المشاركات الجديدة
قسم الكتب و المنشورات : كتب و منشورات و مواقع في كل الميادين المرتبطة بتخصص منتديات الشامل

"اللمحات القدسية في متعلقات الروح الكلية"

افتراضي "اللمحات القدسية في متعلقات الروح الكلية"
رسالة "اللمحات القدسية في متعلقات الروح الكلية"، للختم الأكبر الشيخ أبي الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني قدس سره، وهي في الروح وما يتعلق به، بلسان خاصة الخاصة...

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على قطب المنازل وآله وصحبه وسلم

كتاب اللمحات القدسية في متعلقات الروح الكلية

هذه نفثات سحرية وإبداعات صمدانية ويواقيت لهوانية وجواهر فردية ومنح قدسية وعجائب برزخية وإنشاءات معبدية وكلمات فيضية من دوران شعاع الأحمدية

أنا بلبل الأفراح أملأ دوحه طربا، وفي العلياء باز أشهب

أبداها محمد بن عبد الكبير الأحمدي الإبراهيمي الصديقي الأويسي الكتاني في متعلقات الروح وفتك فص خاتمها بما لم أسبق إليه موشحا بوصول بدل قول غيري فصول، والفصل لأهل الفَصل والوصل لأهل الوصل وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن مسمى. مقدما بين يدي نجواي مقدمات:

الأولى في تقسيم المخلوقات: اعلم أن عندنا وجوبا وممكنا، والأول هو الذات الأقدس لأن وجوده ذاتي فكان واجبا فاستحال عدمه، والثاني هو عالم الممكنات وهو إما أن يكون قائما بالذات أو قائما بالغير، والقائم بالذات إما أن يكون متحيزا أو لم يكن، فإن كان متحيزا فهو الجسم وإن لم يكن فهو الجوهر الروحاني، وهو إما أن يكون متعلقا بالأجسام تعلق التدبير وهو النفس أولا يكون، وهو إما أن يكون سليما عن الشهوة والغضب وهو الملك أولا يكون وهو الجن. ثم القائم بالغير إن كان قائما بالمتحيزات فهو الأعراض الجسمانية وإن كان قائما بالمفارقات فهو الأعراض الروحانية كالعلم والقدرة. ثم الأعراض الجسمانية إما أن يلزم من صدقها حصول صدق النسبة أو لا هذا ولا ذاك، فإن كان الأول فالنسبة إما حصول في المكان أو في الزمان وهو الشيء أو نسبة متكررة وهو الإضافة أو تأثير الشيء في الشيء وهو الفعل أو تأثير الشيء عن الشيء وهو الانفعال. ثم إن كون الشيء محيطا بالشيء يجب أن ينتقل المحيط بانتقال المحاط به وهو الملك كالتقمص والتعمم أو هيئة حاصلة بمجموع الجسم بسبب حصول النسب بين أجزائه بعضها إلى بعض وبين أجزائه والأمور الخارجية وهو الوضعي كالقيام والأشكال. ثم إن كان يلزم من حصولها صدق قبول النسبة فهو إما أن يكون بحيث لا يحصل بين أجزائه حدود مشتركة وهو العدد أو يحصل وهو المقدار. وإن كان لا يلزم من حصولها صدق قبول فإما أن يكون مشروطا بالحياة أو لم يكن، فإن كان فإما أن يتوقف على الشهوة والنقرة وهو التحريك أولا يتوقف وهو الإدراك. ثم الإدراك إما إدراك الكليات وهو الظنون والعلوم والجهالات أو إدراك الجزئيات وهو الحواس الخمس، وإن لم يكن مشروطا بالحياة فهو الأعراض المحسوسة بالحواس الخمس. أما المحسوسات بالقوة الباصرة فكالأضواء والألوان وأما المحسوسات بالقوة الشامة فكالطيب والنتن وأما المحسوسات بالقوة السامعة فالأصوات والحروف وأما المحسوسات بالقوة اللامسة فكالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسية والثقل والخفة والصلابة واللين والخشونة والملاسة، فهذه جملة أقسام الممكنات.
المقدمة الثانية: ومقصودنا الإيجاز دون الإسهاب. اعلم أن ما سوى الجناب الحقي كله مخلوق وكل ذرة من جوهر وعرض وصفة وموصوف فيها غرائب وعجائب يظهر فيها حكم انفعالات التدبيرات وعشر ذلك لا نقدر على إحصائه لكن (إن لم يصبها وابل فطل). الموجودات منقسمة إلى ما لا نعرفها ولا يمكننا النظر فيها بشاهد (ويخلق ما لا تعلمون) وإلى ما نعرف جملها وهي منقسمة إلى ما لا يدرك بالبصر كالعرش والكرسي والملائكة والجن والشياطين وغيرها. وأما المدركات بالبصر كالسماوات والأرض وما بينهما: والسماوات مشاهدة بكواكبها وشمسها وقمرها ودورانها والأرض مشاهدة بما فيها من جبالها وبحارها وأنهارها ومعادنها ونباتها وحيوانها وما بين السماء والأرض وهو الجو مدرك بغيومها وأمطارها وثلوجها ورعودها وبروقها وصواعقها وشهبها وعواصف أرياحها فهذه هي أجناس المشاهدات من السماوات والأرض وما بينهما. ثم إن كل جنس منها ينقسم إلى أنواع وكل نوع إلى أصناف وكل صنف إلى أقسام ولا نهاية لاستيعاب ذلك.
المقدمة الثالثة: اعلم أن العقل أودع الحق فيه جرأة على التنقُّب للاطلاع على مكامن الأمور خصوصا العسيرة. ولما كان كذلك بدل له أمنيته وأوقفه على ساق العَنَتِ بالنسبة لعين حياته فلم يُطْلَع لها على قرار ولا حد فوقع في حيص بيص ولا مناص عن هذا إلا بالحيرة وهي المرادة فكأن الحق يقول: جُلُّ ما في الوجود ربما يزعم العقل أنه يبلغ لمنتهى مرماه وها أنا أقرب إليه من كل شيء ومع ذلك فاحتجبت بشدة ظهوري وذلك للالتحاف الإسم الظاهر بمقتضيات الإسم الباطن فكان الظهور في ضده وعكسه، بل كل مخلوق من جنس الممكنات لم تحيطوا به خبرا وهو الروح فلأجل هذا انتُزِع السر للمحادثة والعقل للمباحثة فترجم الراوي وهو النون العرشي فقال:
وصل: اعلم أولا أن الحق تعالى لما أبرز روح الوجود وحياته العقل الأول جعلها هيولى جامعة لارتسام جميع الأشكال والصور فما ثم مادة من جواهر الممكنات إلا وهي مقتبسة منها وما ذلك إلا لأنها روح أعيان الموجودات وعين مادة وجودها بشاهد قول القرءان (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان) فصدر الآية فرق لأنها أنبأت بالإثنينية في قولها البحرين وأعقبها الجمع أو جمع الجمع في قوله يلتقيان إذ البحرين كناية عن بحر الربوبية والمربوبية، والالتقاء إشارة للتعلق النسبي الكائن بينهما. فهب أن هذه الأثرات انبجست من عين أحكام مقتضيات العلم لا زالت العلقة الكائنة بين مقتضيات الصفة والموصوف وتلك النسبة هي المعبر عنها ب: يلتقيان في الآية. ثم أخبر الحق أن بين البحرين برزخا جامعا لطبيعتي الحرارة والبرودة من حيث كونه متصفا بمقتضيات الأحدية، له حرارة لم نجدها لغيره من الأسماء حتى الإسم المفرد، هذا الذي أعطانا كشفنا الصمداني. وغيرنا من تقدمنا من السلف والخلف كلهم يفضلون الإسم المفرد على غيره وستسمع شبهتهم. وعندنا لا مفاضلة بين جميع الأسماء إذ كلها اتحدت في المدلول وهو الذات وإن روعيت الصفات في جانب بعض الأسماء زيادة على ملاحظة المدلول مجردا فلا يقال هذا أفضل من غيره لأنه يؤدي إلى المفضولية بالنسبة للآخر. وأما قولهم أن معنى الأفضلية هو زيادة الثواب بالنسبة إلى ذلك الإسم فهذا لا نرتضيه لأن مدلول كل اسم ما دل عليه الآخر، فكل من صار يذكر إسما من الأسماء كأنه ذكر الإسم الآخر من حيث اتحاد مدلولهما معا. لكن هاهنا نكتة وهي أن الأفضلية من حيث أن إسما من الأسماء يدل على الذات البحت بقطع النظر عن مقتضيات الأسماء والصفات كهذا الإسم الأحد، فإن جميع النسب والإضافات والاعتبارات كلها ممحوة في هذا البساط. ومن هذا المعنى يكون أفضل من غيره من حيث أن الذاكر به يصير يترقى إلى أن يصل لانبساط أشعة الأحدية الصرفة على سطح عوالم أحمديته لأن الأحدية عندنا معاشر هذه الطائفة الأحمدية الكتانية يصح شهودها، لكن بشرط اضمحلال وجوده في وجود الروح الكلية فهناك يحيط الكل بالكل فلا يقع الانبساط إلا عليها ولاشك أنها من جانب بحر الأزل فكأن التجلي إنما انبسط على الأحمدية. وهذا عندنا يدل عليه قول القرءان: (ولقد أوحينا إلى موسى بآيتنا أن اخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله). لاشك أن القرءان له ظاهر وبُطون ولا غرو أن سلطان الجوارح هو القلب وعليه يقع التجلي وهو المعبر عنه بموسى، فأوحى الحق إلى موسى القلب. وعليه فالوحي ينزل على قلب المخاطَب أو المكلَّم ولو لم يكن نبيا. ويا للعجب من كون الإنسان يسلم نزول الوحي على النحل بشاهد (وأوحى ربك إلى النحل) ولا يسلم نزول الوحي على أفضل الجواهر من الحوادث وهو الإنسان مع أن النحل من جملة خدم النوع الإنساني. سيما والقرءان ناطق بأن الوحي ينزل على من يشاء من عباده حيث قال (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده). يحتمل أن الروح كناية عن الملك المشار له بقول التنزيل (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) وقد صرحت الآية أن هذا الروح ليس خاصا بل هو مُنزَل على من يشاء الله من عباده، فالذي يعطيه نور الآية أن المقربين من الأولياء يدخلون في العباد المنزل عليهم هذا الروح. ويحتمل أن الروح كناية عن الوحي نفسه أي ينزل الوحي الذي هو سبب الحياة المعنوية، ونزوله ليس بمقيد كما يعطيه سر الآية. وقوله من أمره حال منه أي حال كونه ناشئا من أمره. ولك أن تقول أن الروح كناية عن الوحي لكن المراد به الإلهام وهو يطلق على الوحي بشاهد (بأن ربك أوحى لها). وهذه المراتب كلها عامرة بالنسبة لتعددات مقامات أهاليها، وعليه فالوحي ينزل على المحقق الأحمدي. لكن هاهنا نكتة وهي أنه هب أنه يوحى إليه لكن لا بالأمر والنهي الجديدان بل بمبشرة أو إخبار بما تُكِنُّهُ السرائر أو بصحة حديث قال الناس بضعفه أو وضعه لا غير. وأما الشرع الجديد فلا ينزل لأن الشرائع تقررت ولم يبق ما يوحى إلا ما تقدم، وكالعلوم والمعارف والأسرار والفيوضات والمنح ربما يفيضها عليه الملك ويجتمع به ويراه ويخاطبه على التحقيق عندنا، وقد يأتيه في صورة دحية أو غيره وراثة محمدية. وقد جاءني سيدنا دحية وله حسن بديع يُخْجِل الشمس والقمر وكل المبدعات وكان ما كان مما لست أذكره وراثة محمدية تتميما للإرث. فإن قلتَ: ما السر في كون الملك كان يأتي في غير صورته الأصلية الهائلة؟ قلت لاشك أنه صلى الله عليه وسلم أس الكمالات والمزايا والمناقب، ولاشك أنه آدم الأكبر، وهو علِم مسميات الأسماء، وتقرر في القرءان أن آدم الجسماني علم الأسماء ومع هذا أسجد الحق له ملائكته فكيف بمن علم المسميات كيف لا يقع له السجود الحسي، وأما المعنوي فهو واقع بل السجود الحقيقي إنما كان له تدبر. وعليه فلا يناسب إتيانه على صورته فتأدب وأتى في صورة بشرية، ومع ذلك قد التحفت بحُلَى الحسن، تفهم، هذا الحق عند الله. وأما قول أهل الرسوم إنما أتاه بذلك تأنيسا لمن يخاطبه فهو لاشيء، راجع تفسيرنا الضحى. وأيضا إنما جعل الحق النوع الملكي مسخرا للنوع الإنساني أدبا له حيث اعترض على جعله خليفة فجعل مسخرا له ولا يناسبه أن يأتيه في صورة تقتضي العزة.

اعلم أن الذي يعطيه نور الخطاب الإلهي في قوله (وأوحى ربك إلى النحل) أن الخطاب وقع على النحل بدون وساطة الملك، بل من الله إليه بشاهد إضافة الإيحاء إلى الرب في قوله (وأوحى ربك). ولو كان أوحى إلى النحل بواسطة الملك لقال وأوحى ربك ببرزخية رسول لنفهم أن ثم برزخا بين الله وهذا الحيوان. لكن لما لم يصرح به فهمنا بحسب مكنون باطن الأمر أن ليس ثم حاجزا بين المخاطِب والمخاطَب. وهاهنا فريدة: اعلم أن جميع التقديرات التي تقدر في القرءان من نحو (وسألهم عن القرية) أي أهل القرية، (وجاء ربك) أي أمره، (وأشربوا في قلوبهم العجل) أي حب العجل، كلها من سوء الأدب مع صاحب الكلام والتجرء على رتبته العلية، لأنه تقرر أن القرءان في أعلا طبقات البلاغة والفصاحة؛ ومن جملة فصاحته وبلاغته أن يأتي بالمعنى التام حتى لا يحوج العربي السليقي أن يلمزه ولو بحرف. ولو كانت هذه التقديرات مرادة للحق لزيدت أولا أو لزادها من قيل له (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) ومن جملة ما تُبَيِّن هذه التقديرات، فلما لم يبينها بمشاهدة عدم النقل، لأن مثل هذه تتوفر الدواعي على نقله، علمنا أنها لا تزاد ولو في التلفظ حالة البيان لأنه يلزم عليه أن القرءان يحتاج إلى مبين بسبب الإجحاف الواقع في اللفظ. وهب أنه احتاج إلى المبين لكن لا بهذا الاعتبار. وهذا أمر تنزه عنه الأسماع خصوصا من دخل حانات الإطلاقات وفهم المراد من الخطاب الإلهي. سيما والحق يقول (بلسان عربي مبين) ولا يتم معنى هذه اللفظة، أعني مبين، إلا بعد أن يكون غنيا حتى عن إيضاحه بتقديرات، فهو واضح ظاهر في نفسه بضميمة إخوته من الآي والأحاديث وآراء الصحابة ومواد اللغات الغير المحصورة، فبها يُفهم لا غير أو بفتح إلهي أكبر. وكذلك قولهم هذا الحرف صلة هذا كله من عدم الإطلاع على سر الخطاب ونوره وفهمه بطريق الخوض في باطنه. سيما ولو كان هذا كما يظن أهل الرسوم لكان فيه غمز للزنادقة من العرب حيث يجدون أن اللفظ غير تام المعنى، وهذا فيه عيب فادح بالنسبة لكون القرءان إنما نزل تعجيزا للعرب بشاهد: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرءان لا ياتون بمثله) ومع ذلك ينزل، والمعنى لا تتم إلا بزيادة المضافات والتقديرات هذا لا يقال. وهب أنهم تظافروا عليه لكن نحن لا نرتضيه. سيما ومعاني القرءان إنما يدركها أهل الفتح الكبير الثقات الذين لا يخبرون إلا عن كشف وعيان وإيقان بسبب الاستهلاك في جوهرية روحانيته صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: إن بعض الآي يلزم على عدم تقدير المضاف في بعض الآي محذورا كقوله (وجاء ربك) فإنه إن لم يقدَّر اقتضت الآية التشبيه وهو محال. قلت هذا مبني على تأويل الصفات التي تقتضي الجسمية التي تكون مغمزة للزنادقة وهو مذهب الناس. والذي عندنا أن آيات الصفات لا تؤول بل تبقى على ما هي عليه كما أنزلت مع التنزيه الذاتي وذلك أنا لم يبلغنا عن هيولى سائر المواد التي هي روح العالم صلى الله عليه وسلم أنه أول آية من هذه الآي التي تقتضي التشبيه مع أنه مأمور من الله أن يبين للناس ما نُزل إليهم. وليس عندنا ما يشكل علينا كآيات الصفات فكان واجبا أن يؤولها، ولما لم يؤول فهمنا أن عدم تأويلها هو الصواب والأولى والموافق لحقيقة الأمر. فقد قال صلى الله عليه وسلم للجارية أين الله فقالت في السماء فقال دعوها فإنها مومنة فلم ينكر عليها وذلك لأنه فهم أنها بمجرد وقوع بصرها عليه صلى الله عليه وسلم حصل لها الفتح الكبير فلم تنطق بما يقتضي الحجاب لأجل ذلك أقرها ولم ينكر عليها. فإن قلت لم لمْ يقل إنها عالمة قلت اعلم أن الإيمان عندنا على مراتب:

الأولى: إيمان العوام وهم الذين يشهدون أن لا معطي و لا رازق ولا محيي و لا مميت إلا الله.
الثانية: إيمان الخواص وهم الذين يشهدون أن الكون كله ظلمة وإنما أناره ظهور نور الحق فيه وهو النقوش المحمدية.
الثالثة: إيمان خواص الخواص يشهدون أن لوح الإمكان ليس مَمْلُوءاً إلا بمقتضيات الإسمين أحد وأحمد وهذا هو المشار له بقوله فإنها مومنة تفهم، ولم تقصد بقولها في السماء ما يقتضي الجرمية أو الحلول لا لا، وكيف وقد كافحت طلعته صلى الله عليه وسلم فما هي إلا من أكابر المحققات، وتأمل فإن هذه بدايتها. ويرشدك لهذا كله عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم عليها وإقراره لها وما ذلك إلا لما أخبر به الناموس الجمعي. وكذلك لم يبلغنا عن أكابر الصحابة والتابعين أنهم أولوا هذه الآي وما ذلك إلا لما قررنا أعني مع التنزيه الذاتي وهو دأب القرون الأول وهو الذي يوافقه الكشف الصمداني وأمور أخرى تقطع دونها الأعناق. ثم جاء الخلف فافترقوا على فرق فمنهم من فوض ومنهم من أول، والتفويض هو التحقيق الذي لا يعدل عنه إلا من نودي من مكان بعيد. فإذا أحطت بهذا خبرا علمت أن عدم التأويل هو الأرجح عندنا. وعليه فقوله (وجاء ربك) تبقى على ما هي عليه لكن مع التنزيه عن سائر صفات الجسمية والأمور الآئلة للمثلية، وعليه فلا نحتاج للتقدير. وقد أرشدنا هذا التحقيق العجيب والفيض الغريب إلى أن عدم تقدير المضافات هو الأرجح وهو الموافق للأدب مع رب الكلام ومع المشرع ومع الخلفاء الراشدين. وعليه فالخلاف في أنها هل هي من القرءان أم لا كله خُلُوٌ عن التحقيق لأن زيادتها من أصلها غير مَرْضِيٍّ عندنا. ثم إن المراد بهذه الفذلكة هو أن من قدر المضاف في قوله (وأوحى ربك إلى النحل) أي بواسطة الملك لم يصب بل تبقى صراحة الخطاب في الإسناد في قوله (وأوحى ربك) أي بلا واسطة وإن كانت برزخيته صلى الله عليه وسلم لا محيص لأحد عنها بل لا مُتلقيً عنه في الحقيقة إلا هي.
انعطاف: واعلم أن آية (ولقد أوحينا إلى موسى) خرجت بلسان الفرق لأن من وصل للتردي برداء العشق الذاتي انحلت تراكيبه وانفصمت عرى أزرار هيكله المعبر عن هذا الإضمحلال بصلصلة الجرس في الحديث، أعني بالنسبة لما يرجع للمحقق، فكل له صلصلة تخصه، وإذا انحلت لم يبق له قلب، لأن المحبة فرع عن وجود مستقرها، وليس إلا السلطان أي القلب، والقلب فرع عن وجود القالب. والمحقق لا محبة له حتى يكون له قلب الأَئِل بأن له جسما. بل لا زالت العين لم تصل واحدة وهو ملقى في غمرات البين مع قيام الكثرات بأعيانها ومع ذلك هي متأحدة في عين كثرتها فأوحى الحق لمن له قلب أن اخرج قومك أي عوالمك من النفس والقلب والعقل والروح والسر الأجلى والأخفى من الظلمات أي عدم تعاطي الأسباب المفضية للمكث في مقام الأحدية التي لا تقتضي إلا العدم المحض المعبر عنه في الآية بقوله من (الظلمات إلى النور) وهو مقام الكثرات الإنتشارية المرادة للحق من: "فأحببت أن أعرف". وفي هذه الآية من علم البديع الباطني الحذف، وهي أن تقول وإن أبوا وامتنعوا فقل لهم (وذكرهم بأيام الله) أي أيام الكنزية التي لا ظهور فيها لمقتضيات الأسماء والصفات وهي وإن لم تكن أياما لأن اليوم فرع عن دوران الفلك المدبر للعالم والفلك فرع عن وجود أجرام السماوات وهي فرع عن احتياج العالم الشهادي للتدبير ومن جملة ذلك جوهر الشمس ولا شيء من هذه الأشياء متصفة بشيئية الثبوت إذ ذاك لكنها وإن لم تكن أياما زمانية فهي وهمية إذ الزمان لازال لم يُخلق. وهاهنا مسألة وهي أن هذا خطاب لمن له قلب وهو يشعر بوجود البينية وهي بالإثنينية. وأما المحقق فقال في حقه الحق بحسب باطن القرءان (لم نجعل لهم من دونها سترا) بعد أن قال (حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا). وإن الشمس كناية عن انبساط أشعة الأحدية ولما انبسطت أشعتها، ولا أشعة، انبعثت فوق جوها سترة لأجل التمتع بها، وليس إلا الستر الإلهي. أيضا فالمنبعث أولا الشمس ثم سُترت بشمس. وهذا شكل غريب قل ما يوجد مثله أو يتعدد فتصح له الأحدية، لكن مع شدة اتحاده بجوهرة الروح الكلية، فإذا وقع المشهد فكأنه ما وقع إلا على سطح الأحمدية وهي من ذلك الحي. فإن سمعت هذا الخطاب وتوجت بتاج الخضاب وأزيح عنك النقاب علمت أن لا مفاضلة بين جميع الأسماء إذ اتحدت في المدلول، لكن الإسم الأحد زاد على جميع الأسماء بكونه جامعا لجميع الأسماء الإلهية مع نعت بطونها فيه إذ لا يقتضي الاتصاف بشيئية الثبوت إلا له. وأما غيره ففي جانب البطون الحكمي وعليه فهو سلطان جميع الأسماء الإلهية. ولا يضرنا كون من تقدمنا من المحققين يفضل الإسم الله فهو مذهب لهم. وأما نحن فاطلعنا على أنه سلطان الأسماء على الحقيقة لأجل هذا ختم به الحق قوله (هو الله أحد) فلاشك أن الإسم الهوية هو باطن الذات ثم تستر بالإسم المفرد فالإسم المفرد ظاهر الهوية والإسم الأحد باطن الهوية إذ هو عبارة عن صرافة الذات البحت، وكونه ختم به هذا البساط لا يلزم منه أنه ظاهر الإسم الله. ضرورة أن الإسم الله جامع لكن مع نعت الظهور والأحد جامع مع نعت البطون الذاتي وكل من كان جامعا مع نعت البطون فهو باطن الباطن، وكل من كان جامعا مع نعت الظهور فهو ظاهر الظاهر.
هكذا خصصنا الحق بهذا الفيض الغريب واختاره لطريقتنا الأحمدية الإبراهيمية الصديقية الأويسية الكتانية المختارة من يمين القبضة. فإذاً الإسم الهوية برزخ بين الإسم الأحد وبين الإسم الله كما أن الروح الكلية هي البرزخ بين بحر الحقية وبر الخلقية. كما أفصحت عن ذلك آية (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ). ومعلوم أن البرزخ لا ينزل شيء إلا عليه ولا يصعد إلا منه ولا يمر إلا فيه وعليه. ومن حيث هذا كان صلى الله عليه وسلم هو مادة الوجود وروح الوجود ونفس الوجود الذي به يتنفس. بل أعطت هذه الآية أن لولاه لانْهَدَّ الوجود ولما قامت دعائمه إذ الوجود كله ظهر بالتدبير الروحي وذلك أن الجناب الحقي لا يقدر على التلقي منه كل جوهر من جواهر الممكنات. بل لو زعم أحد أنه يتلقى ولا زال لم يَذُبْ فهو كذاب لأنها حضرة سحق ومحق فلا يثبت لها إلا البرزخ الجامع الأحمدي هو الذي يقدر على تلقي تلك الصدمات ومنه يقع الفيض على عالم الإمكان وغيره من العوالم لأنها ليست بمحصورة.
وهاهنا نكتة وهي أن العقل الأول لما كان مستقرا في كهوف الأزل وليس إلا هيولاه كان يُفيض على نفسه بنفسه ثم لما وقع الظهور وانتشرت أعيان الموجودات اقتضت المملكة أن تركَّب من إطلاق وتقييد. أما التقييد فهو الهيكل الجسماني المركب من العناصر الأربع والطبائع الأربع لأن منها ركبت بسيطة الأرض فهو المناسب لها. ولاشك أن هذا الشبح لابد له من مدبر وليس إلا جوهر الإطلاق الروحي وهذا هو المقصود من هذا الكتاب. فاعلم أن الجناب الأقدس لما أبرز الجوهرة الأحمدية صار ينبجس من عين ماهيتها كل شيء شيء في الوجود، فما برز للظهور قبل ظهورها شيء لأن الحضرة حضرة حرارة ولولا بَسْط الروح الكلية أشعتها الرحمانية على تلك الدوائر والمنازل ما أعطت للتكثر فخالطت الحرارة برودة فبرزت الوحدات بين حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة. ولو خلِّيت الحرارة وسبيلَها لما ظهر مقتضى من المقتضيات لأن ليس ثم قابلية تقبل الانتشار لو بقى شأن الحرارة وحدها لأنها لا تثبت المخاطب حتى يخاطب فيوجد ولو خلِّيت البرودة أيضا وسبيلَها لما ظهر أيضا مقتضى من عالم المحدثات لأن العالم لو خوطب أولا من غير مخالطة سطوة القهر لما أجابوا، بل لما يقول لهم (ألست بربكم) يقولوا نعم لأنهم لم تتقدم لهم خبرة بالمعروف، لكن لما اتحدت الحرارة وبرودة الكافور المعنوي برزت مقتضيات الأسماء والصفات وهي العوالم.
وصل: اعلم أن هذه الأثرات مادة وجودها هو الروح الكلية وذلك أن الجناب الحقي لما أبرز الحقيقة الكلية لازال تروح في ميادين ما أكنه الحق في قوله: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق). ثم بعد ذلك خلق هيكله الجسماني في عالم الغيب فاتصلت به الروح. وهذا قوله في الحديث "قبض قبضة من نوره فقال لها كوني محمدا"، عَنْوَنَ عن الحقيقة الأصلية بالقبضة. وعبر عن كُوني بأن الحق أمر الروح أن تَلْتَفِتَ لعالم العناصر أي كُوني أيتها القبضة عين الهيكل المعبر عنه بالمحمدية.

اعلم أن الهيكل المحمدي له روحان: روح كلية وروح جزئية.أما الروح الكلية فلم يقدر الهيكل الجامع على حملها لأنها من جانب الحق فهي متصفة بنعت الإطلاق وهذا الهيكل من عالم التقييد فلا مناسبة بين الحالِّ والحالِّ فيه لأجل ذلك قلنا أن الروح الكلية لم يحملها العنصر الجسماني. وهذا منزع دقيق وهو كشف صراح (فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر). وهذا مما يدخل تحت جزئيات: "إني لست كهيئتكم"، فيما رويناه في البخاري. فمن تمام كونه ليس كهيئتنا أن يكون له روحان وإلا فلو كان كهيئتنا لكان مثلنا وهو صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لست كهيئتكم"، فهو كقوله تعالى (ليس كمثله شيء) في حقه تعالى القديم وهو صلى الله عليه وسلم ليس مثل هذه الهياكل الجسمانية من حيث البشرية. وإنما أخذت ذلك من هذا الحديث خوفا على أناس ضعاف يطلبون الدليل. والكامل له أن يتكلم بسائر اللُّسُن وراثة محمدية. ولما لم يقدر الهيكل على حملها بقيت تطير بأجنحتي الإطلاق في صحاري الأزل فهي تنزل في هذا البستان وتتخلق بمقتضيات كمالاته ثم ترقى فتنزل في ميدان آخر فتقتطف من شؤونه ثم تصعد في منهل آخر فتفتض أبكاره وهكذا إلى ما لا نهاية له من أطوار عالم الإمكان ثم عالم البرزخ ثم عالم القرار فهي مطلقة عن التقييد في قفص الجسمانية دائما وأبدا، فإياك والغلط. فهذا أمر لا مجال للكشف فيه فأحرى للتحكمات العقلية. فإن قلت هل يصح التلقي عنها أم لا؟ قلت اجتمعت روحي بها يوما في صحاري الفضا فانتصبتُ على ساق الاشتياق وقلت: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) ما المستقر والإسم، وما حكم تضادِّ التضادِّ والرسم. فانتزعنا للمحادثة في كهف (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) وقالت لا خبر عن الاستقرار ولا خبر لأن من أيتمه الحب فتارة تجده في قعور الجب كأخ جسمانيتي يوسف وآونة تلفيه في ظلمات ثلاث كشقيق هيكلي يونس وحينا تتلقفه أيدي الترقبات في دَيَاج (فلما جن عليه اليل رأى كوكبا قال هذا ربي) وحينا على مِنَصَّة عالم لا عالم في لا مقر (فأوحى إلى عبده ما أوحى) فهو بيْنَ بيْن أزيح عنه بين البين ولا إسم لأني معدومة في طي معروفي لكن بالخاصية يقال إني النقطة التي تحت الباء فكما هي منفصلة عن الباء كذلك أعجوبتي منفصلة عن عالم الكثافات وعالم المجردات فهي وحدها.
وهاهنا غريبة وهي أن هذه الجوهرة الأصلية لازالت متفردة في عالم مجهول لم تتصل بشيء موجود ولا معدوم إلى أن ظهر هيكله الجسماني صلى الله عليه وسلم وصار يدبر عالم الشهادة. ثم أراد الحق أن ينقُلَه لأصله الوطن الحقيقي أي الموت فصار صلى الله عليه وسلم يفرح للُقِيِّها ويلهج بالالتحاق بها حيث قال: "اللهم الرفيق الأعلى"، أي اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى الذي هو مستودع حقيقتي الأصلية فأنا تتقطع أوصالي من شدة الاشتياق إليها، هذا المراد من قوله "اللهم الرفيق الأعلى" تفهم. وأما الروح الجزئية فهي الروح المدبرة لهذا الهيكل المحمدي، فمن يوم برزت القبضة من عالم الغيب والروح الجزئية متصلة بها وهي القائمة فيها.
وصل اعلم أن هذه الروح الجزئية سقاها الحق من الكمالات الإلهية ما صيرها به أنموذج جميع المزايا والفواضل.
وصل اعلم أن حقيقة الروح هو لطيفة نورانية جامعة لتضادِّ القبضتين مستودعة في عالم الغيب ولها جهتان جهة لعالم الملكوت وجهة لعالم الملك. أما جهتها المقابلة لعالم اللطافة فهي دائمة مترقية لما يتطلع عليها من قِبَلِ الإذن الإلهي فهي من جملة الملائكة لا دخل لها في تدبير أمر الجسمانية. وهاهنا قال تعالى (والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض) لأن هذه الوجهة من جملة جهة الروح، ولاشك أن الجزء المقابل لعالم الشهادة هو المدبر للجسم ومنهما معا وقعت المعصية والمخالفة فيقع العذاب عليهما معا، هذا هو التحقيق. وأما قول من قال أن الروح وحدها هي التي تعذب فله وجه وجيه من حيث أن المدبر هو الروح وحدها وأما الجسم فلا دخل له في شيء أصلا فكأنه معدوم لولا وجود الروح. وكذلك قول من قال أن الجسم وحده هو المعذب لأن فيه ظهرت صورة المخالفة لكن نقول له: لولا الروح لما ظهر له حكم فليس فاعلا لشيء نظير الفاعل الحقيقي مع الفاعل المجازي مَن الفاعل منهما؟ والتحقيق أن المعذب الجوهران لأن بواحد وقع التدبير من الحرارة الغريزية وبالآخر ظهرت مقتضيات النواهي فتلك الوجهة المقابلة لعالم الملكوت هي من جملة الملائكة لأجل ذلك كانت تستغفر لظَرْفِها الحالَّة فيه. وأما الجهة المقابلة لعالم الملك فهي المدبرة للجسم.
وصل اعلم أن كيفية تدبيرها هو التفاتها من نفس جوهرية تلك اللطيفة لعين جواهر كل جوهرة من أعيان جسمها فبذلك الالتفات يقع التدبير لا غير. وليست بمتصلة ولا بمنفصلة عن الجسم، لكن قوة ذلك الالتفات وضعفه بحسب تمكن صاحبه في بساط المأمورات، فإن هو ارتكبها إما في بساط (فاتقوا الله ما استطعتم) إن كان من الضعفاء أو في بساط (اتقوا الله حق تقاته) إن كان من الأقوياء. وليست الأولى ناسخة للثانية كما يقول أهل الرسوم، قَوِيَ ذلك الشعاع الحاصل من التفات اللطيفة إلى هذا الهيكل، وإن ضعف فعل المأمورات وقويت جهة المنهيات ارتكب من ذلك ظلام قوي فيحصل ضعف في هذه الجهة المسامتة للتدبير الحسي فتكون الظلمة غالبة على ذلك الالتفات فينحجب شمس المسامتة المنبعثة من نفس عالم التدبير لعالم ظهور الانفعالات بسحاب ظلمة المنهيات هذا سبب قوة ذلك الالتفات وضعفه.
واعلم أن هذا التحقيق الذي أعربنا عنه وأن لكل هيكل روحين يرشدك له قول القرءان (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى). فقوله (يمسك التي قضى عليها الموت) هذا يعطي أنها لما عرجت من عالم المثال إلى عالم الخيال اشتبكت في كواة البرزخ إن كانت مومنة أو في سجيل إن كان صاحبها كافرا (ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) أي إلى جسم الإنسان المكلفة بتدبيره أي نفس أخرى. وعليه فهما نفسان، وإنما عبر في الآية بالأنفس للإشارة إلى أن النفس هي التي تقبض وأما الروح فهي من الأمور الباقية ببقاء الله الداخلة في استثناء (فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) فلا تموت.
واعلم أن هذان النفسان المعبر عنهما في الآية هما المشار لهما بقولي الروح لها وجهتان تأمل. فتلك الوجهة المقابلة للجسم تتمحض عند النوم وتتمحص الجهة الأخرى لعالمها فإن أراد الحق الانعدام قطع تلك المادة الكائنة بين الجهة الملكوتية والملكية وإلا بقيت النسبة بينهما. لكن الفرق بين الموت الأصغر الكائن حالة النوم والموت الأكبر حالة الانعدام أن في حالة النوم لا تتوارى شمس الإنبعاثات بحجب الكلية بل عروج تلك الجهة الملكوتية إلى عشها ذاك يسمى بالموت. وأما في غير النوم فتبقى شمس تلك اللطيفة كلها منبسطة على سطح عوالم الجسم. وأما الموت الأكبر فينقطع الشعاع الكائن في نفس الجوهر الإنساني والحالُّ في عالم الإطلاق فتنتفي الحرارة الغريزية فيبقى الجسم يابسا لانقطاع رطوبات عالم اللطافة عليه. وذلك أن عنصر النار المركب منه الجسم مقابل بحرارته الطبيعة الحارة فأنتجا قوام الحياة. وعنصر الهواء مقابل للطبيعة الرطبة ومجموعهما أعطى الحياة. وعنصر التراب مسامتٌ للطبيعة اليابسة وعنصر الماء مقابل للطبيعة الباردة وكل من العناصر الأربع والطبائع الأربع بمجموعها قام قوام الهيكل فإذا أراد الحق انعدام هيكل من الهياكل قطع مقتضى كل عنصر وطبيعة من بين مقابلتها فبقى الجسم جافا ملقى على الأرض. وأما مجيء الملك إنما لزيادة رفع رُتَب النوع الإنساني لا غير والعروج بروحه إلى عالم البرزخ إكراما لأصلها الذي هو الروح الكلية والجسم الكلي تفهم. وأيضا كما أن أصلها ومادة نفسها الذي هو الهيكل المحمدي لما أراد الحق الإسراء به وكان السفير له على الحقيقة هو المشار له بقوله: "اللهم أنت الصاحب في السفر"، تفهم. وكان مقتضى عالم الحكمة هو إظهار أُبَّهَة الشهادة التي نحن فيها أتى الملك وقال أيها المحبوب إلى أن أتى به لباب السماء كقضية الإسراء. كذلك أجزاؤه صلى الله عليه وسلم يقع لها هذا الإسراء الروحي مع الملك لأجل تمام الإرث وإن لم يكن من أهل هذا الميدان لئلا يبقى واحد من أجزاء هذه الأثرات بدون إرث خصوصا هذا الإرث الكامل. وهذا سر عجيب من العلم المكنون تفهم وإياك الانتقاد فإن هذه العوالم عند خالقها أعظم مما تعرف وتعبر.
وصل اعلم أن الروح الكلية المدبرة لسائر جزئيات العالم من يوم برزت من جوهرية العما وهي متصفة بشيئية الثبوت لم يعقبها ضد البقاء. وأما الفناء فهي معدومة بالنسبة لبساط مقتضى الأحدية موجودة بالنسبة لشؤون الواحدية، وأما عند الصعق فلا تفنى إن نظرت لمقتضى حكم الواحدية لأنها من جملة المستثنيات المندرجة تحت شمول (فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) وليست محصورة في العرش والكرسي والجنة والنار والأرواح… بل أشياء عندنا تبقى بعد الصعق يحرم إفشاؤها هذا حكم الروح الكلية. وأما ذلك التوجه المنبسط شعاعه من عين جوهريتها على بساط هذه الكثرات فكان أولا معدوما ضرورة التحاف هذه الأثرات الكيانية بنعت الحدوثية وانفراد الوجوب الذاتي بالوجود القديم.
لكن هاهنا نكتة وهي أن هذه العوالم قديمة من حيث تعلق العلم القديم بها أزلا ولاشك أنه صفة، والصفة قديمة بقدم الموصوف، ومتعلق العلم أيضا قديم لأن التعلق عين العلم وهو من مقتضيات وجوده وتعلقه بالذات وإلا لو تعلق العلم وقام بالموصوف به ولم يظهر مقتضاه فكأنه ما قام به. ولا غرو أن العلم منذ تعلق بالذات والأولية غير معقولة إذ العقل يسرح باصره فينطلق حيث شاء وقُصَارى أمره الرجوع على عقبه لأنها ممكن ولا يخرج عن جنسه تعلَّق بالمعلومات لأنها هي مقتضى صفة العلم ومتعلقاته هي الواجب والجائز والمستحيل فإذاً كلها قديمة من حيث المتعلَّق. فنفس علمه تعالى بذاته نفس علمه بمعلوماته وإلا يقولوا بالتجزئة في المتعلق والتقديم والتأخير ولا قائل به فهذه المعلومات هي نفس مقتضيات الأسماء والصفات. ولاشك أن الأسماء والصفات عين الذات ومعلوم أن الذات قديمة وصفاتها وكمالاتها وشؤونها ونعوتها كذلك وهذا لا ينكره أحد. وإلا يقولوا أنه علم نفسه أولا ثم علم المعلومات. وهذا يلزم عليه إما التجزئة و لا يرضاه مسلم، وأما الحدوث وهو غير مقول لأحد. فما بقى إلا أنها قديمة من حيث قدم التعلق. ومن حيث هذا المعنى كان الأزل وما لا يزال في حقه تعالى سببان: فما ظهر فيما لا يزال هو الظاهر له في الأزل فما ظهر إلا ما كان ظاهرا له غير مخفي عليه. فإذا فهمت هذا البساط قرع سمعك معنى قول التنزيل: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين) أي ولنختبرنكم حتى نعلم. ولا يخفى أن علمه في المستقبل عين علمه في الماضي والحال فالأزمنة عنده على حد السواء ولاشك أيضا أنه لم يخبرنا في الآية أنه اختبر أو سيختبر فنظرنا في كمالاته فعلمنا أنه من يوم سَطَّرَ في ديوانة الأزل أن الكون يكون وفيه تكون التقلبات الكونية وأحصاها إجمالا وتفصيلا اختبر قوابلها المركوزة في طباعها فعلم ما تعطي الفساد والصلاح فهيأ كلا لما سبق به علمه القديم. فهناك حالة تعلق العلم بالمعلوم في حضرة الانفراد بالوجود، وعدم وجداننا بحسب أعياننا اختبرها وأعطته العلم تفهم إن كنت من أهل التجريد الباطني الذاتي. فآلت المعنى: اختبركم فعلمنا بطريق جعل الأزمنة على حد السواء عنده فلم يتجدد له علم بالأشياء عند وجودها أو بعد وجودها لأنها كانت في حال عدمها مرئية ومسموعة له.

فإن قلت وإذا كان كذلك فما استفاد العالم من ظهوره لعالم العناصر؟ قلت استفاد أنه علامة على وجوده المقيد لأن ليس لنا إلا رتبتان رتبة إطلاق ورتبة تقييد ولا ثالث، وكل من الرتبتين له وصف. ولما كان وصف الحدوثية هو انحجابها تحت مقر عالم الطبيعة وذلك يقتضي الجهل برتبة الربية، وعلم الحق أن ليس مُثْنٍ يبلغ شَأْوَ الثناء عليه بحسب ما يقتضيه كماله الذاتي فأثنى على نفسه بنفسه وصدر ديباجة الكتاب بذلك فقال: (الحمد لله رب العالمين) تفهم هذا السر في تصدير الكتاب بالثناء على الله. فلما كان في حالة عدمه ووقع عليه التوجه الإرادي لم يعلم نفسه لأنه كان في ظلمة العدم ومن كان في الظلمة لا يبصر النور فأراد الحق بإبرازه معرفة نفسه فقط. وأما الحق فهو غني عن معرفة من يعرفه ولولا هذا ما تم له وصف الاتصاف بالغنى لأن من تمام غناهُ غناه عن من يعرفه وهو كلام جيد تدبر. ولما كانت الأشعة المتوجهة من عين الروحانية الكلية هي المعبر عنها بالروح كان هذا التوجه يقوى ويضعف بحسب الحكمة فانعدم أولا في بساط (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) وهل بمعنى قد. ولاشك أن الدهر يطلق ويراد به الله كما رويناه في الصحيح: "لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله". والمراد هنا قد أتى على الإنسان، فتدخل الكثرات حين أي تجلي من الله. والمراد هاهنا تجليات باطن الإسم المفرد وهي رتبة الأحدية. ولاشك أن الأحدية رتبة سحق ومحق فهب أن الإسم المفرد جامع، لكن الإسم الأحد جمع الجوامع. فالإسم الأحد الذاكر به كأنه ذاكر بجميع الأسماء لأنه باطن الإسم المفرد، والإسم المفرد جامع. ولأجل هذا اختاره الله لنا معاشر الطريقة الأحمدية الكتانية. ولما تجلت عليه لم يكن شيئا أي موجودا بل كان متصفا بلا شيء وكل من اتصف بلا شيء فهو كذلك أبدا ثم وُجد حالة إبرازها من عين مشكاة النفس الكلية ثم وجد حالة التعلق (ونفخت فيه من روحي) وليس عندنا روح مضافة للحق إلا جوهرية روحانيته هي المتصلة بالحق اتصالا معنويا مجهولا، فتوجهها من عالم الغيب الأقدس على عناصر آدم عليه السلام وسريانها فيه هو المعنون عنه بالنفخ في الآية. وبمجرد ما وقع النفخ وقع السجود، ضرورة أن الفاء للترتيب مع الاتصال فأنتجت الآية أن المدبر لهذا العالم والقائم بناموس أشكاله هو الروح ولولاه لوقع الانعدام. وبهذا يظهر لك أعجوبة وهي معنى قوله في الحديث: "ولولاك ما خلقت الدنيا"، فإن سر انفلاق وجود العالم بوجوده هو أن العالم لا قدرة له وليس في طبعه وسجيته القدرة على التلقي من الجناب الأقدس، وليس عندنا في النوع الإنساني من يقدر على ذلك إلا هو صلى الله عليه وسلم. ولما يظهر تنبعث مِن قِبَلِه التوجهات الروحية وبها يقع التدبير ولو لم يوجد لما وجد فرد أولا. ثم هب أنه وجد من طريق العقل لأن العقل يفرض المحال لكن يبقى هيكله خاليا لعدم المدبر وليس إلا جوهرة الروح الإطلاقية المضافة إلى الحق في قوله: (ونفخت فيه من روحي) وإن كان الحق غنيا عن الواسطة لكن رتبة فردية الأحدية لا تعطي القدرة على التلقي فهب أنها تجلت إنما يزداد دثورا، والقدرة التي أظهرتها هي كونه روح العالم صلى الله عليه وسلم. ثم حالة المفارقة (كل نفس ذائقة الموت) وهي عبارة عن انقطاع ذلك التوجه لا غير، هكذا يعطينا الكشف الصمداني. وأشعر قوله (نفس) أن الروح لا تذوق الموت العينية وإن كانت دائمة مسحوقة بمقتضى الأحدية تفهم. وفي هذه الآية غريبة وهي أن نقول: اعلم أولا أن الحق تعالى لما أراد خلق أجزاء النوع الإنساني ركبه من العناصر الأربع أعني الماء والتراب والهواء والنار، ولاشك أنها موجودة وقد عُلم من القرءان أن كل موجود فهو مسبح بشاهد: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) فإذا انتُزعت النفس بشاهد الآية بقيت الروح تدبر جسمها تدبير تسبيح لا تدبير حكمة فيبقى الهيكل حيا، ضرورة أنه شيء وقد أثبت الحق لكل شيء أنه يسبح. فإذا الجسم بعد ذهابه للقبر يبقى حيا يسبح الله بعناصره بواسطة الروح بشاهد الآية، تأمل.
واعلم أن التحقيق عندنا أن تسبيح الجمادات بلسان المقال لا الحال. وإيضاح هذا أن نقول لا غرو أن التسبيح في الأصل هو التنزيه (سبح اسم ربك) أي نزهه عما لا يليق به. ولاشك أن التنزيه والتقديس لا يحصل إلا من كامل الإدراك تام الإحساس ضرورة أن هذا المسبح ينظر بعقله وإدراكه فيجد أن لنا رتبة القِدَم والحدوث والرتبة الأولى لها السلطنة على الثانية وذلك لأنها موجدتها ومخترعتها من حيز الطي والإجمال إلى حيز النشر والتفصيل ومع هذا يسدي علينا الفضائل والفواضل والمزايا والخصيصات وأبرز لنا محبوبه الذاتي المعشوق له جوهرة الروح الكلية فصار نبيا ومخبرا عن الله لنا فيستحق أن يقدس عن أوهام الحدوثية والتقييدات، ولا غرو أن هذا موجب التسبيح لا غيره. والحق أثبت لكل من اتصف بشيئية الثبوت أنه مسبح ومن جملة الشيئيات الجمادات فما صدر التسبيح من المسبح إلا بعد تصور حقيقة التسبيح ولأي شيء أمرنا به. وهذه إدراكات خاصة بأرباب الآراء المستقيمة، ولا ينكر هذا إلا مكابر. مع أن الحق يقول: (وإن من شيء إلا يسبح)، ولكن لما غلبت علينا الطبيعيات صرنا لا نفقه تسبيحهم، فهو خطاب لأهل الحجاب الذين حجبوا في عين الاتصال وابعدوا في عين التقريب. ولنا دليل آخر على أن تسبيحهم بلسان المقال من قوله تعالى: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله). فلا يخفى أن الخشية لا تصدر إلا بعد معرفة من يخشى منه وهذا أمر لابد له من مقدمة وهي معرفة الموجد وهذا بساط لابد له من إدراك ومعرفة وإحساس وعليه فهو مقالي. فيا من أنكر التسبيح المقالي ما تقول في هذه الآية؟ ويرشدك لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "أُحد يحبنا ونحبه"، أي الجبل المعلوم فالمحبة لا تصدر إلا بعد معرفة من يحب والإطلاع على عظمته وأنه أهل لأن يحب. وهذا أيها الأديب هو السر في كون بعض الجبال مخربة الجوانب فانية مضمحلة بسبب ما غامرها من العشق في جانب المحبوب الحقيقي وما ذلك إلا لأنها نسخة من القلب الإنساني وهاهنا بلبل ذوقي.
أنوح على الأطلال كيما أرى بها مشابه جسمي في تلاشي وغربتي
ويا ليت العُبَّاد يلاحظون هذا المعنى حالة تكهفهم في الجبال فيحصل لهم من الحرارة بسبب هذا الالتفات ما يقوم لهم مقام الشيخ إن كانوا أذكياء متقين وقد ذقنا هذا ولله الحمد. وهذا سبب اتخاذنا العالم كله من أشياخنا لأنه نراه لولا سر الحياة الساري فيه ما قام على ساق. فمن أشياخي الشمعة وقد علمتني دوام احتراق باطنها حالة شدة نشر سرادق الظلام لكن احتراقها إنما يوجد في الليل وأما في النهار فعدمه ووجوده سببان وعليه فوجْدُها… ولك أن تقول أن وجدها الظاهري هو الليلي وأما النهاري فكامن وذوبان جسمها بسبب الاحتراق وبقاء دخانها إذا انطفأت واحتراق نفسها وإبقاء الضوء على الناس. وأعطتنا أنه ينبغي للعاقل أن يكون طُرفة حتى لا يستغني عنه أحد كحالها فلولا وجودها أو شبهها ما تم نظام المجلس وليس هذا إلا بالسياسة العامة. وأن من احتاجه الناس لابد له من نَصبِ المِنصَّة التي يستقر جلوسه عليها وإنها مهما صلُحت ساعدت ومهما لم تصلح انبسطت ولم تأنف وكل من قام به هذا الوصف لا يستغنى عنه كحالها. وإنها تَصْطَفُّ في بساط واحد مع آحاد من إخوتها و لا تتأثر من وجودهم معها ولا تغضب بل تبقى على زهوها. وأن من كان في محل يترأس وجاءه ناسخ لا يتأثر بوجوده، فإن كان حسن السياسة عامله فوق ما يحب ولا يطوي عنه بِشْرَه ولا خُلقَه وإن كان هَمَجاً تَنتقِل للتيمُّم عليه لا غير. وأنها لا تظهر مزيتها إلا في الليل وكذلك العاشق غير أن العاشق يقول:
يقولون في الصبح الدعاء مؤثر فقلت نعم لو كان ليلي له صبح
وأن دموعها هاطلة على وجناتها من شدة ما تقاسي من الاحتراق وإن أردت قطعها لانت. وهكذا ينبغي للنوع الإنساني المشار له بالأحسنية في قول التنزيل: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) فكيف به ولا يصبر حتى للإشارة فاندرست النسبة ولم يبق لها رسم ولا طلل فإن تكلمت قالوا كفرت وإن صمت قالوا جهلت إلى غير هذا مما يدرك بالذوق.

ومن جملة مشايخي الكلاب فأخذت عنهم السهر وكثرة الذكر ومقاساة الشدائد مع نديمي وخليلي وحرص عرسه وحفظ وداده وكثرة الذل وسرعة الإقبال دون الإدبار وشدة جرأته على الأراذل وهو خُلُق نافع في بعض المواطن.
ومن جملتهم النرجس فلونه مصفر وذلك حال العاشق وكونه زينة المجالس وكونه عزيز الوجود.
ومن جملتهم الورد عجيب الرائحة حسن المنظر لكل من رآه، تطيب به الحواس وتنقل عرف أريجه الرياح وكونه ذا رطوبة ويبوسة من جهة شوكه وكون الكمال الحقيقي إنما هو لله بدليل التحافه بشوك وكونه عين الخجل فلا يكون الخجل عارضيا بل أصليا. ومنهم غير ذلك بل جميع ذرات الوجود وليس إلا الحق تفهم. ثم المراد بهذه الفذلكة هو أن الجسم هب أن النفس انتزعت منه لكن يبقى حيا بالحياة المسبحة لا المدبرة. وبهذا يظهر لك أن ما يسمع في القبر من الصياح والبكاء والأنين غير عجيب وغير مستبعد إنذارا وتحذيرا للسامع أو إهانة لصاحب القبر لأن الروح ثمة تفهم. وقد طال بنا جواد القلم فلنمسك.
وصل اعلم أن الروح الكلية متأحدة فلا كثرة فيها أصلا إلا من حيث كثرة التعلقات فكما أن الأسماء والصفات متأحدة في عينها ومع ذلك تكثرت بسبب كثرة شؤونها واعتباراتها كذلك الروح لا يقدح في وحدتها الحقيقية كثرة تشكلاتها في الأشخاص نظير الأسماء فتعددت الأرواح بتعدد الصور والأشكال وكل حصة على قدر استعداد القوابل وكمال انبلاج طبيعتها، فإن كانت الصور جمادية ولا تقتضي من التدبير إلا تماسك أجزاء جوهرها أعطتها هذا التدبير ولا تنتقل لحالة أخرى. وهذا السر في تسميتها جمادا لجمودها على حالة واحدة فإذا أراد الحق انعدامها انقطع ذلك التدبير المخصوص فتفتتت وانحلت ثم تلبس صورة برزخية ولا تزال تسبح آباد الآباد. وكذلك العناصر الثلاثة من الماء والهواء والنار. وإن كانت الأشكال نباتية أمدها بالنمو والزيادة لا غير إلى أن يحترق فيلبس أيضا الصورة البرزخية ويمكث يسبح، وإن كانت التماثيل حيوانية أمدتها زيادة على الجمادية والنباتية جميع القوى عدا ما خص به الإنسان.
وصل اعلم أن قول القرءان: (ويسألونك عن الروح) يحتمل أنهم سألوه عن الروح الذي يحيى به بدن الإنسان ويدبره أو جبريل أو القرءان أو الوحي أو ملك يقوم وحده صفا يوم القيامة أو ملك له أحد عشر ألف جناح ووجه أو ملك له سبعون ألف لسان أو خلق كخلق بني آدم يأكلون ويشربون أو عن كيفية مسلك الروح في البدن وامتزاجها به أو عن ماهيتها وهل هي متحيزة أم لا وهل هي حالة في متحيز أم لا وهل هي قديمة أو حادثة وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها وغير ذلك من متعلقاتها. ولأجل أنهم أبهموا أمرها ولم يفصحوا عن أحد هذه المعاني بل أتوا بوجه إجمالي يسع كل المرادات بحسب باد الرأي. ففيه من البديع التوجيه، وفيه أيضا الاتساع وهو عبارة عن كون المتكلم يأتي بلفظ يتسع فيه التأويل بحسب قوى الناظر فيه وبحسب ما يحتمل اللفظ من المعاني كما في فواتح السور وليس مرادهم بهذا الإجمال إلا التعنيت والإبهام مهما أجابهم عن معنى من مراداتهم يقولوا ليس هذا مرادنا على قاعدة المعنت فيتسع مجال المخاطبة. جاءهم الجواب مجملا ليسع تلك المرادات وأكثر مما لم يخطر لهم على بال فلا يتسع ميدان الكلام. أخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن عبد الله ابن مسعود قال بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وفي كتاب العلم في خراب المدينة وعند مسلم في نخل وهو متكئ على عسيب أي عصى من جريد النخل إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح فقال أي بعضهم ما رابكم به من الريب، وقال بعضهم لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه وفي كتاب العلم لا تسألوه لا يجيء فيه بشيء فقالوا سلوه فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا فعلمت أنه يوحى إليه فقمت مقامي فلما نزل الوحي قال (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). فإن قلت وما الصحيح عندهم أي معنى من المعاني المتقدمة أرادوا قلت المقصد الأهم عندهم في السؤال هو أمران: الأول عن مصدرها أي محل صدورها ومن أي عالم برزت وجوابهم أن جميع الأثرات الإمكانية كلها صادرة من جوهرية العما لكن بالوسائط وهذه الجوهرة الروحانية صدرت من عالم القدس بدون حاجز بل من عالم الأمر الذي هو محل لبروز الأرواح الجزئية توجه عليها التوجه الأمري من حضرة قهار فصدرت. أما الروح الكلية فصدرت من نفس الجوهر العمائي حيث يوم لا يوم لأنه أول التعينات من حضرة العلم وذاك يقال له أمري أيضا لكن ذاتي لأن الصفات لازالت لم تظهر مقتضياتها فهي بحكم البطون. وأما الروح الجزئية فصدرت من التوجه الأمري في حضرة الأمر هكذا نور الآية. ومن تمام هذا الأمر الأول الذي هو مناط سؤالهم عن أي مقتضى من مقتضيات الأسماء برزت وهذا الأمر أدركته اليهود بمجرد وقوع بصرها عليه صلى الله عليه وسلم وإن لم تومن به وجوابهم أنها برزت من حضرة أسماء ثلاثة: قهار وبه انفلقت عن جوهرية النفس الكلية وإلا فتأبى الفراق عن عش غرامها لولا التجلي القهري، ولطيف وبه صارت من عالم الأمر لا من عالم الكثافة وباطن وبه صارت محتجبة عن الأبصار مع كونها منها عينها وهذا علم ناطقة به الآية كما تعطيه مرادية الخطاب لمن كان من أهل القرءان فيه يسكن وإليه يأوى تفهم. الأمر الثاني من أهم مقاصدهم في السؤال ماهيتها. ولما كان الاطلاع على ذلك يحتاج إلى علوم وهم بمعزل عنها أجيبوا بجواب مجمل. ولما كان شأن الروح غريبا عجيبا صار الحق لا يذكره في الكتاب إلا بتلويحات واستعارات وتشبيهات تنبيها على عزة درك إدراكه. وليس في قوله تعالى (الروح من امر ربي) إشارة للكف عن السؤال والجواب عنها كما توهمه بعض المفسرين بل هو جواب إجمالي أي الروح من أمر ربي كما قال: (ذلك أمر الله أنزله إليكم) إخبارا لجميع العوالم.

انتهت الرسالة المباركة، رضي الله عن صاحبها ونفعنا به بمنه وكرمه



manqool

غير مبريء الذمه نقل الموضوع أو مضمونه بدون ذكر المصدر: منتديات الشامل لعلوم الفلك والتنجيم - من قسم: قسم الكتب و المنشورات


...
....

مواقع النشر (المفضلة)
"اللمحات القدسية في متعلقات الروح الكلية"

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
الانتقال السريع
المواضيع المتشابهه
الموضوع
برنامج الحروف الشامل "نسخة محدثة" برمجة الحكيم
"""اللغة السريانية""""
عرض :"الخيميائي "O Alquimista"
"الطاير" "غسان" "مناضل" وكل ال

الساعة الآن 07:47 AM.