عرض مشاركة واحدة
صورة رمزية إفتراضية للعضو adel67
adel67
عضو
°°°
افتراضي
ثم لتعلم أيها المريد الصادق و الأخ الجهبذ الذايق أنّ مذاهب هذه الطائفة عموما، و خصوصا مشايخ طريقتنا القادرية الإعتماد في علوم الأسرار من الحروف و الأسماء و غيرها على الوهب و الفتح. و طريقهم الخاص عندهم الكشف و التلقّي عن عالم الملكوت. و يعتمدون في ذلك على همم المشايخ و عناياتهم و ما يُلقى إليهم على ألسنة الهواتف و أرواح الأنبياء و خواص الأولياء. و العمدة عندهم إنّما هي على مجرّد أذكار الأسماء الحسنى و الآي العظام. و إن أخذوا في بداياتهم طرفا من علوم الأوفاق و الأشكال و أسرار الحروف و بلغوا فيه الغاية بقوة الهمم و صفاء الأرواح، فعند التمكّن ينسلخون من تلك الرسوم و يكتفون بمجرّد الأسماء عملا بقوله تعالى (و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها). و قد قال الشيخ زروق في خاتمة شرحه على حزب البحر للشيخ أبي الحسن الشاذلي في عدِّه للأمور التي عمّت بها البلوى في فقراء وقته و فقهائه من العيوب، إلى أن قال (و مِن أكبر هذا الباب الولوع بعلوم الأسرار من الحروف و الأسماء و غيرها. و هي علوم وهب و فتح، لم يتكلم فيها أهلها إلاّ إعانة لِمَن له فتح و إفادة لمن له حقيقة.

ثمّ ما رأينا و ما سمعنا من استفاد أو أفاد منها حقيقة بمجرّدها، فيرحم الله الشيخ أبا العباس ابن البنّاء حيث يقول (باين البوني و أشكاله و وافق خير النساج و أمثاله)، و كذا الشيخ محي الدين حيث قال (علم الحروف علم شريف من علوم الوهب، و الإشتغال به مذموم دنيا و دينا). و بالجملة، فعلوم الوهب كلها محمودة من وجهها مذموم طلبها، فلا يطلبها إلاّ جاهل و لا ينكرها إلاّ جاهل، فسلِّم تسلم و تجنّب ما سوى الذّكر تنجو من الشر، فبالله ما وجدنا الأسرار إلاّ في الأذكار، و ما وجدناها إلاّ في المعرّبات من الأسماء لا المعجّمات، بل قال مالك لمن سأله ( و ما يدريك لعلّه كفر). نعم، يحتاج مستعمل الأذكار لاعتبار المناسبة الذاتية و الوقتية و الهمّة القوية و القوة النفسية، و ذلك يخفى إلاّ على ذي همّة و بصيرة، فالغالب فقده في هذه الأزمنة. فعليكم بظاهر الشرع و ظاهر الحقيقة مع طلب الفتح من الله بكنه الهمّة
). إنتهى.

ثمّ الناس في استعمال الأوفاق و الحروف فرقتان. فرقة استعملوها في رياضة أنفسهم تقوية لهممهم و استظهارا للإسم المذكور بقوته العددية و الرقمية و حبسه في أضلاع الأشكال العلوية استعانة بالأملاك الموكّلة بها على قهر أنفسهم و إنارة بواطنهم، لا يبغون بذلك حظا نفسانيا و لا مقصودا شهوانيا. فهؤلاء استعمالهم لها محمود و جدّهم فيها ميمون مسعود. و هؤلاء هم الذين كلّما تمكّنوا في مقاماتهم و أشرفوا على النهاية في سيرهم انعزلوا عنها لاستغنائهم بقوة همَمِهم و كمال أحوالهم و غيبتهم في مذكورهم عن شخصية الذكر فضلا عن منوياته، بل يرون ذلك كله رسوما حاجبة و أسبابا صارفة عن التحقق بالشهود و الغيبة في المشهود.

ثمّ هم إن استعملوها بعد ذلك فعلى رسم الرجوع إلى الأسباب و العوائد كما وقع لكثير من مشايخ هذه السلسلة القادرية، فقد كانوا يتعاطونه بعد التمكّن و النهاية على رسم التدريج للسالكين من مريديهم على نحو ما وصفنا. و ربّما استعملوه برسم الرقى حرصا على النفع لعامة المسلمين و إظهارا لعظمة أسمائه تعالى من غير اعتماد على سبب و لا التفات إلى رسم.

الفرقة الثانية، و هم أهل همم قاصرة و قرائح فاترة، و قفوا على ما دون أهل الأسرار و المعارف في دواوينهم المتداولة المدوّنة تنبيها للعاقل على عظمة ذي الجلال و سر ارتباط الأكوان بأسمائه العظام، فتعلّقت أطماعهم بالظفر بما وصفوا، و طارت رغباتهم شعاعا إلى الفوز بما كشفوا من الأسرار المصونة و الخواص و الدقائق المكنونة، فاستعملوها على ضعفٍ من عزائمهم و انحطاط من هممهم و كسوف من أنوار بصائرهم، فحاولوا تقويتها برصد الكواكب و تحيّن الأوقات و استمداد الطبائع و استعمال البخورات و الإستغاثة بالأعوان مع الغفلة عن المذكور، و خلوّ ذكرهم من المحضور و حجابهم بالرسم، و غيبتهم فيما استعملوه في تقوية الإسم عن الإسم، فإن وقعوا فما وقعوا إلاّ على الحجاب، و إن وصلوا فما وصلوا إلاّ ما وراء الباب.

فكثيرا ما كنتُ أسمع الشيخ الوالد رضوان الله عليه يقول (كلما وقع لهذا الفن ذكر عجيب، فهو لقوم وصول و لقوم حجاب دون كنز المحصول، تُسقى بماء واحد و نفضل بعضها على بعض في الأكل، قد علم كل أناس مشربهم، و تمذهب كل فريق مذهبهم، كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا).

و لو لا ما التزمته من الإختصار لشرحنا ذلك شرحا يترك سماؤه قمرا من الأقمار، و الله المؤيّد لمدد الأنوار و الهادي لمن شاء بنور الفتح و الاستبصار إلى الوقوع على كنز المعارف و الأسرار.