عرض مشاركة واحدة
الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي رد: الكيمياء عند العرب
مذهب المتقدمين في الكيمياء
لا نطمع في تلخيص مذهب املتقدمني في الكيمياء، ولا في تحقيق آرائهم وبيان الجرح
والتعديل فيها؛ لأن ذلك عائد لأربابه املتخصصني لدرس هذا العلم واملتبحرين فيه. وإنما
نذكر منهم من مذهبهم الشيء اليسري، لنبني أن حكماء الإسلام كانوا على جانب من
العلم والتحقيق، لا كما يخالج أفئدة الكثريين من أنهم مجردون عن كل رأي سديد،
وإن كلامهم في الكيمياء خرافات وأباطيل، وقواعدهم فيها وهمية فاسدة، أظهر بطلانها
العلم الحديث. فمن أمعن النظر في كتبهم، وجدهم قد تبحروا في درس عوالم الطبيعة
وحقائق املكونات، وأظهروا من الآراء الفلسفية ما لم يجسر علماء العصر من الإفرنج
ً على أن يهزءوا بها، بل لم يزل كثري منهم يدرسها درسا دقيقً ا، ليستكشف خفاياها،
ويظهر غوامضها؛ لأن النظر في هذه الكتب يحتاج إلى دقة عظيمة، وتيقظ شديد، لجنوح
أصحابها إلى الإلغاز والإبهام فيها على القارئني.
ولم يصل علماء الإفرنج بعد إلى حل رموزها، ولا إلى استخراج جميع كنوزها،
لعدم رسوخهم في اللغة العربية، وعدم وقوفهم على اصطلاحات القوم فيها. ولم يزل
املستشرقون يوسعون دائرة معارفهم في كل سنة عما قبلها. على أن التفريق في هذه
الكتب بني الغث والسمني ليس بالأمر الهني؛ لأن الفريق الأعظم من املدعني معرفة هذا
العلم، واملؤلفني فيه، ليسوا على شيء من الحكمة، وكلامهم في الكيمياء سفسطة لا يعبأ
به، ولا يعول عليه. وأما املتكلمون فيها من الحكماء الذين شهدت لهم مؤلفاتهم بالفضل
وكثرة التحقيق، فلهم نظر فلسفي، هو الذي أدى إلى ما نشاهده من الترقي العصري في
هذا العلم. ولولا قواعد املتقدمني الأساسية لتأخر ظهور الكيمياء الحديثة أحقابًا طويلة.


عالم العناصروعالم الأفلاك
لا يخفى أن الحكماء املتقدمني من أهل الإسلام — وهم الذين نقل عنهم املسعودي في
مروج الذهب، وابن خلدون في مقدمته — يقسمون الوجود كله — أي ما سوى الله
سبحانه وتعالى — إلى قسمني: أحدهما الحسي والآخر ما وراء الحسي، وهو عالم ما وراء
الطبيعة من عوالم الروح والجن والآخرة ... إلخ. ولا كلام لنا الآن على هذا القسم. وأما
الحسي فهو هذه الكرة الأرضية وما أحاط بها من الهواء وما دار حولها من الأجرام
السماوية بحسب مرأى الرائي. ولا نتعرض الآن ملا حققه العالم الفلكي كوبرنيكس
Copernicus من الأصول الجديدة.
وينقسم الحسي عندهم إلى عالم العناصر املشاهدة، وإلى عالم الأفلاك. فالعناصر
أربعة: الأرض، واملاء، والهواء، والنار. والأفلاك تسعة: الفلك الأول وهو أصغرها وأقربها
إلى الأرض للقمر، وهو فوق كرة الهواء. والفلك الثاني فوق الأول لعطارد. والثالث
للزهرة. والرابع للشمس. والخامس للمريخ. والسادس للمشترى. والسابع لزحل. وحيث
لم يروا بآلات رصدهم الضعيفة إلا مجرد الكواكب املذكورة، قالوا بأن في كل فلك — أي
في كل مدار من هذه املدارات أو الأفلاك السبعة — كوكبً ً ا واحدا فقط. ثم فوق الفلك
السابع — وهو فلك زحل — الفلك الثامن، وهو للكواكب الثابتة. ثم فوقه الفلك التاسع
للبروج الاثني عشر. ونصوا على أن هيئة هذه الأفلاك هيئة الأكر بعضها في جوف بعض،
َّ وأشكالها الهندسية مستديرة، وهي أكبر الأشكال وأوسعها. وعرفوا الفلك بأنه نهاية ملا
تصري إليه الطبائع — أي العناصر — فهو بهذا التعريف ما يعبر عنه علماء الإفرنج
بالأثري املنتشر في الفضاء الذي فيه مدارات الكواكب.
ً ثم إنهم يقولون إن عالم العناصر يتدرج صاعدا من الأرض إلى املاء، ثم إلى الهواء،
ً ثم إلى النار متصلا بعضها ببعض. وكل واحد منها مستعد بالقوة إلى أن يستحيل إلى ما
ً يليه صاعد ً ا وهابطا، وقد يستحيل بعض الأوقات بالفعل والصاعد منها ألطف مما قبله
إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك، وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض، على
هيئة، لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط، وبها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها
وأوضاعها. والحامل لهم على هذا القول، هو من جهة مشاهدتهم الوجود الحسي على
هذا الترتيب. فالكرة الأرضية يغمر املاء ثلاثة أرباعها تقريبًا، ويعلوها الهواء وفوقه النار
أو النور املنبعث من الشمس. ومن جهة أخرى، مشاهدتهم بعض الأجسام تنقلب من
حالة الجسم الجامد، إلى الجسم السائل، إلى الجسم الغازي، إلى الجسم املحترق. وهذه الاستحالة موجودة في جميع الأجسام بالقوة، ولكنها لم تتحقق بالفعل إلا في بعضها،
بسبب تزايد الحرارة أو تناقصها. فاملاء الذي هو جسم سائل في حاله املعروفة، إذا نزلت
ً درجة حرارته بميزان سنتغراد إلى الصفر، استحال إلى جسم جامد؛ أي صار جليدا. وإذا
ً ارتفعت درجة حرارته وتجاوزت املائة درجة، غلى املاء وتبخر وصار جسما غازيٍّا. فإذا
تحلل هذا الغاز كما في بعض املستنقعات، ظهر فيه جزء محترق يشتعل، كما يشتعل
زيت الزيتون وزيت البترول في املصباح. وكلما عثروا على واسطة لتزييد الحرارة أو
تنقيصها، كثر عدد الأجسام التي تجرى فيها هذه الاستحالة بالفعل. وقد توصلوا إلى
إذابة أشد املعادن قساوة، كالحديد، والبلاتني، برفع درجة الحرارة إلى درجة عظيمة،
كما توصلوا إلى إذابة الأجسام الغازية، مثل الأكسجني، والأزوت بخفض درجة الحرارة
تحت الصفر إلى ما دون ١١٨ درجة للأكسجني، وإلى ما دون ١٤٦ درجة للأزوت. مع
استعمالهم الضغط والتضييق علاوة على التبريد.
ومن لطائف الفكاهات التي حدثت أول ما توصل العلماء إلى تحويل الهواء إلى جسم
سائل، وحفظه في إناء بارد خوفًا من تبخره إذا عرض لحرارة الجو، أن أحد الظرفاء
ذهب يتغدى مع رفيق له في أحد مطاعم باريس املشهورة، فجلس على مائدة الطعام،
وطلب من الخادم أن يأتيه بصحن (بفتيك) وأوصاه بالاعتناء بها، فأحضر له الخادم
ً أحسن قطعة مشوية، وكان ذاك الظريف مستحضرا معه على قليل من الهواء السائل،
فنقط منه نقطة على قطعة اللحم، فيبست من البرودة، فنادى الخادم ووبخه، ثم رفع
قطعة اللحم بالشوكة والسكني، وتركها تسقط في الصحن، فنزلت فيه كأنها قطعة من
حجر وكسرته. فعجب الحاضرون لذلك أشد العجب، ولم يعرفوا السبب. ثم إن ذاك
الظريف وضع من ذلك السائل في شراب رفيقه فبرد، وشرب منه فاستطابه، ولم يمض
عليه بضع دقائق إلا واحمر وجهه، وتفجرت عيناه، وانتفخ بطنه، وسقط من كرسيه
مغشيٍّ ً ا عليه؛ لأن ذلك السائل تبخر في جوفه، وصار جسما غازيٍّا — أي هواءً — واتسع
حجمه، فضغط على جدران معدة الرجل وسبب له تلك الانفعالات.
ثم إن املتقدمني من أهل الكيمياء، لم يقصدوا بالعناصر الأربعة عني الأرض، أو
املاء، أو الهواء أو النار، كما قد يتبادر للذهن. كلا، بل هم يقولون إن كل جسم متكون
لا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسب متفاوتة؛ أي لا بد أن يكون أحد
العناصر غالبًا على الكل؛ إذ لو كانت غري متفاوتة بل كانت متكافئة، ملا تم امتزاجها
على زعمهم. ومن هذا يظهر معنى قولهم: «خذ الحجر الكريم وأودعه القرعة والإنبيق، وفصل طبائعه الأربع التي هي النار والهواء واملاء والأرض.» فكل جسم عندهم مركب
من هذه العناصر الأربعة. فإن كان عنصر الأرض غالبًا في هذا الجسم، كان على هيئة
ً الأرض، أي جامدا صلبًا. وإن كان عنصر املاء غالبً ً ا كان الجسم على هيئة املاء؛ أي مائعا
ًسائلا. وإن كان عنصر الهواء غالبً ً ا كان الجسم على هيئة الهواء، أي غازا. وإن كان
عنصر النار غالبًا كان الجسم على هيئة النار أي محترقًا، إما بالاحتراق الشديد كاشتعال
الفحم وضوء السراج، أو بالاحتراق البطيء كصدإ الحديد، وذلك أن الاحتراق في عرف
ً ا، وهو ينشر نورا وحرارة،
الناس هو أن يتلاشى الجسم املحترق في الهواء شيئًا فشيئً
كاشتعال الفحم، والحطب، وزيت الزيتون، وزيت البترول. وأما في اصطلاح أهل الكيمياء
ً الحديثة، فاحتراق الجسم هو اتحاده بمولد الحموضة املسمى أكسجني. فإن نشر نورا
ً ا شديد ً ا، وإن لم ينشر نورا ولا حرارة سموه احتراقًا بطيئًا، كاتحاد
وحرارة سموه احتراقً
الرصاص، والقصدير والزئبق بمولد الحموضة. هذا قول لافوازيه وأتباعه؛ وأما جابر
وأتباعه فإنهم يحذرون في صناعتهم من النريان املحرقة، فليت شعري هل مرادهم من
ذلك الاحتراق الشديد؟
فعالم العناصر الأربعة وعالم الأفلاك وهو العنصر الخامس عند املتقدمني، هما
بمثابة قول أهل الكيمياء الحديثة بالأجسام البسيطة. فإن علماء الكيمياء الحديثة من
الإفرنج يقسمون الأجسام إلى قسمني: أحدهما بسيط وهو الذي لا يمكن أن يستخرج
ً بالتحليل الكيميائي، إلا نوع ً ا واحدا من املادة مهما يكن املحلل، سواء أكان من الأرواح
الكيميائية، أم الحرارة الشديدة، أم الكهربائية، فيبقى الجسم بعد معالجته بجميع ما ذكر
ً بسيطا، وذلك كالذهب، والفضة، والبلاتني، والقصدير، والحديد، والنحاس، والأكسجني،
والهيدروجني، وغري ذلك. ويبلغ عدد الأجسام البسيطة في يومنا اثنني وتسعني، وكلها
عناصر بسيطة لا سبيل بالصناعة من تحليلها إلى عناصر أخرى، وقلب عنصر منها لآخر.
ً فإذا اتحد نوعان فأكثر من هذه العناصر البسيطة اتحادا كيميائيٍّا سمى الجسم
حينئذ مركبًا، لتركبه من عنصرين فأكثر. وهذه الأجسام املركبة هي جميع ما في الكون
من الأجسام التي ليست ببسيطة. ويقسمون الأجسام البسيطة إلى قسمني: معدن وشبه
معدن. ويقسمون الأجسام املركبة إلى ثلاثة أقسام: حامض، وأساس، وملح. ثم لهم في
تقسيم كل منها وتصنيفها طرق مخصوصة لا حاجة بنا للتعرض إليها.
فقول املتقدمني بتألف الأجسام من العناصر الأربعة — التي هي الأرض واملاء
والهواء والنار — له نظري عند علماء الكيمياء الحديثة؛ وذلك أن علماء العصر من الإفرنج يذهبون إلى أن الأجسام التي فيها الحياة، ويسمونها ذوات الأعضاء، وهي عالم
النبات، وعالم الحيوان، وكذا الأجسام املستخرجة منها، كالنشاء املستخرج من الحبوب،
والسكر املستخرج من نبات قصب السكر، والألبومني املستخرج من بيض الدجاج، وكثري
غريها، ويسمونها الأجسام العضوية — جميع هذه الأجسام مؤلفة تقريبًا من أربعة
عناصر بسيطة: (١ (عنصر الفحم. (٢ (عنصر الهيدروجني وهو مولد املاء. (٣ (عنصر
الأكسجني وهو مولد الحموضة والباعث على الاحتراق. (٤ (عنصر الأزوت وهي العنصر
الأساسي في الهواء. ويسمون هذه العناصر الأربعة العناصر العضوية لتكوينها الأجسام
العضوية. نعم يوجد في بعض هذه الأجسام غري العناصر الأربعة املذكورة شيء قليل من
عنصر الكبريت، أو الفسفور، أو من عنصر الكلور، أو البرومني، أو اليود، ومن عناصر
املعادن، كالحديد، وغريه، ولكن بدرجة طفيفة لا أهمية لها. والعناصر الأربعة املتقدم
ذكرها املسماة بالعناصر العضوية، هي الأساسية، واملكونة لجميع الأجسام العضوية،
وكل جسم منها يتركب من الفحم، ومن عنصر أو عنصرين آخرين، وهي الأكسجني
ً والهيدروجني والأزوت. ويعتبر أيضا علماء العصر من الإفرنج أن الأجسام املعدنية —
أي عالم املعادن وهو ما اشتملت عليه الكتلة اليابسة من كرة الأرض — مؤلفة من
ً العناصر البسيطة، التي اكتشفت الآن، وعددها اثنان وتسعون عنصرا منها الذهب،
والفضة، والبلاتني، والنحاس ... إلخ. فبناءً على قولهم هذا تكون العناصر العضوية
الأربعة املتقدم ذكرها، هي املكونة للهواء املحيط بكرة الأرض، وللماء الغامر ثلاثة أرباع
وجه الأرض، ولجميع الأجسام الحية التي على الأرض من حيوان ونبات، وملا استخرج
من هذه الأجسام الحية من فحم وسكر ونشاء وأمثالها. فالعناصر الأربعة التي يقول بها
جابر، أشبه بالعناصر الأربعة التي يقول بها لافوازيه. فالأرض نظري الفحم، واملاء نظري
الهيدروجني، وهو مولد املاء، والهواء نظري الأزوت، وهو العنصر الأساسي فيه، والنار
نظري الأكسجني وهو مولد الحموضة والباعث على الاحتراق.
وملا كان املتقدمون من حكماء الإسلام، يذهبون إلى أن الجسم املتكون لا بد فيه من
اجتماع العناصر الأربعة، فهذا الجسم املتكون يبتدئ عندهم من املعادن، ثم النبات، ثم
الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. فآخر أفق املعادن متصل بأول أفق النبات، وآخر
أفق النبات متصل بأول أفق الحيوان. ومعنى الاتصال في هذه املكونات أن آخر أفق منها
مستعد لأن يصري أول أفق الذي بعده. وبالاختصار فعالم التكوين عند املتقدمني من
حكماء الإسلام، هو بمثابة الأجسام املركبة عند املتأخرين من علماء الكيمياء الحديثة.


مذهبا ابن سينا والفارابي في الكيمياء
إذا تقرر هذا فنقول: إن مبنى الكلام في صناعة الكيمياء عند املتقدمني من حكماء الإسلام
على حال املعادن السبعة املتطرقة، وهي الذهب، والفضة، والرصاص، والقصدير،
والنحاس، والحديد، والخارصني؛ أي التوتية املعدنية، املسمى زينكو من كلمة زنك، Zinc
الإفرنجية. هل كل واحد من هذه املعادن السبعة نوع قائم بنفسه، أو كلها أصناف لنوع
واحد، يختلف كل صنف منها باختلاف خواصه وكيفياته؟
فالذي ذهب إليه أبو علي ابن سينا، وتابعه عليه حكماء املشرق — وهو في الأصل
مذهب الكندي كما علمت، وإنما اشتهر بني حكماء الإسلام بمذهب ابن سينا لوقوف
الشهرة عنده — أن املعادن السبعة املذكورة أنواع متباينة، كل نوع منها قائم بنفسه،
متحقق بحقيقته، ولا سبيل بالصناعة إلى قلب نوع منها إلى نوع آخر. وبنوا على هذا
الرأي إنكار هذه الصناعة واستحالة وجودها. فهذا املذهب شبيه بقول علماء هذا العصر
من الإفرنج، الذين يقسمون الأجسام إلى قسمني: بسيط، ومركب، ويقولون إن املعادن
املذكورة هي من الأجسام البسيطة، كل واحد منها نوع قائم بذاته، متحقق بحقيقته،
ولم يتوصلوا بالصناعة إلى قلب واحد منها للآخر.
والذي ذهب إليه أبو النصر الفارابي، وتابعه عليه حكماء الأندلس — وهو في
الأصل مذهب جابر وخالد بن يزيد، وإنما اشتهر بني حكماء الإسلام بمذهب الفارابي،
لوقوف الشهرة عنده — أن املعادن السبعة املذكورة كلها نوع واحد، وأن اختلافها
إنما هو بالكيفيات، من الرطوبة، واليبوسة، واللني، والصلابة، وبالألوان من الصفرة،
والبياض، والسواد، وبالجلاء املعدني والرونق، وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد.
وبنوا على اتفاقها بالنوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض، لإمكان تبدل الأعراض حينئذ
وعلاجها بالصنعة. فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء عندهم ممكنة سهلة املأخذ.
ومن القائلني بهذا املذهب أبو الحسن الأنصاري الأندلسي املتوفى سنة ٥٩٣ه في فاس،
ً ونظم رسالة في الكيمياء، سماها شذور الذهب، وكان حكيم ً ا شاعرا، وله قصيدة طائية
مطلعها:
ب￾￾زي￾￾ت￾￾ون￾￾ة ال￾￾ده￾￾ن ال￾م￾￾ب￾￾ارك￾￾ة ال￾￾وس￾￾ط￾￾ى غ￾ن￾ي￾￾ن￾￾ا ف￾￾ل￾￾م ن￾￾ع￾￾دل ب￾￾ه￾￾ا الأن￾￾ض وال￾خ￾￾م￾ط￾￾ا


وكلهم في هذا املذهب عالة على أبي موسى جابر بن حيان الصوفي، وهو الإمام فيه
على التحقيق، ولكنه لم يشتهر في قومه وبني أبناء لغته كما اشتهر بني الإفرنج الذين
ترجموا شيئًا من كتبه إلى اللاتينية، وقدروه حق قدره.
فهذا املذهب يشبه رأي بعض فلاسفة الكيمياء في عصرنا، وصاحب هذا الرأي يذهب
إلى أن مواد الكون كله إنما تتألف في الأصل من عنصر واحد. ثم باختلاف حركة أجزائه
الفردة، واختلاف ترتيب أوضاعها، تكونت العناصر البسيطة املتقدم ذكرها، وبتركيب
هذه العناصر بعضها مع بعض تكونت الأجسام، التي تتألف منها الأرض وسائر الأجرام.
قول الجابريني بوجود الزئبقية والكبريتية في املعادن
أما سبب اختلاف املعادن بالكيفيات والألوان على زعم جابر وشيعته، فهو ناشئ من
تخلف مقدار الكبريت والزئبق، املوجودين في كل واحد من املعادن السبعة املذكورة.
فالذهب في رأيهم داخله كثري من الزئبق اللطيف، وقليل من الكبريت الصافي. والنحاس
فيه من الزئبق بمقدار ما فيه من الكبريت. وكلاهما في النحاس لم يبلغا الغاية في اللطف
ولا في الصفاء. والقصدير فيه كثري من الكبريت الرديء، وقليل من الزئبق الغليظ وهكذا
... ويدعون أن الكبريت والزئبق الداخلني في جسم كل معدن على قولهم، ليسا هما عني
الزئبق ولا عني الكبريت املشاهدين في مناجم الطبيعة. وإنما الزئبقية في اصطلاحهم هي
العنصر الأصلي في املعادن، والباعث على جلائها وانطراقها؛ أي للخاصة املعدنية فيها.
والكبريتية تدل على العنصر املحترق وامللون. اسمع ما قاله جابر في هذا املبحث:
الشمس (يعني الذهب) تتألف من الزئبق اللطيف، ومن قليل من الكبريت
الصافي الواضح، الذي له احمرار فاتح. وحيث لم يكن لهذا الكبريت لون واحد،
ً بل كان بعضه أغمق من بعض، نشأ عن ذلك أن بعض الذهب أشد اصفرارا
ٍ من بعضه الآخر ... فإذا كان الكبريت غري صاف ً ، غليظا، أحمر، أغبر، وكان
ً ا وأقله غري ثابت، وكان ممزوج ٍ ا بزئبق غليظ غري صاف، بكيفية
أكثره ثابتً
يكون معها الواحد لا أقل ولا أكثر من الآخر، تشكل من هذا املزيج الزهرة
(يعني النحاس) ... وإذا كان للكبريت ثبات قليل وبياض غري ناصع، وكان
ٍ الزئبق غري صاف، وبعضه ثابت وبعضه طيار، ولم يكن له إلا بياض غري
كامل، تشكل من هذا املزيج املشترى (يعني القصدير)

فهذه الجملة منقولة بالحرف عن أصل كتاب جابر املترجم إلى اللاتينية باسم
مختصر الإكسري الكامل. ولا يخفى أنهم يكثرون من استعمال الألغاز والرموز، ولذا
كنى جابر في هذه العبارة عن الذهب بالشمس، وعن النحاس بكوكب الزهرة، وعن
ٍّ القصدير باملشترى، وهلم جرا. وكثريًا ما يلقبون الذهب ألقاب امللوك لاعتبارهم إياه ملك
املعادن. فأول من وضع هذه القاعدة النظرية في تركيب املعادن هو جابر بن حيان
الصوفي.
قول الجابريني بتخليق املعادن في أحشاء
الأرض وانقلابها من طور لآخر
ثم إن لهم قاعدة أخرى أساسية في هذا العلم، وهي قولهم بأن املعادن تتخلق في أحشاء
الأرض، كما يتخلق الجنني في أرحام الحيوانات؛ وذلك أنهم يعتبرون أن كل متكون
من املولدات العنصرية، لا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة؛ أي
لا بد أن يكون أحد العناصر، التي هي الأرض، واملاء، والهواء، والنار غالبًا على الكل
كما مر ذكره. ولا بد في كل ممتزج من املولدات العنصرية من حرارة غريزية، هي
الفاعلة لكونه الحافظة لصورته. والحرارة تكون فوق الصفر وتحته. فحرارة الثلج تحت
الصفر، والجسم الإنساني حرارته الطبيعية سبعة وثلاثون درجة ونصف درجة بميزان
ً سنتغراد. فإن زادت الحرارة عن ذلك كان الجسم الإنساني محموما، وإن تجاوزت
الحرارة ٤٣ درجة أسرع إليه الهلاك. ثم إن كل متكون من املولدات العنصرية لا بد من
اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور، حتى ينتهي إلى غايته. مثال
ذلك الإنسان في طور النطفة، ثم العلقة، ثم املضغة، ثم التصوير، ثم الجنني، ثم الرضيع
... إلى نهايته، ونسب العناصر الأربعة في كل طور تختلف في مقاديرها وكيفياتها، وإلا
لكان الطور الأول هو بعينه الطور الآخر. وكذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة
للحرارة الغريزية في الطور الآخر. فجميع حكماء الإسلام من املوافقني لجابر واملخالفني
له، يقولون بهذه املقدمات التي ذكرناها، غري أن الجابريني منهم يزعمون أن املعادن
تتشكل في بطن الأرض، كما يتخلق الجنني في أحشاء الحيوانات، ولا يرون فرقًا بني تولد
املعادن وتولد الحيوان والنبات. فالذهب على زعمهم ينتقل في أحشاء الأرض من طور
إلى طور، وينقلب من حال إلى حال، ولا يتم تكوينه في معدنه إلا بعد ألف وثمانني من
السنني من دورة الشمس الكبرى.

قال العلامة بويراف (١٦٦٨–١٧٣٨م): «إن الكيميائيني — يعني جابرا وشيعته
— يذهبون إلى أن جميع املخلوقات تتولد من مخلوقات من نوعها سابقة عليها في الوجود.
فالحيوان يتولد من حيوان آخر سابق عليه في الوجود. والنبات كذلك يتولد من نبات
آخر واملعدن من معدن آخر. ويدعون أن القوة املولدة مختفية في البزرة املكونة للجسم،
وهي التي تفعل في الأجسام الأفاعيل املطلوبة، وتصريها بالتدريج مشابهة للأصل الذي
نشأت منه. وهذه البزور لا تتغري بمفاعيل الطبيعة، ولا تأكلها النريان املحرقة، بل النار
تقوي خاصتها املولدة. فبناءً على ذلك يمكنها أن تتصرف في الجسم املعالج بأسرع ما
يكون، وأن تغري مادة زئبقية إلى معدن من جنسها.»
وقال الحراني: «إن الصبغ كله أحد صبغني. إما صبغ جسد كالزعفران في الثوب
الأبيض حتى يحول فيه، وهو مضمحل منتقض التركيب. والصبغ الثاني تقليب الجوهر
من جوهر نفسه إلى جوهر غريه. ولونه، كتقليب الشجر التراب إلى نفسه، وقلب الحيوان
النبات إلى نفسه، حتى يصري التراب نباتًا والنبات حيوانًا. ولا يكون إلا بالروح الحي
والكيان الفاعل، الذي له توليد الأجرام وقلب الأعيان.» وهم يكنون بالروح عن الإكسري،
وكان الحراني هذا من مشاهري أطباء الإسلام، ارتحل إلى الأندلس، واستوطن قرطبة،
واشتغل بالطب والكيمياء، ورتب دواءً سماه (املغيث الكبري)، وكتم كيفية عمله وما
يشتمل عليه من العقاقري الطبية، فاتفق عليه خمسة من أطباء قرطبة، واشتغلوا مدة من
الزمن بتحليل الدواء، فتوصلوا إلى معرفة ما فيه من الأجزاء، ولكنهم لم يعرفوا مقدار
كل جزء منها، فلما رأى منهم ذلك باح لهم بسر دوائه، وعلمهم تركيب أجزائه، فشاع
استعماله بني جميع أطباء الأندلس، وكان ذلك في أواسط القرن الثالث للهجرة، على زمن
محمد بن عبد الرحمن الخليفة الأموي.
فإذا تقررت هذه القاعدة فهم يقولون: إن املشتغل في الكيمياء إذا عثر على بزرة
معدن من املعادن، تمكن من صوغ هذا املعدن بإضافة بزوره إلى الجسم املعالج. فإذا
ً عثر مثلا َّ على بزرة معدن الذهب أو الفضة — أي على إكسريهما املعبر عنه بالروح
— أضافه إلى الجسم الذي يكون فيه استعداد لقبول صورة الذهب أو الفضة، وحاوله
بالعلاج إلى أن يتم له املراد. فهذه البزور أو الإكسري تفعل في الجسم املعالج على زعمهم،
كما تفعل الخمرية في العجني، أو كما يفيض النور على الأجسام بالصقل والإمهاء، كما
َّعبر بذلك الأستاذ أبو إسماعيل الطغرائي قال:
وإذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مثل العقرب من التراب، والنتن،
ومثل الحيات املتكونة من الشعر، ومثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النحل إذا فقدت من عجاجيل البقر، وتكوين القصب من قرون ذوات الظلف
ً وتصيريه سكرا بحشو القرون بالعسل، فما املانع إذًا من العثور على مثل ذلك
في الذهب أو الفضة.
فصاحب الكيمياء يحتاج إلى أن يساوق فعل الطبيعة في تخليقها املعادن. ولذا فهو
يتصفح املكونات كلها؛ أي يمتحن جميع الأجسام البسيطة والأجسام املركبة، ويجري
فيها الأعمال الكيميائية، مثل حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية، بالتصعيد، والتقطري،
وجمد الذائب منها بالتكليس، وإمهاء الصلب بالفهر والصلاية وأمثال ذلك. ويعني مزاج
كل جسم وقواه وخواصه وأشكاله. وبعد وقوفه على املادة املستعدة لقبول صورة الذهب
ً يجعلها موضوعا لعمله، ويحاذي في تدبريها وعلاجها تدبري الطبيعة في الجسم املعدني،
وقلبها له من طور إلى طور، حتى تصريه ذهبًا أو فضة. فهو يضاعف القوة الفاعلة —
أي الحرارة الغريزية — ليتم عمله في زمن أقصر من زمن الطبيعة، وهو ألف وثمانون
من السنني على زعمهم؛ لأن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله، فإذا تضاعفت
القوى والكيفيات في العلاج كان زمن كون الذهب أقصر من ألف وثمانني سنة بكثري.
ً ولا بد له أيضا من تصور حالات الذهب، ونسب عناصره الأربعة في كل طور من أطواره،
واختلاف الحرارة الغريزية عند انتقاله من حالة لأخرى، ومقدار الزمان في كل طور،
وما ينوب عنه من مقدار القوى املضاعفة، ويقوم مقامه، حتى يحاذي بذلك كله فعل
الطبيعة في املعدن. أو أن يعد لبعض املواد صورة في مزاجها، تكون كصورة الخمرية
للخبز، وتفعل في هذه املادة بالنسبة لقواها ومقاديرها.
ثم إن اعتقادهم بتقلب املعادن في بطن الأرض من طور لطور، وبارتقائها على
رأيهم من حالة النقص إلى حالة الكمال، جعلهم يقسمون املعادن إلى قسمني: ناقص
ُّ وكامل، أو خسيس وشريف. ويقولون بأن تكون املعادن الخسيسة — مثل الرصاص
والقصدير والنحاس — لم يكن فيه الغاية املطلوبة؛ لأن الطبيعة في عرفهم تسعى بإفراغ
ً مصنوعاتها في أكمل قالب، وتجتهد دائما بتوليد الذهب، ولكن الأقدار لا تبلغ الدنيا كل
ً املنى، رغما عما لها من املهارة والدهاء. فيحصل في عملها هذا خطأ، ويتولد معها غري
الذهب من املعادن، إذ تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. قال بعض السالكني طريقة
جابر من الإفرنج، وهو املسمى سلمون:
ينبغي لنا ضرورة أن نقر بأن قصد الطبيعة في توليدها املعادن لم يكن عمل
ً الرصاص، أو الحديد، أو النحاس، أو القصدير، بل ولا الفضة رغما عن كونها قريبة من الكمال، وإنما قصدها عمل الذهب. فهو ابن أمانيها، لأن الصانعة
ً الحكيمة تبغي دائما أن يكون صنعها في أعلى درجة من الإتقان فإذا قصرت فيه
عن رتبة الكمال، وظهر العيب في صنعها، فإنما يحصل ذلك بالرغم عنها. فلا
ينبغي لنا أن نوجه اللوم عليها في ذلك، بل اللوم على حدوث الأسباب الخارجية
... فلذلك يلزمنا أن نعتبر تولد املعادن الناقصة كتولد املسخ والناقص الأعضاء
في الحيوان، فإن ذلك لا يحدث إلا لكون الطبيعة حادت في عملها عن الصراط
املستقيم، فوجدت في طريقها عثرة زلت بها قدمها، وغلَّت يدها عن العمل، فلم
تنصرف في أعمالها على مألوف عادتها. فالعثرة التي زلت بها قدم الطبيعة في
تكوينها الذهب، هي ما تجده من الدرن — أي الوسخ — امللتصق في الزئبق،
بسبب عدم نظافة املكان الذي يستقر فيه الزئبق، ليتحد بالكبريت، ويشكل
ً الذهب، وبسبب رداءة الكبريت املتحد أيضا وشدة قابليته للاحتراق.
ً فاملعادن عندهم تستحيل من حالة لأخرى، والطبيعة على زعمهم تسعى دائما
في إخراج املعادن من حالة النقص والخسة إلى حالة الشرف والكمال. فحالة النقص
هي اتصاف املعادن بالتغري، وحالة الكمال هي اتصافها بعدم التغري؛ أي بالثبات على
مقاومة العوامل الطبيعية. فالحديد، والرصاص، والقصدير، والنحاس، والخارصني،
ِّ وكذا الزئبق، كلها سريعة التغري، ولا ثبات لها على مقاومة العوامل الطبيعية، إذا عرضت
للهواء الرطب واملاء، وتتأثر بالحوامض الكيميائية. ولذا يسرع العطب لسطل الحديد
الذي يستخرج به املاء من الآبار، ولذا نحتاج إلى إرسال الأواني النحاسية للبياض بني
آونة وأخرى، كما نحتاج إلى صبغ حديد الأبواب وقضبان النوافذ؛ لأن جميع ذلك متخذ
من املعادن الخسيسة، كالحديد، والنحاس، والخارصني، الذي يصنع منه مزاريب املياه،
ً ويوضع على سطوح بعض البيوت عوض ً ا عن القرميد، منعا للدلف وتسرب املياه. فجميع
هذه املعادن تتغري وتصدأ. فصدأ الحديد في اللغة وسخه كما ورد في مختار الصحاح.
وفي اصطلاح الكيميائيني في عصرنا هو اتحاد املعادن بالأكسجني، وهو مولد الحموضة.
فإذا صدئ املعدن قالوا باصطلاحهم: تأكسد املعدن. ويسمون الصدأ أكسيد الحديد، أو
الرصاص، أو النحاس. ولذا سميت املعادن املتقدم ذكرها باملعادن الخسيسة، أو الدنيئة،
أو الناقصة، أو غري الثمينة. بخلاف الذهب والفضة فإنهما لا يتغريان بالعوامل الجوية؛
أي لا يصدآن، ولا تذيبهما النار إلا إذا كانت الحرارة في درجة عظيمة كألف درجة
ً سنتغراد أو نيف. ولا تؤثر فيهما الحوامض الكيميائية إلا ما ندر منها. فالذهب مثلا لا يذاب إلا باملاء امللكي، الذي هو عبارة عن «حامض كلوريدريك وحامض أزوتيك» وأما في
ً الزئبق فيمتزج به امتزاج ً ا، ويسمى حينئذ ملغما فمن أجل ذلك أطلق على الذهب والفضة
اسم املعدنني الشريفني، أو الحجرين الثمينني، أو الكاملني، وعززتهما الاكتشافات الأخرية
بثالث هو البلاتني، أو الفضة الأمريكية، وهو يفوق الذهب في هذا الشرف والكمال، ولذا
كان أغلى منه ثمنًا.
َّ أما الذي جرهم إلى القول بأن الطبيعة تدبر الجسم املعدني، وتعالجه قرونًا كثرية،
حتى يصري ذهبًا، فهو ما شاهدوه من الحالات الكثرية والصور املختلفة، التي توجد عليها
شذور الذهب؛ أي حجارتها قبل الغسل والتصفية. فتارة تكون الشذور على هيئة عروق
في أحشاء الأرض وبني طبقاتها الصخرية والرملية، وتارة تكون على وجه الأرض وفي
مجاري الأنهار. فظنوا هذه الحالات الكثرية والصور املختلفة، هي الأطوار التي يتقلب
فيها املعدن من طور لآخر. ولذا قالوا بأن املعادن يستحيل الأخس منها إلى الخسيس،
وهذا يستحيل إلى الشريف، وتنتهي الاستحالات إلى أشرف املعادن وأكملها وهو الذهب
الإبريز؛ أي الخالص. ثم اختلفوا إذا انتهى املعدن إلى هذه الدرجة القصوى من الكمال،
ٍّ هل يبقى مستمر ً ا على هذه الحالة الشريفة أو ينعكس راجعا إلى التراب؟ فاملسألة عندهم
فيها قولان.
قولهم بأن املعادن روح
لا يخفى أن حكماء الإسلام يقولون: إن املعدن يستحيل نباتًا، والنبات يستحيل حيوانًا،
ً والحيوان لا يستحيل إلى شيء هو ألطف منه إلا أن ينعكس راجعا إلى الغلط. ويقولون
ً أيضا إنه لا يوجد في العالم شيء تتعلق به الروح غري الحيوان. والروح ألطف ما في
العالم. ولم تتعلق الروح بالحيوان على زعمهم، إلا بمشاكلته إياها. فأما الروح التي في
النبات فإنها يسرية، فيها غلظ وكثافة، وهي مع ذلك مستغرقة كامنة فيه، لغلظها وغلظ
جسد النبات، ولذلك لم يقدر النبات على الحركة لغلظه وغلظ روحه. والروح املتحركة
ألطف من الروح الكامنة كثريًا؛ وذلك لأن املتحركة لها قبول الغذاء والتنقل والتنفس،
وليس للكامنة غري قبول الغذاء وحده. ولا تجري إذا قيست بالروح الحية إلا كالأرض
عند املاء. كذلك النبات عند الحيوان. ولا يخفى أن مقصودهم بمقايسة الأرض عند املاء
ً هو مقايسة الجسم الصلب السائل، فهم يعتبرون أن للمعادن روحا، ولكن هذه الروح
أغلظ وأكثف من الروح الكامنة في النبات، كما أن روح النبات غليظة وكثيفة بالنسبة
لروح الحيوان املتحركة. فليت شعري ما قصدهم بروح املعدن؟

قولهم بتأثري الكواكب في تكوين املعادن
ثم إنهم يزعمون أن للنجوم تأثريًا على فعل الطبيعة في الجسم املعدني حتى يصري ذهبًا.
ٍّ ولكن هذا التأثري بطيء جدا، ولا يتم إلا في مئات من السنني. فالاعتقاد بتأثري الأجرام
ٍّ العلوية في عالم العناصر قديم جدا، وعليه كان دين أهل بابل الأقدمني.
أما أثر الشمس في عالم العناصر؛ أي في كرتنا الأرضية وفي هوائها، فظاهر، لا يسع
أحد جحده، مثل أثر الشمس في جميع أفعال الحياة وفيما على وجه الأرض من التغريات،
وكذا أثر القمر في املد والجزر. وأما تأثري غري الشمس والقمر من الكواكب فمشكوك فيه.
ولا برهان على صحته، وقد جرت مناقشات عديدة في هذا التأثري بني علماء الفلك وعلماء
التنجيم، ألطفها املناقشة التي جرت على أثر مقالة نشرها العلامة فلاماريون، الفلكي
الشهري في باريس بكثرة مؤلفاته، ومن علماء هذا العصر. وقد جاء في هذه الرسالة أنه
إن كان لغري النريين من الكواكب السيارة والثابتة تأثري على الأرض من جهة الجاذبية
والشعاع، فهذا التأثري بمثابة العدم، ولا حكم له في عالم العناصر. فكلام فلاماريون
ينصت له العلماء، ويثق به الناس أجمعون، إذ هو صاحب الاكتشافات العظيمة في
كوكب املريخ، ولذا دعاه أحد علماء أمريكا كريستوفر كوملبس املريخ. وملا نشر العلامة
فلاماريون هذا الرأي قام عليه املنجمون وسلقوه بألسنة حداد، وشددوا عليه النكري
لإنكاره تأثري الكواكب، وأوردوا من حججهم وبراهينهم ما لا يسعنا التعرض لها هنا
لضيق املقام، ولأن الخوض في مثل هذا البحث خارج عن حدود ما رسمناه لبحثنا هذا.
ففي أوروبا كثري من املنجمني واملعتقدين بأحكام النجوم، وتأثريها في عالم العناصر،
وبمعرفتهم بهذا التأثري قبل حدوثه وإنبائهم عن الغيب على زعمهم ودعواهم. ويقولون
ً ا في غري املد والجزر أيضا. من ذلك أن قص الشعر في أول الشهر القمري
بأن للقمر تأثريً
موجب لتوقيف تساقط الشعر، وأن الجهة املقابلة ملطالع القمر من الأبنية القديمة أسرع
ً انهدام ً ا وأقرب ميلا لتلك الجهة مما عداها، وغري ذلك مما يسخر منه العلم الحديث.
وكاميل فلاماريون املشار إليه من علماء الفلك، الذين يقولون بوجود النفس الإنسانية،
وبأنها جسم لطيف قائم بذاته ومنفصل عن املادة. والذي أداه إلى هذا القول هو التحقيق
والتدقيق الذي أجراه في ٤٣٨ مسألة من مسائل الروح والنفس، وعالم ما وراء الطبيعة،
واستنتج من ذلك هذه النتائج الأربع:
(١ ً (النفس موجودة وجودا حقيقيٍّا ومنفصلة عن الجسد.

(٢ (للنفس خصائص لم تزل مجهولة في نظر العلم.
(٣ (للنفس تأثري وإدراك عن بعد بغري واسطة الحواس البدنية.
(٤ (املستقبل مهيأ من قبل الوقوع، ومعني بالأسباب الداعية لحدوثه. فالنفس يمكنها
إدراك املستقبل في بعض الأحيان.
فهذا العلامة يعتقد بأن النفس مدركة للغيب في بعض حالاتها؛ أي إنها تحس
ببعض الحوادث قبل وقوعها، وهو يقول عندما سأله أحد الصحفيني، إن كان رأى
بنفسه شيئًا من الروحانيات: «كلا مع الأسف. لم تظهر لي ولا روح من أرواح الأحياء
ولا الأموات، وليس لي إحساس قلبي بذلك، ولا أصدق بهذه الأمور إلا بناءً على مشاهدة
الآخرين الذين امتحنتهم واختبرتهم بنفسي.» أي اختبر ما حدث لهم في إدراك النفس
للغيب وفي تأثريها. وهي منفصلة عن الجسد بدون اعتماد في إدراكها على الحواس
الخمس وآلاتها. ولا نطيل الكلام في هذا املوضوع، بل نكتفي بذكر ما قاله أبو القاسم
الرحوي، وكان من شعراء تونس في القرن الثامن للهجرة، من قصيدة نظمها عندما
غلب العرب عساكر السلطان أبي الحسن، وحاصروه بالقريوان، وكثر إرجاف املرجفني،
وتنبؤ املنجمني:
رض￾￾ي￾￾ت ب￾￾ال￾￾ل￾￾ه ل￾ ً ￾ي إل￾￾ه￾ا ح￾￾س￾ب￾￾ك￾￾م ال￾ب￾￾در أو ذك￾￾اء
م￾￾ا ه￾￾ذه الأن￾￾ج￾￾م ال￾￾س￾￾واري إلا ع￾ب￾ادي￾د أو إم￾اء
ي￾￾ق￾￾ض￾￾ى ع￾￾ل￾￾ي￾￾ه￾￾ا ول￾￾ي￾￾س ت￾￾ق￾￾ض￾￾ي وم￾￾ا ل￾￾ه￾￾ا ف￾￾ي ال￾￾ورى اق￾￾ت￾￾ض￾￾اء
ض￾￾ل￾￾ت ع￾ق￾￾ول ت￾￾رى ق￾ ً￾م ￾دي￾ا م￾￾ا ش￾￾أن￾￾ه ال￾￾ج￾￾رم وال￾￾ف￾ن￾￾اء
وح￾ك￾￾م￾￾ت ف￾￾ي ال￾￾وج￾￾ود ط￾ً￾ع ￾ب￾￾ا ي￾￾ح￾￾دث￾￾ه ال￾￾م￾￾اء وال￾￾ه￾￾واء
وهي قصيدة جيدة، وأحسن منها قول أبي العلاء املعري، وله فضل املتقدم لوقوع
وفاته في سنة ٤٤٩ه:
ل￾￾ل￾￾م￾￾ل￾￾ي￾￾ك ال￾￾م￾￾ذك￾￾رات ع￾￾ب￾￾ي￾￾د وك￾￾ذاك ال￾￾م￾￾ؤن￾￾ث￾￾ات إم￾￾اء
ف￾ال￾ه￾￾لال ال￾م￾￾ن￾￾ي￾￾ف وال￾￾ب￾￾در وال￾￾ف￾￾ر ق￾￾د وال￾￾ص￾ب￾￾ح وال￾ث￾￾رى وال￾￾م￾￾اء
وال￾￾ث￾￾ري￾￾ا وال￾￾ش￾￾م￾￾س وال￾￾ن￾￾ار وال￾ن￾￾ث￾￾ـ ـ￾￾رة والأرض وال￾￾ض￾ح￾￾ى وال￾س￾￾م￾￾اء

ه￾￾ذه ك￾￾ل￾￾ه￾￾ا ل￾￾رب￾￾ك م￾￾ا ع￾￾ا ب￾￾ك ف￾￾ي ق￾￾ول ذل￾￾ك ال￾￾ح￾￾ك￾￾م￾￾اء
النثرة اسم لنجمني صغريين يقال لهما أنف الأسد. والقصيدة بديعة، وهي في
اللزوميات.
ماهية الإكسري
تبني مما ذكرناه من املذاهب والآراء، أن السالكني طريقة جابر من أهل الكيمياء، يزعمون
ً أن هناك بزورا تفعل في الجسم فعل الخمرية في العجني، وتقلبه ذهبًا. وهذا ما يعبرون
ً عنه بالإكسري، ويسمونه أيضا الصبغ والحجر املكرم أو الكريم والإفرنج منهم يقولون
له الحجر الفلسفي، أو حجر الفلاسفة، أو الإكسري الكامل، والعلم الأكبر، والعنصر
الخامس. وإذا لم يقلب الجسم املعدني إلا للفضة فقط سموه حجر الفلاسفة الصغري،
والإكسري الناقص، والعلم الأصفر.
واختلفوا في ماهية هذا الإكسري، إلا أن فحول املشتغلني بعلم جابر من مسلمني
وإفرنج يشهدون على وجوده بالفعل لا بالقوة فقط، وعلى مشاهدتهم له واستعمالهم
ً إياه. قال ابن بشرون في هذا املعنى: «ينبغي لطلاب هذا العلم أن يعلموا أولا ثلاث خصال؛
أولها: هل تكون؟ والثانية: من أي شيء تكون؟ والثالثة: كيف تكون؟ فإذا عرف هذه
الثلاث وأحكمها فقد ظفر بمطلوبه، وبلغ نهايته من هذا العلم. فأما البحث عن وجودها
والاستدلال على تكونها، فقد كفيناكه بما بعثنا به إليك من الإكسري.» وهو الذي بعثه
إلى صاحبه أبي السمح تلميذ مسلمة كبري علماء الأندلس. لكن ابن بشرون لم يعرفنا
حقيقة الإكسري وخواصه بصريح العبارة، بل يقول إنه يخرج من الحيوان وينفصل
ً طبائع أربعا؛ أي يمر من حالة الجسم الصلب إلى السائل إلى الغازي إلى النار، وهي
الحرارة والنور. فهو بهذه الأوصاف لم يزل في حيز الخفاء عندنا. وقال ألبري الكبري في
كتابه الكيمياء والفلسفة: «عرفت كثريًا من الأغنياء والرهبان وكبار املوظفني والجهلاء
املقلدين، كلهم أضاعوا وقتهم ونقدهم في البحث عن هذه الصناعة، ولم يظفروا منها
بشيء. ولكن ذلك لم يستوجب فتور همتي، ولا صدني عن مباشرتي، فاشتغلت بكل
اجتهاد وسافرت من بلد لآخر وأنا أقول في نفسي: إن كانت تكون فكيف تكون؟ وإن
كانت لا تكون فكيف لا تكون؟ وبقيت على ذلك إلى أن وصلت إلى معرفة كون استحالة
املعادن إلى الفضة والذهب ممكنة.» فإن دققنا في هذه العبارة املنقولة عن كتاب فيكيه
في الكيمياء والكيميائيني، نجدها عني عبارة ابن بشرون املدروجة في مقدمة ابن خلدون.

وأول من قال بهذه الخصال الثلاث املتقدم ذكرها هو خالد بن يزيد بن معاوية.
وشهد فان هيلمون على أنه رأى الحجر الفلسفي بعيني رأسه، وملسه بيده، قال: «فكان
ً بكفي ثقيلا، ولونه كلون مسحوق الزعفران، وله ملعان كثري.» وشهد غريه عليه أنه جسم
صلب، لونه كلون الياقوت الغامق، شفاف قابل للانحناء، ولكنه ينكسر كالزجاج. وقال
غريه: لونه كلون الخشخاش البري، ورائحته كرائحة امللح البحري. ويقول بعضهم: إنه
كقطع الفحم، والبعض الآخر يقول: لونه كلون الكبريت. فتضاربت أقوالهم وتناقض
كلامهم، ولكنهم في الغالب يصفونه بالتراب الأحمر، ومن هنا شاع على الألسن قولهم:
أندر من الكبريت الأحمر. ويصفون به العلماء فيقولون: فلان هو الشيخ الأكبر والكبريت
الأحمر. ويقال: ذهب كبريت؛ أي خالص. وورد في كتاب خالد بن يزيد الأموي املترجم
إلى اللاتينية باسم «رسالة في الكلمات الثلاث» — ولعلها الخصال الثلاث املتقدم ذكرها
— عبارة تصحح هذه الأقوال، وتزيل التناقض والإشكال. وهذه العبارة هي قوله: «إن
هذا الحجر يجتمع فيه جميع الألوان، فهو أبيض، وأحمر، وأصفر، وأزرق سماوي،
وأخضر ...» أما الإكسري الناقص الذي يقلب إلى الفضة فقط، فيصفونه غالبًا بالبياض
الناصع، ويسمونه الصبغ الأبيض، ولكنهم قلما يبحثون فيه لاتجاه أفكارهم نحو الإكسري
الكامل؛ إذ هو مطمح أنظارهم، ومبتغى آمالهم، وغاية أعمالهم.
ً وقد ينسبون إلى هذا الإكسري أفعالا عجيبة، كخاصة الدواء الشافي لكل داء. روى
لنا جابر عن نفسه هذه القصة، وهي تؤيد ما ذهب إليه الكيميائيون من وجود هذه
الخاصة في الإكسري، قال: «كان ليحيى بن خالد البرمكي جارية، يضرب بها املثل في
الجمال والذكاء، وكان يحبها كثريًا، فمرضت ذات يوم، واشتد بها املرض حتى كان يودي
ً بحياتها. فأرسل يحيى إلي رسولا ً يستشريني في الأمر، ويطلب لها علاجا، ولم أكن رأيت
ً الجارية من قبل، ولا عرفت سبب مرضها لأصف لها العلاج. فظننت أن بها تسمما،
ً فأشرت عليه باستعمال املاء البارد فلم يجد ذلك نفعا. ثم أشرت بعدها بالدلك فلم ينفع
ً ذلك أيضا. وأخريًا دعاني يحيى إلى بيته لأرى الجارية، وأصف لها الدواء. فذهبت إلى
ً بيته ومعي الإكسري، وأعطيتها منه جرعة صغرية فشفيت بإذن الله، وفرح يحيى فرحا
ً عظيما، وأجازني على ذلك.»
هذه هي زبدة آراء الكيميائيني في القرون الوسطى، وخلاصة الأقوال التي تبنى
عليها صناعتهم، وتدور عليها مباحثتهم، ذكرناها دون مناقشة فيها، ليعلم أن السالكني
طريقة جابر ليسوا مجردين عن العلم والتحقيق، وليست صناعتهم صرف وهم وخيال.

نعم إن الإكسري لم يوجد للآن، ولا علمت حقيقته، ولا توصل أحد من أهل الكيمياء
الحديثة إلى إثبات كون الذهب مركبًا من عنصر آخر غري عنصره البسيط، ولكن الجميع
ً يعلمون أن للسالكني طريقة جابر قواعد علمية، ونظرا فلسفيٍّا في املكونات، هو الذي
أدى إلى اكتشاف الكيمياء الحديثة، وإلى وضع قواعدها؛ لأن الفكر البشري لا بد له من
أن يتسلسل في املسائل، ويرتقي في الإدراك درجة فدرجة، حتى يصل إلى نقطة الأوج
ً والكمال. سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. فوجود علم جابر كان ضروريٍّا
لوجود علم لافوازيه، لتوقف وجود الثاني على وجود الأول.