات الدينية المسيحية البروتستانتية في ألمانيا (مهد كل من الإصلاح الديني المسيحي والإصلاح الديني اليهودي).
وقد بدأ الإصلاح حين لاحَظ كثير من قيادات اليهود انصراف الشباب تدريجياً عن المعبد وعن الشعائر اليهودية بسبب جمودها وأشكالها التي اعتبروها بدائية متخلفة، فأخذوا في إدخال بعض التعديلات ذات الطابع الجمالي، من بينها تحويل المعبد من مكان يلتقي فيه اليهود للحديث والشجار إلى مكان للتعبد يتطلب التقوى والورع. وبدأت المواعظ الدينية تُلقَى بلغة الوطن الأم، وتغيَّر موضوعها، فبدلاً من أن تدور حول تفسير دقائق الشريعة، أصبحت تهدف إلى إنارة المصلين على المستوى الروحي. واختُزلت الصلاة نفسها عن طريق حذف قصائد البيوط وغير ذلك من الابتهالات والأدعية، واستُخدم الأرغُن والجوقة. وقد قام إسرائيل جيكوبسون بأول محاولة للإصلاح في المعبد الملحق بمدرسته عام 1810، ثم في بيته عام 1815، ثم افتتح أول معبد إصلاحي في هامبورج عام 1818.
وقد كانت كل هذه الإصلاحات ذات طابع شكلي وجمالي وقام بها أعضاء ليسوا جزءاً من المؤسسة الدينية. ولذا، لم تثُر ردة فعل حادة عند التقليديين برغم اعتراضهم على كثير منها، ولكن التغيرات بدأت تكتسب طابعاً عقائدياً واتجهت نحو إصلاح العقيدة نفسها، ومن ثم تغيَّرت طبيعة رد الفعل، وهو ما أدَّى في نهاية الأمر إلى انقسام اليهودية المعاصرة إلى فرق متعددة لا يعترف الأرثوذكس فيها بيهودية الآخرين. وقد اكتسبت حركة الإصلاح الديني دفعة قوية في ثلاثينيات القرن الماضي حين ظهر لفيف من الحاخامات الشباب الذين كانوا قد تلقوا تعليماً دينياً تقليدياً، وتعليماً دنيوياً في الوقت نفسه. وكانت هذه ظاهرة جديدة كل الجدة على اليهودية إذ كانت مقررات الدراسة في المدارس التلمودية العليا، حتى ذلك الوقت، تقتصر على الدراسات الدينية فحسب. ولكن، مع نهاية القرن الثامن عشر، فتحت حكومات فرنسا والنمسا وروسيا مدارس ذات مناهج مختلطة دينية ودنيوية. وقد التف هؤلاء الشبان حول المفكرين الدينيين الداعين إلى الإصلاح، مثل: أبراهام جايجر، وصمويل هولدهايم وكاوفمان كولر، الذين يرجع إليهم الفضل في وضع أسس اليهودية الإصلاحية. وتحولت مسألة تحديث الدين اليهودي أو إصلاحه إلى قضية أساسية في الأوساط اليهودية، ثم تبلورت الأمور كثيراً حين دعت أبرشية برسلاو المفكر اليهودي الإصلاحي جايجر ليكون حاخاماً لها (1839). وحينما نُشرت الطبعة الثانية من كتاب صلوات اليهودية الإصلاحية عام 1841، رأى الأرثوذكس أن الوضع أصبح لا يحتمل الانتظار، وخصوصاً أن جايجر كان من كبار دعاة مدرسة نقد العهد القديم ومن مؤسسي علْم اليهودية. ورغم أن حركة النقد هذه تهدم العقيدة من أساسها وتفترض أن التوراة نتاج تاريخي من صُنْع الإنسان، فإن اليهودية الإصلاحية ارتبطت بها منذ البداية لتؤكد نسبية وتاريخانية الأفكار الدينية ظناً منها أن ذلك يسبغ شرعية على المشروع الإصلاحي.
وحتى يتمكن الإصلاحيون من طرح سائر القضايا وبلورة مواقف بشأنها، عقدوا عدة مؤتمرات إصلاحية في ألمانيا (ثم بعد ذلك في الولايات المتحدة) توصلت إلى صياغات محددة (وقد خرج زكريا فرانكل محتجاً من أحد هذه المؤتمرات وأنشأ التيار المحافظ). وقد توقفت اليهودية الإصلاحية عن التطور الفكري في ألمانيا نفسها، ولكنها تحوَّلت إلى تيار قوي ورئيسي بين اليهود في الولايات المتحدة حين تَقبَّلها المهاجرون الألمان الذين اندمجوا في المجتمع الأمريكي، وكانوا يبحثون عن صيغة دينية جديدة تلائم وضعهم الجديد. وقد وجد هؤلاء المهاجرون في اليهودية الإصلاحية ضالتهم. وتبعتهم أعداد متزايدة من اليهود الأمريكيين حتى صارت، مع حلول عام 1888، كل المعابد اليهودية في الولايات المتحدة (والبالغ عددها 200) إصلاحية، باستثناء12معبداً.
ومن أهم مفكري اليهودية الإصلاحية في الولايات المتحدة ديفيد أينهورن. ولكن أكبر المفكرين هو إسحق ماير وايز الذي أسس اتحاد الأبرشيات العبرية الأمريكية عام 1873، وكلية الاتحاد العبري عام 1875، والمؤتمر المركزي للحاخامات الأمريكيين عام 1889. ويُعَدُّ مؤتمر بتسبرج الإصلاحي، الذي عُقد عام 1885، أهم نقطة في تاريخ اليهودية الإصلاحية إذ أصدر قراراته الشهيرة التي عبَّرت عن الإجماع الإصلاحي، وبلورت منطلقات الحركة. وقد انتقلت اليهودية الإصلاحية إلى المجر حيث يُطلَق عليها مصطلح «نيولوج».
وتوجد معابد إصلاحية في حوالي 29 دولة تابعة للاتحاد العالمي لليهودية التقدمية، ويبلغ عدد أتباع الحركة حوالي 1.25 مليون. لكن الولايات المتحدة لا تزال المركز الأساسي الذي يضم معظم أعضاء هذه الفرقة. وتوجد 848 إبراشية يهود إصلاحية في الولايات المتحدة، ويشكل الإصلاحيون 30% من كل يهود أمريكا المنتمين إلى إحدى الفرق اليهودية (مقابل 33% محافظين و9% و26% لا علاقة بهم أى فرقة دينية أرثوذكس) ومع هذا تذكر أحد المراجع أن عدد اليهود الإصلاحيين مليون و300 ألف. ويُلاحَظ ارتفاع نسبة الزواج المُختلَط بينهم أكثر من ارتفاعها بين أعضاء الفرق الأخرى، وإن كانت النسبة بين اليهود غير المنتمين دينياً أعلى كثيراً. ويُعَدُّ اليهود الإصلاحيون أكثر قطاعات اليهود تأمركاً. ويُلاحَظ أنه في الآونة الأخيرة، مع ازدياد تشدد اليهودية الإصلاحية وازدياد التساهل من جانب اليهودية المحافظة، تناقصت المسافة بينهما وبدأت الأبرشيات المحافظة والإصلاحية في الاندماج، وهذا الاندماج توافق عليه قيادات الفريقين ولا تُمانع فيه. ويقابل هذا تَباعُد مستمر عن اليهودية الأرثوذكسية. وقد صرح الحاخام ملتون بولين رئيس المجلس الحاخامي في أمريكا بأن التباعد بين الأرثوذكس من جهة والمحافظين والإصلاحيين من جهة أخرى آخذ في التزايد حتى أنه هو نفسه تحدَّث عن وجود يهوديتين مستقلتين.
ومن التنظيمات اليهودية الإصلاحية: المؤتمر المركزي للحاخامات الأمريكيين الذي يضم كل الحاخامات الإصلاحيين، واتحاد الأبرشيات العبرانية الأمريكية الذي يضم المعابد الإصلاحية وكلية الاتحاد العبري (المعهد اليهودي للدين) وهو معهد إصلاحي لتخريج الحاخامات، كما أن هناك اتحاداً عالمياً لليهودية الإصلاحية هو الاتحاد العالمي لليهودية التقدمية.
وقد اعترفت روسيا باليهودية الإصلاحية باعتبارها مذهباً يهودياً. وبالفعل، توجد جماعة يهودية إصلاحية الآن لها مقر في موسكو. ويمكن أن نتوقع انتشار اليهودية الإصلاحية لأنها صيغة مخففة سهلة من العقيدة اليهودية تناسب تماماً يهود روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء ممن يودون التمسك بيهوديتهم وإظهارها والإعلان عنها حتى يتسنى لهم الهجرة إلى إسرائيل. ولكنهم، كباحثين عن اللذة، لا يريدون في الوقت نفسه أن يدفعوا أي ثمن عن طريق إرجاء المتعة أو كبح ذواتهم أو إقامة الشعائر. واليهودية الإصلاحية تحقق لهم كل هذا،فهي تتكيف بسرعة مع روح العصر،وكل عصر.
اليهودية الإصلاحية: الفكر الديني
Reform Judaism:Religious Thought
تشترك كل من الحركة اليهودية الإصلاحية واليهودية المحافظة في أنهما تحاولان حل إشكالية الحلول الإلهي في الشعب اليهودي وفي مؤسساته القومية. فمثل هذا الحلول يجعل منهم شعباً مقدَّساً ملتفاً حول نفسه، يشير إلى ذاته دون الإشارة إلى شيء خارجه، وهذا أمر مقبول داخل إطار المجتمع التقليدي، المبني على الإرادة الذاتية للأقليات. وهو أمر مفهوم حينما كان اليهود يضطلعون بدور الجماعة الوظيفية التي تعزل نفسها عن المجتمع لتلعب دورها المحايد. ولكن، مع ظهور الدولة القومية التي ترى نفسها مطلقاً فهي مرجعية ذاتها لا تقبل مرجعية متجاوزة لها أصبح من الصعب أن تتعايش نقطتان مطلقتان داخل المجتمع الواحد. ولذا، كان على أعضاء الجماعات اليهودية أن يتعاملوا بشكل أو بآخر مع الحلولية اليهودية التقليدية، وكان عليهم التوصل إلى صيغة حديثة لليهودية يمكنها التعايش مع الدولة القومية الحديثة المطلقة مع إصرارها على أن يعيد اليهودي صياغة ذاته ورؤيته حتى يدين لها وحدها بالولاء. وقد حاولت اليهودية الإصلاحية واليهودية المحافظة حل إشكالية الشعب المقدَّس عن طريق تَبنِّي الحل الغربي للمشكلة وهو أن يكون الحلول الإلهي في نقطة ما في الطبيعة أو في الإنسان أو في التاريخ، بحيث يشكل المطلق ركيزة نهائية كامنة في هذه النقطة وغير متجاوزة لها. وقد ظهر العديد من هذه المطلقات الدنيوية أو الغيبيات العلمانية. ولكن الذي يهمنا هو المطلق الدنيوي الذي يُسمَّى «الروح» (جايست) في أدبيات القرن التاسع عشر في أوربا («روح المكان» أو «روح العصر» أو «روح الشعب» أو «روح الأمة») الذي حل محل الإله. وبينما آمن الإصلاحيون بروح العصر (بالألمانية: تسايت جايست Zeitgeist)، آمن المحافظون بروح الشعب العضوي (فولك).
وهذه الصياغة من الحلولية تلغي الإله كنقطة متجاوزة، فمصدر القداسة كامن في المادة. وبالنسبة لليهودية الإصلاحية، فهي توسع نطاق نقطة الحلول بحيث يصبح المطلق (روح العصر) إطاراً يضم كلاًّ من اليهود والأغيار. وبذلك تكون اليهودية الإصلاحية قد وصلت إلى صيغة معاصرة لليهودية تلائم العصر، وتتخلص من آثار الحلولية الحادة والجامدة التي كانت تدور في فلكها اليهودية الحاخامية والتي عزلت اليهود عن مجتمعاتهم وجعلت معتقداتهم الدينية عبئاً ينوءون بحمله، وجعلت تعايشهم مع المطلق الجديد (الدولة العلمانية الحديثة) مستحيلاً. ويمكن القول بأن جوهر مشروع اليهودية الإصلاحية هو محاولة نَزع القداسة عن كثير من المعتقدات الدينية اليهودية ووضعها في إطار تاريخي، وذلك حتى يتسنى التمييز بين ما هو مطلق ومتحرر من الزمان والمكان وبين ما هو نسبي ومرتبط بهما. وهي عملية نجم عنها تضييق نطاق المطلق والمقدَّس وتوسيع نطاق النسبي حيث يتمكن أعضاء الجماعات اليهودية المشاركة في الإيمان بالمطلقات القومية والصناعية والمادية في مجتمعاتهم الحديثة. ولذا، عدَّل الإصلاحيون فكرة التوراة، ـ بالنسبة لهم ـ مجرد نصوص أوحى الإله بها للعبرانيين الأولين، ولذا يجب احترامها كرؤى عميقة، ولكنها يجب أن تتكيف مع العصور المختلفة. فثمة فرق بين الوحي والإلهام، إذ أن الإلهام ليس خالصاً أو صافياً، فالبشر يصبغونه بعاداتهم ولغتهم فيختلط بعناصر تاريخية دنيوية. لكل هذا، يجب على اليهودي أن يحاول فهم وتفسير هذا الوحي، أو الإلهام من آونة إلى أخرى، وأن يُنفِّذ منه ما هو ممكن في لحظته التاريخية. وبهذا، يصبح للقانون الإلهي (الشريعة) السلطة والحق، طالما كانت أوضاع الحياة التي جاء لمعالجتها مستمرة. وعندما تتغيَّر الأوضاع، يجب أن يُنسَخ القانون، حتى وإن كان الإله صاحبه ومُشرِّعه، أي أن الشريعة فقدت سلطتها الإلزامية المطلقة وأصبحت روح العصر النقطة المرجعية
والركيزة النهائية. وللعهد القديم، على سبيل المثال، جانبان: أحدهما مقدَّس والآخر دنيوي. وقد سقطت فاعلية الجانب الثاني بهدم الهيكل، وسقط مع هذه العملية كل ما له علاقة بالهيكل أو الدولة، وبقي الجزء المقدَّس أو المطلق وحده. وبطبيعة الحال، لا يعترف اليهود الإصلاحيون بالشريعة الشفوية (التعبير المستمر عن الحلول الإلهي). وحاول الإصلاحيون كذلك تأكيد الجانب العقائدي والأخلاقي على حساب الجانب الشعائري أو القرباني، فهم يرون أن اليهودية الحاخامية تدور في إطار الشعائر المرتبطة بالدولة اليهودية والهيكل، والتي لم تَعُد لها أية فعالية أو شرعية. كما تم استبعاد العناصر القومية الموجودة في الدين اليهودي والتي تؤكد قداسة اليهود وانعزالهم عن الأمم الأخرى (ولا تزال هذه العقلانية النسبية أو التاريخانية، التي تحاول تقييم التراث في ضوء المُعطَى التاريخي وترفض الانعزالية القومية والحلولية التقليدية، السمة الأساسية للتيارات الليبرالية والثورية في الفكر الديني اليهودي).
ومع هذا، فإن اليهودية الإصلاحية، في محاولتها تطوير اليهودية، انتهى بها الأمر إلى أن خلعت النسبية على كل العقائد ونزعت القداسة عن كل شيء، أي أنها في محاولتها إدخال عنصر النسبية الإنسانية والتهرب من الحلولية، سقطت في نسبية تاريخية كاملة بحيث أسقطت كل الشعائر وكل العقائد تقريباً، أي أنها هربت من وحدة الوجود الروحية إلى وحدة الوجود المادية. وقد شبَّه بعض المؤرخين اليهودية الإصلاحية بحركة شبتاي تسفي، ويرون أنها الوريث العلماني المعاصر له. وهو تشبيه مهم وعميق ولكنه يعاني من بعض نقط القصور لأنه يُفسِّر نقط التشابه ولا يُفسِّر نقط الاختلاف. ونحن نرى أن الحلولية، حينما تصل إلى مرحلة وحدة الوجود الروحية، تتحول عادةً إلى حلولية بدون إله أو وحدة وجود مادية. ولعل شيئاً من هذا القبيل قد حدث داخل اليهودية، وحركة شبتاي تسفي هي مرحلة وحدة الوجود الروحية حيث يحل الإله في العالم (الإنسان والطبيعة) ويصبح لا وجود له خارجها، ومع هذا يظل يحمل اسم الإله، ويصبح كل ما في العالم تجلياً للإله. وتعقب هذه المرحلة مرحلة تغيير التسمية إذ يسقط اسم الإله ويُسمَّى بعد ذلك «قوانين الحركة» أو «روح العصر» وخلافه، وهذه هي مرحلة موت الإله. ولعل اليهودية الإصلاحية تعبير عن مرحلة انتقالية بين الشبتانية ووحدة الوجود الروحية ولاهوت موت الإله في الستينيات ومرحلة وحدة الوجود المادية، هذه المرحلة الانتقالية نسميها مرحلة شحوب الإله، فهو موجود اسماً ولكنه يتبدَّى من خلال عدد كبير من المطلقات الدنيوية (مثل روح العصر). ولذا، نجد أن اليهودية الإصلاحية قد تحولت إلى ما يشبه دين العقل الطبيعي (الربوبية)، فهي تؤمن بوجود قوة عظمى تعبر عن شيء باهت شاحب غير شخصي تطلق عليه كلمة «الرب»، كما أنها تنكر سلطة التلمود، بل والتوراة نفسها، وتقرر الشعائر والعبادات بمجموعة من المؤتمرات والبيانات التي تتم الموافقة عليها بالتصويت والانتخابات
بالطرق الديموقراطية.
وفي ضوء منطلقات الفكر اليهودي الإصلاحي، يمكننا أن ننظر إلى التعديلات التي أدخلها زعماء الحركة الإصلاحية، على العبادة اليهودية وبعض المفاهيم الدينية، ومن أهمهم أبراهام جايجر (زعيم الجناح المعتدل) الذي يُشار إليه عادةً بلفظة «التقدمي» وديفيد فرايد لندر (زعيم الجناح الثوري) الذي يُشار إليه أحياناً بصفة «الليبرالي». وقام الإصلاحيون بإلغاء الصلوات ذات الطابع القومي اليهودي، وجعلوا لغة الصلاة الألمانية (ثم الإنجليزية والولايات المتحدة) لا العبرية (ليتمشوا مع روح العصر والمكان)، وأبطلوا كل الفوارق بين الكهنة واللاويين وبقية اليهود، وأدخلوا الموسيقى والأناشيد الجماعية، كما سمحوا باختلاط الجنسين في الصلوات، ومنعوا تغطية الرأس أثناء الصلاة أو استخدام تمائم الصلاة (تفيلين)، ولقد تأثروا في ذلك بالصلوات البروتستانتية، وقام بعض الإصلاحيين ببناء بيت للعبادة أطلقوا عليه اسم «الهيكل»، وكانت تلك أول مرة يُستخدَم فيها هذا المصطلح لأنه لم يكن يُطلَق إلا على الهيكل الموجود في القدس. ومعنى ذلك أن الإصلاحيين بتسميتهم معبدهم هذه التسمية الجديدة، كانوا يحاولون تعميق ولاء اليهودي إلى الوطن الذي يعيش فيه ويحاولون نقل الحلول الإلهي من مكان سيعودون إليه في آخر الأيام إلى مكان يرتادونه هذه الأيام. وعلى المستوى الفكري، أعاد الإصلاحيون تفسير اليهودية على أساس عقلي، وأعادوا دراسة العهد القديم على أُسُس علمية (فالعقل أو العلم هو موضع الحلول الإلهي أو المطلق في المنظومات الربوبية)، ونادوا بأن الدين اليهودي أو العقيدة الموسوية (وهي التسمية الأثيرة لديهم) تستند إلى قيم أخلاقية تشبه قيم الأديان الأخرى. كما ركَّز الإصلاحيون على الجوهر الأخلاقي للتوراة، وكذلك الجوهر الأخلاقي لبعض جوانب التلمود، مهملين التحريمات المختلفة التي ينص عليها القانون اليهودي، وخصوصاً القوانين المتعلقة بالطعام
والكهانة، وقد سمحوا (مؤخراً) بترسيم حاخامات إناث. وأنكروا فكرة البعث والجنة والنار، وأحلوا محلها فكرة خلود الروح. وقد أسقطوا معظم شعائر السبت، وهم لا يحتفلون به في الوقت الحاضر في يوم السبت نفسه وإنما يختار أعضاء الأبرشية أي يوم في الأسبوع للاجتماع. وتأخذ الشعائر في هذه الحالة شكل صلاة قصيرة وقراءة بعض الفقرات من أي كتاب، بل حل بعض الكلمات المتقاطعة. ولعل هذا هو الانتصار النهائي لروح العصر. ويقوم أحد المتحدثين بإلقاء محاضرة في أي موضوع وينشدون النشيد الوطني لإسرائيل (هاتيكفاه). وقد ازداد التكيف مع روح العصر تطرفاً، ولذا نجد أن اليهودية الإصلاحية قَبلت الشواذ جنسياً كيهود ثم رسَّمت بعض الشواذ جنسياً حاخامات، وأسَّست للشواذ جنسياً معابد إصلاحية معترفاً بها من قبَل المؤسسة الإصلاحية. ولعل هذا تعبير عن حلولية موت الإله أو حلولية بدون إله، وحلولية ما بعد الحداثة حيث تتساوى كل الأمور وتصبح نسبية. ونحن هنا لا نتحدث عن يهود أو أغيار وإنما نتحدث عن مجتمع أخذ الإنسان فيه يختفي تدريجياً بعد شحوب الإله وموته.
وقد عَدَّل الإصلاحيون بعض الأفكار الأساسية في الديانة اليهودية، فمثلاً نادى جايجر بحذف جميع الإشارات إلى خصوصية الشعب اليهودي من كل طقوس الدين وعقيدته وأخلاقه وأدبه، مطالباً بالتخلي عن الفكرة الحلولية الخاصة بالشعب المختار كلية. وقد حاولوا الإبقاء على هذه الفكرة، مع إعطائها دلالة أخلاقية عالمية جديدة، فجعلوا الشعب اليهودي شعباً يحمل رسالته الأخلاقية لينشرها في العالم حتى يستطيع من يشاء أن يؤمن بها. كما يؤكد الإصلاحيون أيضاً أن اليهود شُتتوا في أطراف الأرض ليحققوا رسالتهم بين البشر، وأن النفي وسيلة لتقريبهم من الآخرين وليس لعزلهم عنهم.
وأضفى الإصلاحيون على فكرة العودة والماشيَّح طابعاً إنسانياً إذ رَفَض ممثلوهم، في مؤتمر بتسبرج، فكرة العودة الشخصية للماشيَّح المخلِّص، وأحلوا محلها فكرة العصر المشيحاني، وهي فكرة تربط بين العقيدة المشيحانية وروح العصر. فالعصر المشيحاني هو العصر الذي سيحل فيه السلام والكمال ويأتي الخلاص إلى كل الجنس البشري وينتشر العمران والإصلاح ويتم كل هذا من خلال التقدم العلمي والحضاري. فالفكرة المشيحانية هنا فُصلَت تماماً عن الشعب اليهودي وعن شخص الماشيَّح وارتبطت بكل البشر وبالعلم الحديث.
اليهودية التقدمية
Progressive Judaism
«اليهودية التقدمية» مصطلح يُستخدَم للإشارة إلى كل الاتجاهات اليهودية الإصلاحية. وعادةً ما يُستخدَم مصطلح «تقدمي» بديلاً لمصطلح «إصلاحي» خارج الولايات المتحدة.
اليهودية الليبرالية
Liberal Judaism
بدأت الحركة اليهودية الليبرالية في إنجلترا في السنوات الأولى من القرن العشرين نتيجة الجهود المشتركة لليلي مونتاجو (1873 ـ 1963) وكلود مونتيفيوري (1851 ـ 1938) حين أسسا الاتحاد الديني اليهودي (1902). وتنطلق اليهودية الليبرالية من أن اليهودية الإصلاحية لم تصل بالإصلاح إلى نتيجته المنطقية ولم تواجه القضايا الحقيقية، وأن اليهودية لابد أن يدخل عليها المزيد من الإصلاحات حتى لا تظل عبئاً على اليهود.
ونقطة الانطلاق بالنسبة لليهودية الليبرالية هي الإنسان (واحتياجاته النفسية) لا العقيدة الدينية (فالعهد القديم في تصوُّرها اجتهاد بشري وليس وحياً إلهياً) ولذا طرحت الليبرالية مفهوم الضمير الشخصي و« الوعي المستنير»، وجعلت من حق كل يهودي أن يدرس العقائد والممارسات اليهودية، ثم يختار ما يحلو له منها، إذ أن من حق كل يهودي أن يقرر شكل اليهودية التي يؤمن بها، ويحدد مكوناتها (ولابد أن الإله سيسدد خطاه بطريقة ما)، أي أنها عملية علمنة من الداخل. ولذا يذهب الفكر الديني الليبرالي إلى أن الأوامر والنواهي (متسفوت) مسألة اختيارية، قد يحتاج لها بعض الناس ليحققوا تطورهم الأخلاقي، ولكن الآخرين قد لا يحتاجون لها على الإطلاق. فالطعام المباح شرعاً يعتبر شكلاً من أشكال الانضباط الأخلاقي بالنسبة لمن يرون ذلك، أما من يودون تحقيق هذا الانضباط بطريقة أخرى، فهم في حلٍّ من أمرهم. وكلاهما له شرعيته من وجهة النظر الليبرالية.
ورغم هذا الانفتاح الكامل (الذي يقترب باليهودية الليبرالية من يهودية عصر ما بعد الحداثة) إلا أن ثمة طقوساً معينة فرضت نفسها على اتباع هذه الفرقة. فالصلاة في المعبد الليبرالي تشبه الصلوات في المعابد الإصلاحية فيجلس الرجال والنساء سوياً، ويجلس الرجال دون غطاء للرأس إن أرادوا. كما أبقى الليبراليون بعض الطقوس مثل النفخ في البوق (شوفار) في رأس السنة والصيام في يوم الغفران (يوم كيبور) وأكل خبز الماتساه غير المخمر في عيد الفصح. ويُلاحَظ أن الشعائر التي اختارها اليهود الليبراليون ذات طابع احتفالي، ولا تتطلب مشقة كبيرة، كما يمكن تطويعها لتتفق مع إيقاع العصر. فبالنسبة لشعائر السبت لا يمتنع اليهودي الليبرالي عن العمل ولكنه قد يوقد الشموع. ولكن حتى هذه الشموع يمكنه أن يوقدها بعد غروب الشمس، وليس قبله كما تنص الشريعة، إن وجد أن الالتزام بالشريعة سيسبب له ضيقاً.
وقد أسقط الليبراليون صوم التاسع من آب وغيره من أيام الصوم وهم لا يعتبرون عيد الأسابيع (شفوعوت) عيداً حيث إنهم لا يؤمنون بأن التوراة قد نزلت على موسى في سيناء. وتذهب اليهودية الليبرالية إلى أن اليهودي من وُلد لأم يهودية أو لأب يهودي أو رُبِّي تربية يهودية.
النيولوج
Neologue
« نيولوج» هو الاسم العرفي (غير الرسمي) الذي كان يُطلَق على أعضاء الجماعة اليهودية في المجر والمنتمين إلى اليهودية الإصلاحية. وقد ظهرت الاتجاهات الإصلاحية بين الجماعات اليهودية في المجر في أوائل القرن التاسع عشر والتي واجهت مساعيها وأنشطتها التنظيمية معارضة المؤسسة الأرثوذكسية. وبعد أن مُنح يهود المجر حقوقهم المدنية كاملة عام 1867، قدَّم زعماء طائفة النيولوج في مدينة بست، التي كانت تُعَدُّ مركز أقوى تجمُّع نيولوجي في المجر، مذكرة إلى وزير التعليم والشئون الدينية المجري بشأن الهيكل التنظيمي للجماعة اليهودية المجرية مقترحين عقد مؤتمر لممثلي يهود المجر دون إشراك الحاخامات، وذلك تفادياً لتَفجُّر الجدل حول المسائل العقائدية، وكذلك منعاً لتَدخُّلهم في الشئون التي تتعدى وظائفهم ومهامهم. وقد أصبح هذه الاتجاه، وهو اتجاه عارضه الأرثوذكس وكذلك بعض النيولوجيين، إحدى الركائز الأساسية في تنظيم الطائفة النيولوجية وتجمعاتها. وقد سُمح للحاخامات فيما بعد بحضور المؤتمر. وفي الانتخابات التي جرت داخل الجماعة، حقق النيولوجيون أغلبية في الأصوات إذ حصلوا على 57.5% مقابل 42.5% للأرثوذكس. وفي نهاية عام 1868، تم افتتاح المؤتمر اليهودي العام الذي كانت قضيته الأساسية مناقشة الهيكل التنظيمي للجماعة. وقد سادت المؤتمر خلافات حادة وجدل عنيف، وخصوصاً حول تحديد طبيعة أو ماهية الجماعة اليهودية في المجر، إذ أن النيولوجيين قد اعتبروا الجماعة « جماعة تعمل على تلبية الاحتياجات الدينية » في حين أصر الأرثوذكس على اعتبارها "جماعة من أتباع العقيدة
الموسوية الحاخامية والأوامر التي تم وضعها وتصنيفها في الشولحان عاروخ". ومن القضايا الأخرى التي أثارت الخلاف، المدرسة اللاهوتية للحاخامات التي كان من المزمع إقامتها بتمويل صندوق المدارس الذي أسسه الإمبراطور فرانسيس جوزيف الثاني من أموال الغرامة التي فُرضت على يهود المجر في أعقاب ثورة 1848. وفي النهاية، انسحب ثمانية وأربعون مندوباً أرثوذكسياً من المؤتمر، وتم التصديق على قرارات المؤتمر. وقد نجح الأرثوذكس فيما بعد في تنظيم إطار خاص بهم، وذلك بعد حصولهم على تصريح بذلك من الإمبراطور.

آلـطـور آلآخـر
28-08-2011, 04:55 AM
بـآركـ الله فــيك آيهــآ آلـطيب ...