المشاركات الجديدة
المقالات والمواضيع والمنقولات المترجمة : هذه الساحة تعنى بنشر المقالات والمواضيع التنجيمية والفلكية المترجمة إلى العربية من اللغات الأخرى

ملحمة جلجامش والنّص القرآني

صورة رمزية إفتراضية للعضو علي العذاري
علي العذاري
انتقل لرحمة الله
°°°
افتراضي
الرَّمْزيَّةُ في الأثْلاثِ
من العمود الأول:
43. من ذا الذي يضارِعُهُ في الملوكيةِ

44. مَنْ غيرُ جلجامشَ مَنْ يستطيعُ أن يقولَ "أنا الملكُ"؟

45. ومَنْ غيرُهُ من سُمِيَ جلجامشَ ساعةَ ولادتِهِ؟

46. ثلثاهُ إلهٌ وثلثُهُ الباقي بشرٌ

مِن هنا يشعُرُ الشُرَّاحُ، بل وعمومُ القرَّاءِ أنَّ جلجامشَ كائنٌ خياليٌّ لا حقيقةَ له، إذ كيف يكونُ المرءُ بثلاثةِ أثلاثٍ: ثلثان إلهٌ وثلثٌ بَشَرٌ؟.
لكنَّ هذه العبارةَ تنطوي على ما يميِّزُ الملحمةَ عن غيرِهَا في نظرتِهَا للإنسانِ. فلم تَسبْقْ الفلسفاتِ في ذلك، بل وَضَعَتْ يدَهَا على التقسيمِ الفعليِّ للإنسانِ فجاءَتْ بالحلِّ الذي عَجَزَتْ عنه الفلسفةُ ولا زالت عاجزةً.
فالملحمةُ لا تقولُ أنَّ جلجامشَ وحدَهُ بثلاثةِ أجزاءٍ، بل كلَّ الناسِ هم بثلاثةِ أجزاءٍ، والفارقُ أنَّ هناك جزءان في الإنسانِ يمكنُ أن يكونا إلهيينِ أو إنسانيينِ، ولكنَّهما في جلجامشَ إلهيين، وإن الطريقَ مفتوحٌ أمام الجميعِ ليكونوا كذلكَ وإن تأخَّروا عن تلك المرحلةِ فيما بعدُ ساعةَ الولادةِ.
ولم ينتبهْ إلى هذا التقسيمِ أحدٌ من مؤسِّسي الفكرِ الأخلاقيِّ أو غيرَهُم باستثناء الكُتُبِ السماويةِ، بَيْدَ أنَّ الشُرَّاحَ قَدْ شوَّهوا الفكرةَ في النهايةِ فلا نجدُ في المشهورِ من تقسيمِ الإنسانِ في الدِّينِ المُنتشِرِ بيننا سوى التقسيمِ الثنائيِّ، وهو أنَّ الإنسانَ (روحٌ وبَدَنٌ).
ولا يستطيعُ هذا التقسيمُ تفسيرَ الاختلافِ الأخلاقيِّ والفكريِّ بين الناسِ، لأنَّ طبيعةَ الروحِ واحدةٌ، وكذلك البدنِ فإنَّه من ترابِ الأرضِ.
بينما نلاحظُ في القرآنِ الكريمِ مثلاً أنَّ هناك فعَّاليتينِ في الإنسانِ عدا البدنِ هما (العقلُ) والذاتُ الآمرة و(القلبُ).
ومن هنا نجِدُ أنَّ الإنسانَ عبارةٌ عن ذاتٍ شاعرةٍ بوجودِها (أي نفسٌ). وهذا الكيانُ الذي هو (النفسُ) يتألَّفُ من جوهرِ الذَّاتِ (القلبِ)، وأداتُهَا التي تفكِّر بها هي (العقلُ)، وهما يقومانِ بالعنصرِ الثالثِ (البدنِ). فإذا كانت الذَّاتُ في جوهرِهَا نقيةً طيِّبةً أَمَرَتِ العقلَ بحسابِ الأشياءِ بطريقةٍ (حرَّةٍ) من غيرِ مؤثِّراتٍ فتكونُ حساباتُهُ صحيحةً، وإذا كانت مَشوبَةً بالأعراضِ المرضيةِ للنفسِ كالحسدِ والغيرةِ وحبِّ الذَّات جاءتْ حساباتُ العقلِ مختلفةً بحسَبِ النسبةِ والتناسُبِ. ومن هنا فَشَلَت النظرياتُ التي تتحدَّثُ عن (المعرفةِ) الإنسانيةِ لأنَّها أَهْمَلَتْ العنصرَ الثالثَ (الذَّاتَ الآمرةَ).. فَشَلَتْ في تحديدِ قدرةِ العقلِ على المعرفةِ من أرسطو إلى عمانوئيل كانط مروراً بالاتجاهاتِ العقليةِ المحضةِ لجميعِ التياراتِ والمذاهبِ بما في ذلك المعتزلةِ ومن تابَعَهُم.
والواقعُ أنَّ القرآنَ الكريمَ واستمراراً للكُتُبِ السماويةِ قَدْ أكَّدَ على هذا التلازمِ بين العناصرِ الثلاثةِ، وأوضحَ اختلافاتُ المجموعاتِ بناءً على هذا التقسيمِ. ويتلخَّصُ الحلُّ الفلسفي الذي يقدِّمُهُ بضرورةِ تحريرِ العقلِ من قيودِ الذَّاتِ الآمرةِ وذلك بتخليصِهَا من الأمراضِ والعللِ التي تعاني منها. ومن هنا نلاحِظُ أنَّه ميَّزَ بين الكفرِ والشُرك في العبادةِ تمييزاً شديداً. فالكفرُ موقفٌ من مواقفِ الذَّاتِ، ولذلك لا يرجِعُ الكافرُ إلى الأيمانِ. فهو (أي الكُفرُ) موقِفٌ أخلاقيٌّ لا عقليٌّ. قَالَ تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:6)
لأنَّ الذَّاتَ أرادتْ هذا الطريقَ تحديداً، وبالتالي فإنَّ المناقشةَ العقليةَ مع هؤلاءِ لا فائدةَ منها. فعقولُهُم مأمورةٌ بأنِْ تحسِبَ الأشياءَ بطريقةٍ محدَّدةٍ خدمةً للذَّات.
أما الشركُ في العبادةِ فإنَّه موقفٌ عقليٌّ محضٌ، ولذلك أمكنَ رجوعُ المُشرِكُ إلى الأيمانِ، لأنَّ الحساباتِ العقليةَ كانت خاطئةً فلم تحصلْ الذَّاتُ على (العِلْمِ) المُفيدِ لها. فلاحِظْ كيف يأمِرُ اللهُ تعالى بأسماعِ المُشرِكِ كلامَ اللهِ لأجلِ أن تصِلَهُ المعرفةُ فيؤمنُ:
(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6)
لَقَدْ أوضَحْنَا هذه المسائلَ وعلاقاتِهَا بالمجموعاتِ في بعضِ مؤلفاتِنا السابقةِ:
ومن هنا تؤكِّدُ الملحمةُ هذا التقسيمَ، فأنَّ الثلثينِ الخاصَّين بالنفسِ إذا تحرَّرا من الأمراضِ والعللِ النفسيةِ أصبحا إلهيينِ ولم يبقَ من الإنسانِ جزءٌ بشريٌّ سوى البدَنِ.
(ثُلثَا جلجامشَ إلهٌ وثُلثُهُ بَشَرٌ). الترجمةُ الصحيحةُ هي ثلثاهُ إلهيٌّ (صفةٌ أو نسبةٌ).
وإذا كان الأمرُ كذلك فإنَّ هذا الوصفَ ينطبقُ على كلِّ نبيِّ أو رسولٍ أو وليٍّ تحرَّرت ذاتُهُ بصورةٍ كاملةٍ من العللِ النفسيةِ.
ومعلومٌ أنَّ هذا التحرُّر لا يحدِثُ لمجرَّدِ ادِّعاء المرءِ ذلك، فإنَّ لهذا التحرُّرِ قاعدةً عمليةً هي التسامي على عشتارَ (الحياةِ الدنيا) باعتبارِهَا صورةً مشوَّهةً للحياةِ الحقيقية والبحثُ عن الحياةِ الأبديةِ. ففي هذه الحالةِ يتحرَّرُ العقلُ، ويحصِلُ المرءُ على (الحكمةِ) بعدما تكونُ الحياةُ الدنيا لا قيمةَ لها عندَهُ بالمرَّةِ، أو كما عبَّر عن ثمنِهَا الإمامُ عليٌّ (ع) بقوله: (لا تساوي عندي عفطةَ عنزٍ)!!.
ثمَّةُ تشابهٌ في صورةِ الذين تساموا على عشتارَ، فقد اتَّصفوا بنفسِ الصُفاتِ الثلاثةِ: (القوَّةِ البدنيةِ ـ المعرفةِ ـ التواضعِ). وهذه الصفاتُ التي تتفرَّعُ عنها صفاتٌ أخرى هامَّةٌ هي اللائقةُ بالقيادةِ. فجلجامشُ هو الوحيدُ الذي سماه آنو مَلِكَاً:
أَلَمْ تَتَحَرَّشي بجلجامشَ المَلِكِ؟
ومن هنا لم يكنْ لأحدٍ أن يدَّعي الملوكيةَ سواه. فلنلاحِظَ هذه الديباجةَ من العمودِ الأوَّلِ التي تتحدَّثُ عن جلجامشَ:
هو الذي رأى كلَّ شيءٍ
فَغَنِّي بذكْرِهِ يا بلادي
هو الذي عَرَفَ جميعَ الأشياءِ وأفادَ من عِبَرِهَا
وهو الحكيمُ العارفُ بكلِّ شيءٍ
لَقَدْ أبْصَرَ الأسرارَ وكَشَفَ عن الخفايا المكتومةِ
وجاءَ بأنباءِ ما قَبْلَ الطوفانِ
وحينما يستمرُّ هذا العمودُ بتوجيهِ الأنظارِ إلى العلاماتِ الماديةِ الماثلةِ للعيانِ من أعمالِهِ في أكثرِ من ثلاثينَ سطراً يعودُ إلى خصائصِهِ الذاتيةِ قائلاً:
إنَّه البطلُ سليلُ أوروك
إنَّه المُقَدَّمُ في الطليعةِ
إنَّه هو الذي فَتَحَ مجازاتِ الجِبالِ
وعَبَرَ البحرَ المحيطَ إلى حيثُ مطلعِ الشمسِ
لَقَدْ جابَ جهاتِ العالمِ الأربعِ
وبجهدِهِ استطاعَ الوصولَ إلى أوتو ـ نوبشتم القاصي
من ذا يضارِعُهُ في الملوكيةِ
بلى إنَّ كاتبَ الملحمةِ رجُلٌ مُلْهَمٌ فهو يدركُ بحدَسِهِ العميقِ أنَّ هناك قرناً اسمُهُ القرنُ العشرون ستتطوَّر فيه العلومُ ويتمُّ فيه العثورُ على الملحمة ولكنَّ أهلها سيعدُّونها أسطورةً وسيزيِّفون الوقائعَ وسيفصلون بين جلجامشَ البطلِ وجلجامشَ الحكيم، لذلك أعطانا عنواناً آخرَ لصندوقٍ فيه أدلَّةٌ وافيةٌ عن أعمالِهِ، لكن المؤسف أنَّ أحداً ما لم يبحثْ عن هذا الصندوقِ:
ابحثْ عن اللوحِ المحفوظِ في صندوقِ الألواحِ النحاسيِّ
وافتح مغلاقَهُ المصنوعِ من البرونزِ
واكشفْ عن فتحتِهِ السريَّةِ
تناولْ حَجَرَ اللازورد وأجهر بتلاوتِهِ
ستَجِدُ كم عانى جلجامشُ من النَصَبِ
وفاقَ جميعَ الحُكَّامِ
إِزَالَةُ التَعَارُضَ بَيْنَ العَمُوَدْينِ
الأوَّلِ والثَانِي مِنَ اللَّوْحِ الأوَّلِ
لَقَدْ مَجَّدَ العمودُ الأوَّلُ جلجامشَ في ما يقاربُ من (48) سطراً، وأستمرَّ الثناءُ عليه وذِكْرُ أعمالِهِ في ثمانيةِ سطورٍ أخرى من العمودِ الثاني ثمَّ بَدأَ ذمُّهُ وذِكْرُ مثالبِهِ ممَّا أدَّى إلى أن يعِدَّهُ الشُرّاح تغيُّراً في سلوكِهِ فيما بعدَ السطرِ الثامنِ. ولكنَّ الأخذَ بآراءِ الشُرَّاحِ فيه أشكالٌ واضحٌ. فعلاوةً على كونِهِ مخالفاً للسِّماتِ الثابتةِ للشخصيةِ في السردِ الأدبيِّ الذي أوضَحْنَاهُ في فَقَرَةٍ سابقةٍ، فإنَّ العمودَ الأوَّلَ لم يصِفْهُ بالقوَّةِ الجسديةِ وشدَّةِ البطشِ فقط حتى يمكنُ أنْ نعتقِدَ أنَّه استغَلَّ هذه القوَّةَ في إذلالِ رعاياهُ، ودقَّ الطبولَ لاستخدامِهِم لإغراضِ السُخْرَةِ على حدِّ تعليقِ (طه باقر).
بل وصفَهُ العمودُ الأوَّلُ بالحكمَةِ والمعرفَةِ الإلهيةِ والإطلاعِ على الأسرارِ. وأَكْثَرَ السَّرْدُ من ذلك، بل ووصَفَهُ بعكسِ ما زعَمَهُ الشُرَّاح بكونهِ محبَّاً للرعيَّةِ ومدافعاً عنهم ويحمِيْهِم من الأعداءِ ويتقدَّمَهُم في الحربِ. وهي صفاتُ رجُلٍ هو الغايةُ في الصلاحِ، وهو الغايةُ من الحكمةِ. لاحِظْ هذه السطورَ المتفرِّقَةَ:
ـ إنَّه المُقَدَّمُ في الطليعةِ

ـ وهو كذلك في الخَلْفِ ليحميَّ أخوتَهُ وأقرانَهُ

ـ إنَّه المَظَلَّةُ العُظْمى

ـ حاميَّ أتباعَهُ من الرجالِ

ـ جلجامشُ المُكْتَمِلُ الجلالِ

ـ بعدَمَا خَلَقَ الإلهُ جلجامشَ وأحَسْنَ الإلهُ العظيمُ خَلْقَهُ

ـ حَبَاهُ شَمشُ بالحُسْنِ

ـ وخَصَّهُ آدَدُ بالبطولةِ

ـ جَعَلَ الأربابُ صورتَهُ كاملةً تامَّةً

ـ فَنَقَشَ في نُصْبِ الحَجَرِ كلَّ ما عاناه وخَبِرَه

إذن كان جلجامشُ في المقدِّمَةِ وفي الخَلْفِ .. فهو (مُكِرٌّ مُفِرٌّ مُقْبِلُ مُدْبِرٌ معاً كَجَلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ)، وكان يعملُ بنفسِهِ من أجلِ إيصالِ تاريخِهِ لنا. فَقَدْ نَقَشَ على الحَجَرِ كلَّ ما عاناهُ وخَبِرَهُ.
وإذنْ.. ليس صحيحاً ما قالهُ (جورج رو) في كتابه عن تاريخ العراق القديمِ:
(أُلِّفَتْ قصيدةٌ طويلةٌ مَزَجَْتْ قصصاً سومريةً بموادٍ جديدةٍ فجاءتْ ملحمَةُ جلجامشَ العظيمةُ التي وصَلَتْنا كاملةً تقريباً بفضْلِ الصِدْفةِ وحدِهَا!) العراق القديم(167 ـ 168).
فالصِدْفَةُ وحدُهَا لا تنتجُ ألواحاً متعدِّدَةَ النُسَخِ والأماكنِ بمختلفِ الأعماقِ، وإنَّما هي إرادةُ أقوامٍ أحبُّوا جلجامشَ وأرادوا تخليدَ أعمالِهِ ووصلتنا بفَضْلِ عنايةِ السَّماءِ لكثرَةِ الحاقدينَ والحاسدينَ له.
هو الذي رأى كلَّ شيءٍ فغنِّي بذكْْرِهِ أيَّتُها البِلادُ
هو الذي رأى الأعماقَ والأسرارَ وخصَصْتُهُ بمديحي
إذنْ.. فثمَّةُ تناقض بين العمودين يستلزمُ إعادةَ النظرِ والتدقيقِ في مضمونِ هذا الذَمِّ الواردِ في العمودِ الثاني.
فلنلاحِظ أينَ وكيفَ حَدَثَ الانتقالُ من الثناءِ إلى الذمِّ.
لَقَدْ حَدَثَ في السطر التاسع تحديداً.
فلنضَعَ هذا السطرَ في الوسطِ ونبدأُ من الخامسِ مثلاً إلى السادسِ عشر:
5ـ ثلثاهُ إلهيٌّ وثلثُهُ الآخرُ من البشرِ

6ـ وهيئةُ جسمِهِ مُخيفةٌ كالثَّورِ الوحشيِّ

7ـ وفَتْكُ سلاحِهِ لا يُضاهيهِ شيءٌ ولا يصدُّهُ شيءٌ

8ـ وعلى ضَرَباتِ الطبلِ تستيقظُ رعيتُهُ

9ـ لازمَ أبطالُ (أوروكَ) حجراتِهِم ناقمينَ مكفهرينَ

10ـ لم يتركْ جلجامشُ إبناً طليقاً لأبيهِ

11ـ لم ينقطعْ عنفُهُ عن الناسِ ليلَ نهارْ

12ـ أهذا جلجامشُ راعي أوروكَ المسوَّرة؟

13ـ أهو راعينا القويُّ الجميلُ الكاملُ الحكمةِ؟

14ـ لم يتركْ جلجامشُ عذراءَ طليقةً لأُمِّها

15ـ أو ابنةَ مقاتلٍ أو خطيبةَ بطلٍ

16ـ أخيراً استمعَ الأربابُ لاستغاثَتِهِم وشكواهم

لا بدَّ إنَّك أخي القارئ قَدْ فطِنْتَ إلى الحلَِّ من خلالِ عرضِنَا للسطورِ كما جاءَتْ حيثُ انتهتْ بعبارةِ: (أخيراً أستمعَ الأربابُ لاستغاثَتِهِم وشكواهم)!.
إذنْ.. فهذا الوصفُ هو شكوىً مقدَّمةٌ ضدَّ جلجامشَ.. ومِنْ مَنْ؟.. بالطبعِ من المجموعةِ المذكورةِ قبلَ بدءِ الذمِّ، وهي مجموعةُ أبطالِ أوروكَ الناقمينَ الذين لازموا حجراتِهِم مكفهرين!.
وَقَدْ جاء السطرُ الثامن في النصِّ الأكدي بترجمةٍ أخرى هي:
(رعيته مجبرةٌ على دخولِ شركِهِ) ـ
أي دخول طاعته.
فالسطرُ الثامنُ لا يحملُ معنىً للذمِّ، إذ جاءت الصفةُ (مجبرة) على أسمِ المفعولِ، فالرعيةُ مجبرةٌ على دخولِ طاعتِهِ، فهي مُجْبَرَةٌ لكنَّهُ لم يجبرْها. وهنا فرقٌ كبيرٌ، إذ يمكن أن تكونَ مُجبرةً على الطاعةِ لأنَّهُ مثالٌ حسنٌ للعدلِ والمعرفةِ والحكمةِ والتواضعِ وليس فيه مغمزٌ لأحدٍ من الناسِ.
وبصفَةٍ عامةٍ فإنَّ البيتَ في السطرِ الثامنِ فيه مديحٌ لا ذمٌّ، وإيقاظُهُم على صوتِ الطبولِ لا يفيدُ الإكراهَ، بل القيامَ من الفجرِ للعملِ والعبادةِ، فمن شاءَ فَعَلَ ومن لم يشأ لم يفعلْ. ولكنَّ هذه الطريقةَ تكشِفُ المزيَّفين مثلَ (الثورِ النائمِ) الذي قَتَلَ بشخيرِهِ المئاتِ، فمن الطبيعيِّ أن يغتاظَ الأبطالُ.
فالأبطالُ تعبيرٌ يُرادُ به القادةُ المحاربون والوجهاءُ من مَنْ يعبِّرُ عنه القرآنُ الكريمُ دوماً (بالملأ الذين استكبروا).
فلاحِظْ السطرَ التاسعَ الذي هو الفاصلُ بين شطرِ المديحِ وشطرِ الذمِّ (اغتاظتْ أبطالُ الوركاء في أماكنهم) ـ حسب النصر الأكدي أو (ولازَمَ أبطالُ أوروكَ حجراتََِِهِم ناقمينَ مكفهرين).. فهذه العباراتُ تحملُ الدلالةَ على وجودِ جماعةٍ منعزلةٍ معترضةٍ على جلجامشَ بقيادةِ الأبطالِ الذين بَلَغَ بهم الغيظُ مبلغَهُ. وهي حالةٌ عامَّةٌ متكرِّرةٌ فإنَّ حَسَدَ عليَّةِ القومِ للصالحينَ هي قضيةٌ معلومةٌ خاصةً إذا اجتمعَتْ فيهم البطولةُ والعدلُ والمعرفةُ، وهي خصائصٌ من النادرِ جداً أن تجتمعَ في شخصٍ واحدٍِ، وعندئذٍ يكسبون محبَّةَ الناسِ وتذوبُ أسماءُ المتبجِّحينَ والمدَّعينَ. ولا أظنُّ القارئُ الكريمُ يعجزُ عن تَذَكُّرِ أمثلةٍ صارخةٍ لمثالِ هؤلاءِ على مُرِّ التاريخِ. إذ تذوبُ الأسماءُ اللامعةُ البرَّاقةُ وينساها الشعبُ المولِعُ بذكْرِ البطلِ الذي يجمعُ بين البطولةِ والعدلِ والمعرفةِ والتواضعِ، فيفوقُ الأبطالَ جميعاً ولذلك ينمو الحقدَ في قلوبِهِم على الرجُلِ الصالحِ.
ألا ترى أنَّ الحقدَ ظَهَرَ أخيراً بالفتنةِ التي قادَهَا ثورٌ من الثيرانِ النائمةِ يوجِّهُها بشخيرِهِ، وهو ما أوضحناهُ سابقاً؟.
إذنْ.. فالسطورُ التي بَعْدَ هذا السطرِ التاسعِ هي شكايتُهُم، وهي من أقوالِهِم لا من أقوالِ كاتبِ الملحمةِ عن جلجامشَ.
وهو لم يذكرْ عبارةً مثل (يقولون) لأنَّ هذا واضحٌ جداً بعد إن كَالَ له المديحَ مقدَّماً وأنهى الفقراتِ بالتأكيدِ على أنَّها شكواهُم ثم أوقعَهُم في سوءِ أعمالِهِم ونواياهُم حينما جَعَلَ أنكيدو وهو المخلوقُ الذي اقترحوه ـ جعله يصبحُ نصيراً لجلجامشَ. وأخيراً أوضَحَ أمرَهُم باقتراحِ عشتارَ لخَلْقِ الثورِ وأنهى الأمرَ بقَتْلِ الثورِ حيثُ أعادَ وصفَ الجماهير المُحِبَّةِ لجلجامشَ وهي تهتفُ باسمه واسم أنكيدو، وابتأستْ عشتارُ حيثُ (لم تَجِدْ من يواسيها ويُفْرِحُ قلبَهَا).. فماذا تريدُ من الكاتب أوضحَ من ذلك؟.
ومع ذلك سأوضِّحُ هذا الأمرَ:
لَقَدْ جَرَتْ العادةُ على إلغاءِ لفظِ (يقولُ) أو (يقولون) من الكتاباتِ والمحاوراتِ عموماً في كلِّ مكانٍ وزمانٍ لظهورِ المَقولِ في النصِّ ظهوراً واضحاً، بل وَرَدَ هذا في القرآن الكريم في مواضعٍ كثيرةٍ منها مثلاً:
(وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ) (الأنبياء:36)
معلومٌ أنَّ عبارةَ: (أهذا الذي…) هي من قولِهِم لا من قولِ اللهِ تعالى، بل نقله اللهُ تعالى بأمانةٍ تامَّةٍ عنهم، فَلَمْ يَحْتَجْ لأنْ يأتيَ بالفعلِ (يقولون) قبلَهُ، لأنَّهُ واضحٌ. وهذا القولُ منهم هو جملةٌ وضعها بين جملتين هما: قولِهِ تعالى وإخبارِهِ عنهم.
فكأنَّه في الملحمةِ إذ قَالَ: (لازمَ الأبطالُ حجراتِهِم مكفهرين ناقمين) أنتظر المتلقي أقوالَهُم إذ يتساءلُ لماذا هم ناقمون ومكفهرون ما دام جلجامش بهذه الصفاتِ التي لا مثيلَ لها؟.
فجاءَهُ الجوابُ: (لم يتركْ جلجامشُ…) وبدأ الكاتبُ بذكر أقوالهم. ولما كانت تلك الأقوالُ تؤكِّدُ صفاتِهِ السابقةَ فقد أثبتها الكاتبُ للبرهنةِ على صحَّةِ ما ذَكَرَهُ في العمودِ الأوَّلِ، وليؤكِّد من جهةٍ أخرى بطلانَ هذه الشكاوى لأنَّ الأنانيةَ والحسدَ ظاهرةٌ فيها.
فلنلاحْظْ إذن أقوالَهُم في هذه الشكوى في النصِّ الأكديِّ، إذ مر عليك النصُّ البابليُّ:
12ـ لم يتركْ جلجامشُ ولداً لأبيهِ

16ـ لم يتركْ جلجامشُ بنتاً لأمِّها

17ـ أو ابنةَ بطلِ أو زوجةَ مُحارِبٍ

ماذا نفهمُ من هذه الشكوى؟ بالطبع لا يمكنُ أن نفهمَ منها الاعتداءَ الجنسيَّ لوجود الذكورِ ولا نفهمُ منه عمليةَ تجنيدٍ إجباريٍّ لوجودِ البناتِ في النصِّ.
لَقَدْ حدَّدَ النصُّ لمن لا يتركُهُم جلجامشُ… الولدَ لأبيه والبنتَ لأمِّها وابنةَ المُحاربِ لأبيها وزوجةَ (خطيبةَ) البطلِ لحبيبها.
هل يُعْقَلُ أنَّه اعتدى على الجميع، حتى لو اعتبرنا الكاتبَ تعجبُهُ المبالغةَ والتهويلَ؟ فلماذا قَرَنَ التَرْكَ بالأبِ والأمِّ والخطيبِ والزوجِ؟
لَقَدْ فَصَمَ جلجامشُ بحبِّهِ وشخصيتِهِ الروابطَ الاجتماعيةَ بما في ذلك علاقةَ الأبطالِ مع أهاليهم. وهذا هو المقصودُ، إذ يدورُ الحديثُ كلُّهُ عن البطلِ والمُحاربِ، إذ هو أَّما أبٌ أو زوجٌ أو خطيبٌ. فهؤلاءِ لا همَّ لهم سوى أن تُمَجِّدَ النساءُ والشبَّانُ بطولاتِهِم ويَذْكُرُهُم الفتيانُ في محافلِهِم. وحينما ظَهَرَ جلجامشُ مرتفعاً فوقَ الجميعِ فقد حطَّمَ أحلامَهُم وأركسَ أنانيتَهُم في وَحْلِ العارِ، فلم يعد يذكِرُهُم ذاكرٌ.
لَقَدْ بَلَغَ تَعَلُّقُ العامَّةُ به حدَّاً جَعَلَ الأبناءَ لا ينظرونَ إلى آباءِهِم نظرةَ الاقتداءِ بهم، فحلَّ جلجامشُ مَحَلَّ الآباءِ، ولم يتوقَّف الأمرُ عند ذلك، فالبناتُ اللائي من عادتِهِنَّ التَعَلُّقَ بأمَّهاتِهِنَّ أصابَهُنَّ ما أصابَ الأولادُ، فلم يكنْ لهُنَّ ذكرٌ لأحدٍ سوى جلجامشَ.
ثمَّ عَطَفَ النصُّ على ما هو أكبر وأشدّ وقعاً على نفوسِ الأبطالِ حينما أعلنَ أنَّ بناتهم بل وزوجاتهم طالهُنَّ نفسُ الشعورِ من محبَّةِ جلجامشَ والإكثارُ من ذِكْرِهِ. وهكذا يتدرَّجُ النصُّ من الأدنى إلى الأعلى آخذاً شِدَّةَ العلائقِ وقوَّتَها بنظَرِ الاعتبارِ كما لو كان قَدْ أجرى دراسةً كاملةً حولَ هذه العلائقِ.
فالبنتُ تتعلَّقُ بأمِّهَا كثيراً، ولكنها تتعلَّقُ بوالدِها أكثرَ خصوصاً إذا كان من أهلِ الشهرةِ وكما قيل (كلُّ بنتٍ بأبيها معجبةٌ)، ثمَّ يزدادُ تعلُّقُهَا بحبيبها (أو خطيبها) أو زوجها أكثرَ من كلِّ أولئك. ولما كانت الشخصيَّةُ الشاكيةُ واحدةً وهي (البطلَ المغتاظَ) فإنَّ التدرُّجَ أَخَذَ قالبَهُ وِفْقَ أحدثِ نتائجِ علمِ النفسِ الاجتماعي هكذا:
ـ ولد أب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ بنت أم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ بنت أب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ بنت زوج ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فَصَمَ جلجامشُ هذه العلائقَ القائمةَ على أكذوبةِ البطولةِ لهؤلاء (الأبطالِ) المزيَّفينَ.. فماذا يَحصِلُ لأولئك الذين يريدونَ من الآخرينَ أن ينظروا إليهم بأعينٍ مفتوحةٍ من الدهشةِ والإعجابِ حينما وجدوا أنَّ جلجامشَ أدارَ عيونَهُم إليه؟.
بالطبعِ سينمو الغيظُ في قلوبِهِم وتشتَدُّ نقمَتُهم على جلجامشَ ويصيبُهُم الكَمَدُ:
(لازمَ أبطالُ أوروكَ حُجَراتِهِم ناقمينَ مكفهرينَ)
لم يخرجوا إذن كما خَرَجَ الناسُ ولا يمكنُهُم إطاقةَ ما يلهَجُ به الشارعُ والمعبدُ من ذِكْرِ جلجامش!. لازم الأبطالُ حجراتِهِم.. ومع ذلك فأن المصيبةَ حلَّتْ في دورِهِم إذ أنتقلَ الحديثُ عن جلجامشَ من الشارعِ والمعبدِ ليكون فاكهةَ الكلامِ في الدُورِ فلم يَطِقْ هؤلاء وضعاً كهذا أدَّى إلى إهمالِهِم فقدَّموا شكاتَهُم تلك. وهي شكوى المُقِرِّ بإفلاسِهِ والمُقِرِّ في عينِ الوقتِ بأنانيتِهِ.
ولا يبقى هنا أيُّ إشكالٍ سوى ما في السطرِ الثامن عشر حيث تُرْجِمَ إلى:
(وظلَّ الأربابَ يسمعون بكاؤهُنَّ باستمرارٍ)
ولكنْ في ترجمةِ طه باقر يعود الضميرُ على الأبطالِ المذكورين:
(وأخيراً استمَعَ الآلهةُ إلى شكاتِهم واستغاثَتِهم)
وقَالَ في الهامشِ:
(وفي بعضِ الرواياتِ "شكواهن" ولعلَّ هذا إشارةٌ إلى شكوى النساءِ إلى الآلهةِ من مظالمِ جلجامشَ)!
ثمَّ قَالَ:
(وأن هذا قَدْ ورد في بحث أجنبي يبدأ باسم ""O. Ravan)، ويقصد بالروايات النصَّ الحثي. ولكنَّ هذا الاستنتاجَ يكون عشوائياً حينما نقارنُ مفردةً واحدةً بمعزلٍ عن كامل النصِّ وتغيُّراتِهِ المقابلةِ.
إذ تتوجَّبُ ملاحظةُ الضمائرِ منذ السطرِ الخامسِ. فبدلاً من القولِ (أهو راعينا القويُّ الجميلُ العارفُ)، جاء النصُّ بضمائرٍ مختلفةٍ: (هو راعيهم القويُّ الجميلُ العارفُ)، وهذا التغيرُ يستلزمُ أن تكونَ عباراتُ الشكوى في السطر (18) من مقولِ الأبطالِ ولا تشتركُ مع مقولِ الكاتبِ، ولذلك تتغيرُ الأفعالُ نفسُهَا. والآن أوضِّحُ هذا الأمرَ:
فحينما قَالَ: (أستمعَ الآلهةُ إلى شكواهم)، فقد أستخدم صيغةَ الماضي وهو يَسْرِدُ الأحداثَ. فالكلامُ هنا للكاتبِ.
ولكن حينما يكونُ الكلامُ لهم فأنَّهم لا يعلمون هل يستمعُ الأربابُ أم لا، إذ لا يعلمون مدى استجابتِهِم للمطلبِ خلال الفعلِ المستمرِّ، فأوضحَهُ الكاتبُ في السطر (19)، أما قبلَهُ فالكلامُ له:
(والأربابُ يستمعون بكاؤهن باستمرارٍ)
فهذا من قولِهِم استمراراً للشكوى، وعلى الأغلبِ فإنَّ هذه الترجمةَ غيرُ دقيقةٍ، وإنَّ الترجمةَ الأخرى هي الصحيحةُ.
فأن قُلْتَ: (ولماذا تكونُ خاطئةً؟، أليست هذه الشكايةُ نفسُهَا وَرَدَتْ على لسانِ الرجُلِ الغريبِ وهو يشكو من جلجامشَ وأفعالِهِ لأنكيدو في ما خطَّط له الأبطالُ؟)
نعمْ.. هذا صحيحٌ جداً.. ولكنَّ اتِّهامَ جلجامش بما ليس فيه أمرٌ ممكنٌ جداً بالنسبةِ لأنكيدو الآتي من البريةِ، بينما تكون هذه الشكايةُ مكشوفةٌ حينما تُقَدَّمُ للأربابِ (والذين هم هنا رموزٌ للقوى الكونيةِ).
فحينما تمَّ خَلْقُ أنكيدو تطوَّرَتْ الشكاوى فكذَّبوا عليه لأنَّهُ مخلوقٌ إنسانيٌّ يمكنُ خداعُهُ. وعدا ذلك فإنَّنا نعلمُ أنَّ هذه الفقرةَ هي من شكايِتِهم تحديداً لأنَّ النصَّ البابليَّ أعادَ الفقراتِ كلَّها مجدداً وهم يقدِّمونَ الشكوى إلى (آنو) إلهَ السماءِ وخَتَمَهَا بالقول:
(استمعَ الإلهُ آنو إلى شكواهم) ـ بضمير الذكور، والضميرُ هنا يعود إلى الأبطالِ لا إلى الأرباب قطعاً حيث اختفتْ هذه العبارةُ من النصِّ الآشوري عند إعادة الفقرات. إنَّ هذا يذكرنا بإخوةِ يوسفَ في النصِّ القرآنيِّ حيث قالوا:
(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ)
(يوسف:9)
فالغايةُ من التحريضِ على جلجامشَ هو تخليةُ الوجوهِ التي تحملقُ في الأبطالِ من النساءِ والأولادِ والشبَّانِ بدلاً من أن يكونوا مشغولينَ بجلجامشَ.


...
....
صورة رمزية إفتراضية للعضو علي العذاري
علي العذاري
انتقل لرحمة الله
°°°
افتراضي
الرَمْزيَّةُ في الآلِهَةِ المَزْعُومَةِ
(أيَّا ـ أنليل ـ إيرا ـ ننورتا)
لَقَدْ استخدَمَ كاتبُ الملحمةِ رموزاً كثيرةً في النصِّ خالطاً لها مع الحقائقِ التاريخية ليتمكَّنَ من إجراءِ الحوارِ الفلسفيِّ المكينِ من خلالِ تلك المرموزاتِ كما رأيْنَا في عشتارَ وثورِ السماءِ وأنكيدو الذي يمثِّلُ شخصيَّةً ذاتَ بُعْدَينِ: بُعْدٍ رمزيٍّ وبُعْدٍ حقيقيٍّ. ولذلك فإنَّ ما ذَكَرَهُ الشُرَّاحُ من أعدادٍ غفيرةٍ من الآلهةِ يحتاجُ إلى إعادةِ نظرٍ وتدقيقٍ. فَمِنْ بعضِ الأسبابِ التي أدَّتْ إلى ذلك انخرامُ النصِّ في مواضعٍ كثيرةٍ هامةٍ، ووجودُ الترادفِ اللفظيِّ في أذهانِ المترجمينَ، وغيابُ الوضوحِ في كثيرٍ من الألفاظِ والجملِ وتَعَقُّدُ الرموزِ الكتابيةِ، وأَهَمُّ من كلِّ ذلك: عَدَمُ التفريقِ بين المعاني، كما في ألفاظِ: (آلهةٍ، أربابٍ، ملوكٍ، ملائكةٍ..الخ) حيث كانت المفردةُ مشتركةٌ للجميعِ.
لَقَدْ جَعَلَ الكاتبُ لكلِّ واحدةٍ منها مقصداً واستعمالاً محدَّدا،ً وشَحَنَ النصَّ برموزٍ للقدرِ والشرِّ والزمانِ والظلماتِ والنورِ والحقِّ والباطلِ احتاجَهَا لإبرازِ التناقضاتِ في الوجودِ بمختلفِ المستوياتِ.
فالإلهُ الأصغرُ (حَسَبَ الترجمة) يوبِّخُ من هو أكبرَ منه في الألوهيةِ على بعضِ الأعمالِ. وبالطبعِ لا يمكنُ قبولُ الأمرِ بهذهِ السهولةِ.. فقد لامَ (أيَّا) أنليلَ على القيامِ بالطوفانِ بالرغمِ من علوِّ مرتبةِ أنليلَ على أيَّا حسب النظام الذي عرَّفَنَا به علماءُ الآثارِ.
ويوجِّهُ أنليلُ إهانةً إلى شماشَ لاختيارِهِ جلجامشَ للموتِ كأحدِ اثنين لا بدَّ من موتِ أحدِهِما. في حين أنَّ مرتبةَ شماشَ أعلى من أنليلَ حَسَبَ الاعتقادِ السائدِ. وهكذا فمن اليسيرِ العثورُ على إهاناتِ بعضِ الآلهةِ لبعضٍ، أو إهانةِ الناسِ للآلهةِ كما رأينا في إهانةِ جلجامشَ لعشتارَ، أو يقومُ الكاتبُ نفسِهِ بوصفِهِم بأوصافٍ مشينةٍ كقولِهِ أنَّهم كالذبابِ أو كالكلابِ حيث لاذوا بآنو عند حدوثِ الطوفانِ.
لَقَدْ أدَّى هذا إلى رسوخِ التصوُّرِ عن العراقيِّ القديمِ كونَهُ مخلوقاً يتخبَّطُ في معرفةِ النظامِ الكونيِّ وقواه وعلاقاتِهِ، بينما الحقيقةُ هي عكسُ ذلك تماماً.. فقد كَشَفْنَا في الفصلِ السابقِ كيف رَمَزَ العراقيُّ للحياةِ بعشتارَ، وأمكنَ ذلك من تفسيرِ جميعِ المقاطعِ التي ذَكَرَتْها الملحمةُ فيها، ولماذا أهانَهَا جلجامشُ، وكيف تآمرتْ عليه.. كما فسَّرْنَا حالاتِهَا المتقلِّبَةَ التي حيَّرَتْ الباحثينَ لكونِهَا رَمْزَ الحياةِ الدُنيا المتقلِّبَةِ لا لكونها آلهةً معبودةً كما زعموا.
لَقَدْ رَمَزَتْ الملحمةُ للقوى الكونيةِ بمرموزاتٍ بما في ذلك (الملائكةِ) في التعبيرِ الدينيِّ وأحكمتْ تصوِّرَهَا عن العلاقاتِ بينَ هذه القوى. فبعضُ المرموزاتِ تُعْتَبَرُ محايدةً كالليلِ والنهارِ والخيرِ والشرِّ والمكانِ والزمانِ، وأعني بحيادِهَا أنَّ الكاتبَ استنطَقَهَا وأضفى عليها صفاتِ الكائناتِ العاقلةِ المتحرِّكةِ المجيبةِ على المسائلِ والمدافعةِ عن شخصيَّتِهَا ضِدَّ التُهَمِ الموجَّهَةِ إليها. فمن أمثلةِ ذلك أنَّه أنطَقَ (الزمانَ) واعتبرَهُ كائناً مشخَّصَاً، وجَعَلَ على لسانِهِ إجاباتٍ وجَعَلَهُ قادراً على القيامِ بأفعالٍ هي من صميمِ اختصاصِهِ. وهي أساليبٌ كتابيةٌ لا زالَتْ مُتَّبَعَةً ومُسْتَخْدَمَةً في الأدبِ وبخاصَّةٍ في الشِعْرِ، ولا زالتْ تكثُرُ في عَيْنِ المنطقةِ أعني جنوبَ ووسطَ العراقَ حيث يكلِّمُ الشاعرُ الزمانَ ويَعْتِبُ عليه أو يَلُومُهُ ويجيبُ الزمانُ بلسانِ الحالِ ويُحْسِنُ المقالَ، وهي مقاطعٌ وقصائدٌ لا حَصْرَ لها بالعاميَّةِ والفُصْحَى على حَدٍّ سواءٍ، بل واستُعْمِلَتْ في الغناءِ الشعبيِّ، وربَّمَا يَسْمَعُها البعضُ من (الإذاعاتِ).
ذلك إذنْ هو رَمْزُ (أيَّا) الذي ظنَّهُ الشُرَّاحُ آلهاً معبوداً في العراقَ القديمَ. فلنلاحِظْ رمزيَّةَ أيَّا الزمنيَّةَ هذه.
حينما حَدَثَ الطوفانُ إعوَلَّت عشتارَ كما رأيْنَا من قبل، وهذا واضحٌ لأنَّها الحياةُ تنوحُ على (خَلْقِهَا) حسب النصِّ. وحينما ينجو البطلُ (أوتو ـ نوبشتم) من الطوفانِ وينزِلُ من السفينةِ ويَنْحِرُ القرابينَ تفرحُ عشتارَ. وهذا طبيعيٌّ لأنَّها وإنْ كانت شريرةً بطبعِهَا إلاَّ أنًَّها لحُرْصِهَا على الشرِّ تَحْرِصُ على بذرتِهِ وإن كانت في أصلابِ الخيِّرينَ. فهي تأملُ بعودة التكاثرِ والتناسلِ مجدَّداً. وهنا رَفَعَتْ عُقْدَ الجواهرِ وقالت:
رَفَعَتْ عُقْدَ الجواهرِ الذي صَاغَهُ لها آنو وِفْقَ هَوَاهَا
قالتْ: أنتم أيَّها (الآلهةُ) الحاضرونَ
كما أنَّني لا أنسى عُقْدَ اللازورد هذا الذي في جيدي
سأظلُّ أذْكِرُ هذه الأيامَ ولن أنْسَاها أبداً
ليقدمَ (الآلهةُ) إلى القرابين
أما أنليل فحذارِ أن يقتربَ
لأنَّهُ لم يتروَّ فأحدَثَ عُبَابَ الطوفانِ
وأَسْلَمَ خَلْقي للهلاكِ
بعْدَ مُدَّةٍِ: أبصر أنليلُ الفُلْكَ
فامتلأَ غَضَبَاً
قلوبُهُم مليئةٌ بالغضبِ ضِدَّ أربابِ الأيكيكي
هل تمكَّنَ أحدٌ من الهربِ؟ لم يبقَ رجُلٌ على الحياةِ من الدمارِ
(السطورُ الأربعةُ الأخيرةُ من النصِّ الأكدي في ترجمة الأحمد)
ذَكَرَ المأثورُ الدينيُّ أنَّ ما يسمَّى بـ (قوس قزح) قَدْ ظَهَرَ أولَّ مرَّةٍ في الدُنيا بعد الطوفان كعلامةِ أمانٍ من الغَرَقِ وانتهاءِ الطوفانِ. وَرَدَ ذلك في التوراة (سفر التكوين 9 :8 ـ 17).
وذُكِرَ عن النبي (ص) أنَّه إذا ظَهَرَ فأمانٌ من الغَرَقِ. وذُكِرَ عن أهلِ البيتِ (ع) إنكارِهِم تسميتَهُ بـ (قوس قزح)، وقالوا (قزح من أسماء الشيطان، وإنَّما اسمُهُ قوسُ الله وهو أمانٌ من الغرق).
وهنا يظْهَرُ الرمزُ جلياً وهو أنَّ الدنيا لَبَسَتْ قلادةَ الأمانِ من طوفانٍ آخرٍ ما دام هذا القوسُ ظاهراً.
ولتَعَدُّدِ ألوانِهِ قَالَ كاتبُ الملحمةِ أنَّ آنو صاغَهُ وِفْقَ هَواهَا!
إنَّه تعبيرٌ جميلٌ للغايةِ.. فكلُّ الألوانِ هي مزيجٌ من هذه الألوانِ السبعةِ للطيفِ الشمسيِّ والذي تظْهَرُ الألوانُ الثلاثةُ الأساسيةُ منه في (قوسِ الله).
فالدنيا لها صورتانِ عند الكاتبِ: الدنيا هذه التي نَرَاهَا ترتدي عقداً من اللازورد، والدنيا الحياةُ التي نعيشها.. إنَّه إحساسُنا بالوجودِ وهو يتنقَّلُ من إحدى الصورتين إلى الأخرى.
فالحياةُ تأدَّبَتْ بالطوفان، وفي النصِّ الأكديِّ جاء صريحاً ما يلي:
لَقَدْ اتَّعَظْتُ من هذه الأيامِ حقاً ولن أنساها
ومع ذلك فإنَّها بمجموعِهَا صَلِفَةٌ وقحةٌ، فهاهي تدعو الجميعَ ليأكلوا من القرابينِ إلاَّ أنليل الذي لن ينالَ قرباناً منها.
فمن هو أنليل؟
إنَّه في الواقع رسولُ آنو إلى الأرضِ… فهو يَهِبُ الملوكيةَ حينما يَضَعُ التيجانَ على الرؤوسِ. وهو الموكَّلُ بين السماءِ والأرضِ. وهو أيضاً يقومُ بإهلاكِ الأممِ!!.
ألا تلاحظ أنَّ هذه هي صفاتُ جبريلَ الروحِ الأمينِ (ع) في المأثور الديني ولم يعطِهِ العراقيُّ القديمُ صفةً زائدةً ولا صفةً ناقصةً؟
فجبرائيلُ هو الذي يُعَيِّنُ الملوكَ الإلهيينَ:
لداودَ:
(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (صّ: من الآية26)
ولإبراهيم:
(إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) (البقرة: من الآية124)
ولِطالوتَ:
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً) (البقرة: من الآية247)
وبالطبعِ يقومُ جبرائيلُ (ع) بنقلِ هذه الأوامرِ. أمَّا قيامُهُ بإهلاكِ الأُممِ فهو أشهرُ من أن نذكِرَهُ هنا. فثمَّةُ تفاصيل عن كيفيةِ قيامِهِ بإهلاكِ الفراعنةِ وقومِ لوطٍ وقومِ صالحٍ والمؤتفكةِ وقومِ هودٍ وقومِ نوحٍ وبقيةِ الأُممِ التي أُهْلِكَتْ.
وجبرائيلُ هو الذي باركَ نوحاً حسب المأثورِ، وهو الذي أصْعَدَهُ إلى الفُلْكِ. ولكنَّ القرآنَ الكريمَ لم يذكِرْ (على حدِّ علْمِنَا الحاليِّ بمعانيهِ) ذلك صراحةً، فقد بنى الفِعْلَ للغائبِ أو لقائلٍ لا نعْلِمُهُ:
(قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (هود:48)
أما في الملحمةِ فقد نَسَبَ المباركةَ لأنليلَ وجاء ذلك على لسانِ بطلِ الطوفان وهو يقصُّ الوقائعَ على جلجامشَ:
ثُمَّ علا أنليلُ فوق السفينةِ
وأمْسَكَ بيدي وأركبني معَهُ في السفينةِ
وأركبَ معي زوجي وجعلها تسجِدُ بجانبي
ووقفَ ما بيننا ولمَسَ ناصيتَنا وباركَنَا
فمن الطبيعي إذن تظهْرَ عداوةُ عشتارَ لأنليلَ!!.
أليستْ عشتارُ عدوَّةَ جلجامشَ وأنكيدو؟ فكيف لا تُعادي من وَضَعَ التاجَ على رأسِ جلجامشَ؟
أليستْ عشتارُ معبودةَ أعداءِ آنو وعدوَّةَ عِبَادِ آنو؟ فكيف لا تُعادي أنليلَ وهو رسولُ آنو؟.. رسولُهُ الذي يَضَعَ التيجانَ الملكيةَ على رؤوسِ أعداءِهَا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخرٍ يَهِلُك خَلْقَها؟
أننا نلاحظُ نفسَ العداءِ لهذا الملكِ من قِبَلِ (عَبيدِ الدنيا) في المأثور الديني، بل القرآنُ صريحٌ بالإعلانِ عن هذا العَداءِ، بل نَجِدُ هذا التصريحَ قَدْ جاءَ في سياقٍ قرآنيٍّ يتحدَّثُ عن الموتِ والحياةِ وعن الخلودِ تحديداً وعن تَمَنِّي الموتِ وعن العذاب:
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ. قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)
(البقرة:96 ـ97)
أما الآيةُ التي قبلَهَا فهي:
(قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة:95)
ما الذي جاءَ بعداوةِ جبريل (ع) في سياقٍ يتحدَّثُ عن الموت وتمنِّي الحياة؟
لأنَّنا قُلْنا في رمزيةِ عشتارَ أنَّ عبيدَها فضَّلوها كصورةٍ مشوَّهَةٍ للحياةِ على الحياةِ الحقيقيةِ، وبالتالي فإنَّ عداوتَهم تتركَّزُ على الأشخاصِ الذين يَذِلُّون عشتارَ من الجهتين: تسليمُ المُلْكِ لِمَن يهينُها وإباحةُ عَبيدِهَا. والعملان يقومُ بهما أنليلُ فهو من أَلَدِّ أعداءِهَا.
أما في القرآنِ فالأمرُ أوضحُ بالطبع، إذ أنصبَّ الغيظُ من عُشَّاقِ الدنيا على الذي يأتي بالرُسِلِ دوماً لأعدائِهَا ويقومُ بالدفاعِ عنهم!.
إنَّ جبرائيلَ (ع) في القرآنِ ليس مجرَّدَ مَلِكٍ يُبَلِّغُ الرسائلَ!.. الواقعُ إنَّهُ القوَّةُ السماويةُ الضاربةُ والتي تَحْجِزُ دوماً بين الخيرِ والشرِّ وتُوقِعُ بالشرِّ أشدَّ النكالِ في الأوقاتِ المحدَّدةِ.
ولَكَ أن تَتَصوَّرَ أنَّ اللهَ يهدِّدُ الخَلْقَ الذينَ آذوا النبيَّ (ص).. يُهدِّدَهُم بجبرائيلَ (ع) لِرَدْعِ مؤامرةٍ داخليةٍ ضيِّقَةِ الأبعادِ لكنَّها شديدةُ الدمارِ إن لم تُردعْ:
(إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم:4)
وهكذا يبدو لنا أنَّ العراقيَّ القديمَ كان يسمِّي جبرائيل (ع) بهذا الاسمِ (أنليل) ومن المحتمل أن تكونَ قراءةُ اسمِهِ فيها التباسٌ على الباحثينَ، وهذا ما يحدث كثيراً حيثُ تُعدَّلُ القراءاتِ كلَّ مرّةٍ في كثيرٍ من السطورِ.
مِنْ هنا نعلمُ لماذا أزداد ذِكْرُ (أنليل) في (نفر)، حيث قَالَ الباحثون إنَّ هذا التَغيُّرَ حَدَثَ لأسبابٍ مجهولةٍ. فإذا تذكَّرْنَا الجانبَ السياسيَّ الذي حَتَّمَ على الملوكِ ادِّعاءَ السلطان الإلهي باطِّرادٍ مع تزايدِ الوعي الاجتماعي الرافضِ لفكرةِ وراثةِ المُلْكِ عَلِمْنَا أنَّ ذلك قَدْ حتَّمَ من جهةٍ أخرى الاهتمامَ بأنليلَ من قبل الملوكِ المُزيَّفين أكثرَ من سواه لأنَّهُ:
(هو الذي يختارُ حُكَّاَم سومرَ ويَضَعُ على رؤوسِهِم التيجانَ المقدَّسَةَ)
جورج رو ـ العراق القديم/ص123.
فالملوكُ حاولوا الانتفاعَ من فكرةِ الوحي.. ومثلما ذَكَرْنَا فإنَّ المحاولاتِ لا زالت قائمةً ولا زالت ثمة أكذوبةٌ تَنْسِبُ الملوكَ إلى الأمرِ الإلهي بشتَّى الوسائلِ. ولكن ما مدى صحَّةِ هذه الفكرةِ؟ ولماذا لم يتمكَّنْ الفكرُ السياسيُّ من الخلاصِ منها؟، إذ يبدو أنَّهُ لا يحاولُ استغلالَها لهذا التصرُّفِ بقدر ما يحاولُ الخلاصَ من آثارِهَا في تدميرِ كيانِهِ. إنَّ هذا ما نلاحظه دوماً وعلى مرِّ التاريخ. فمثلاً إنَّ العوائلَ الهاشميةَ تتمكَّنُ من ادِّعاءِ أحقيةِ المُلْكِ من خلال ارتباطِها بجبرائيلَ عن طريق ِالنبيِّ الهاشميِّ (ص). وحينما تَعْجِزُ العائلاتُ الأخرى فإنَّها تعوِّضُ الأمرَ أما بالمهادنةِ أو باتِّخاذِ أطروحةٍ مناوئةٍ لدرجةِ العداءِ، ولذلك نَجِدُ حرباً على مذهبٍ معيَّنٍ في مملكةٍ لا نجدَهُ في مملكةٍ أخرى رغمَ اتِّفاقِ المملكتين في المذهب. (لاحظ: ملوك اليمن ـ أفغانستان ـ الحجاز ـ الأردن ـ المغرب العربي… على مرِّ التاريخ).
إنَّ هذا يؤشِّرُ حالةَ الذعْرِ التي يعيشُها النظامُ السياسيُّ منذ ستة الآلاف سنةٍ من (أنليل) تحديداً. فالذي لم يسلِّمْهُ أنليلُ المُلْكَ يشعِرُ هو قبل غيره أنَّهُ مَلِكٌ مزيَّفٌ. فهو مرعوبٌ وخائفٌ حتى قبلَ ظهورِ واحدٍ في المملكةِ ينادي بأعلى صوتِه (هذا مَلِكٌ مزيَّفُ).
تُرى لماذا لم يقدرْ النظامُ السياسيُّ بعُمِرِهِ المديدِ هذا على القضاءِ على هذه الفكرةِ في أذهان العامَّةِ؟وهل هي خاصَّةٌ بمنطقةِ الشرقِ حيثُ الأديان أم هي عامَّةٌ في كلِّ بقاعِ الأرضِ؟.
الواقع أنَّها عامَّةٌ وموجودةٌ في كلِّ الأرضِ بَيْدَ أنَّها تَلبَسُ لبوساً مختلفاً وتَتَسمَّى بأسماءٍ مختلفةٍ!.. إنَّها لو تَمَعَنتَ لوجدْتَها داخلَ أرقى العواصمِ الصناعيةِ المتطوِّرةِ الآن!.. وهي في جوهرِهَا واحدةٌ: مِنَ النُظُمِ السياسيةِ البدائيةِ جداً إلى التي أكثرها تعقيداً، وهي صانعةُ الأربابِ في كلِّ الأديانِ، وهي منشأُ الأفكارِ السياسيَّةِ أيضاً. فالمسألة لا تتعلَّقُ بأنليل إذ هو وسيطُ (آنو).. أنها تتعلَّقُ بالطرفين: الإنسانُ من جهةٍ وآنو من جهةٍ أخرى. وهناك عدَّةُ طُرُقٍ للتخلُّصِ من آنو ورسولِهِ انليل منها مثلاً:

الطريقُ الأوَّلُ
: الاتصالُ المباشر بآنو من غير أنليل
ومن أمثلتِهِ: الأفلاطونيةُ ونظامُ الجمهورية وما ترتَّبَ عليهما فيما بَعْدُ من فكرةِ (الديمقراطية). حيث يمكنُ (للحكماءِ) ممثِّلي الشعبِ باعتبارِهِم صورةَ آنو المتجلِّيةِ في العالَمِ أن يحكموا مباشرةً من غيرِ تصريح من (أنليل) الذي هو أكذوبةٌ لا غير حسب ادعائهم!.
ومن أمثلتِهِ الفكريةِ (لا السياسيةِ) التصوُّفُ: فثمَّةُ حالةُ ارتباطٍ مع (آنو) مباشرةٌ من غيرِ ضرورةٍ للالتزام بالتعاليمِ التي يأتي بها أنليلُ!. ولمَّا كان إنكارُ وجودِهِ يسبِّبُ مشكلةً لهم (أي للمتصوِّفَةِ) فقد تمَّ حلُّ المعضلةَ بالفكرةِ القائلةِ أنَّ هذه التعاليمَ خاصَّةٌ بالسُّذَّجِ والعُوَّامِ وذوي الثقافةِ الواطئةِ. فأنليلُ حقيقةٌ لكنَّ الارتباطَ بآنو ممكنٌ مباشرةً (لذوي الكفاءات)!.
وألاَّ.. كيف ارتبطَ به الملوكُ الإلهيونَ من الأنبياءِ قبل أن يرسُلَ إليهم أنليلُ؟

صورة رمزية إفتراضية للعضو علي العذاري
علي العذاري
انتقل لرحمة الله
°°°
افتراضي
الطريق الثاني: الارتباطُ بأنليلَ
ويُؤخَذُ بهذا الطريقِ عند فَشَلِ الطريقِ السابقِ أو غيرِهِ من الطُرُقِ كأن يكون بسببِ قُرْبِ عَهْدٍ بملِكٍ توجَّه إليهِ أنليلُ. عندئذٍ تدَّعي فُرَقٌ عديدةٌ أنَّها أولى به من سواها. وبالطبع تكونُ البراهينُ أكثرَ للفُرقةِ التي تَغلِبُ فتحاولُ تجريدَ غيرِها من هذا الارتباطِ عن طريقِ الدعايةِ بحيث (يهرِمُ عليه الكبيرُ ويشيبُ عليه الصغيرُ) حَسَبَ تعبيرِ مَلِكٍ أمويٍّ قالَهُ وهو يتطرَّق إلى إصرارِهِ على لَعْنِ الفُرَقِ الأخرى وزعَماءِها واعتبارِ هذا اللعنِ جزءً من الصلاة التي أَمَرَ بها آنو!.

الطريقُ الثالثُ: إنكارُ آنو

ويمثِّلُ هذا الطريقَ فُرَقٌ واتِّجاهاتٌ كثيرةٌ قديمةٌ وحديثةٌ. ومن أبْرَزِ صُوَرِهِ المتطوِّرَةِ: (المادِّيةُ في النظامِ الشيوعي). فقد عَلِمَ هؤلاء أنَّ الموازنةَ بينَ آنو كحاكمٍ مطلقٍ في الكونِ وبينَ إمكانيةِ الخَلْقِ في اختيارِ نظامِ حُكْمِهِمْ بأنفسِهم هي موازنةٌ تَتَّسِمُ بالنفاقِ والكَذِبِ.. والأمرُ عندهم هو: إمَّا الإقرارُ بآنو حاكماً مطلقاً يعيِّنُ بنفسِهِ حُكَّامَ الأرضِ وإمَّا إنكارُ وجودِهِ نهائياً ليتمكَّنَ الإنسانُ من وضْعِ النظامِ السياسيِّ الذي يرغَبُ فيه بنفسِهِ.
ولكن من الذي يَحْكُمُ الناسَ بعد إنكارِ آنو؟
استخدمَتْ هذه الفئاتُ أسلوبَ آنو نفسِهِ. فما دام آنو يريد أن (يَمُنَّ على المُسْتضعَفينَ ويجعلُهُم أئمَّةً) كما في النصِّ القرآني آية 5 من سورة القصص، فالمادية أيضاً تريدُ أن تمُنَّ على المستضعفين (الشغيلة) لتجعلَهُم الحاكِمَ المطلقَ من الناحيةِ النظريةِ في ما يدعى بـ (ديكتاتورية البروليتاريا). بَيْدَ أنَّ الشغيلةَ ظلَّت شغيلةٌ في هذا النظامِ ولم تصلْ قط إلى الحُكْمِ المنشودِ، وأصبحتِ الحكومةُ الجديدةُ تقطعُ رغيفَ الخُبزِ إلى سبعةِ أجزاءٍ أُبانَ المجاعةِ والحربِ، ولم تتمكنْ من جَعْلِ السمكتينِ والأرغفةِ الأربعةِ تُشْبِعُ أربعةَ آلافٍ كما فَعَلَ رسولُ آنو الحقيقيُّ في الناصرة (عيسى بن مريم)! ـ إنجيل متي 14/13-21.. أو تجعلَ عسَّ اللَّبنِ الذي لا يُشبِعُ عطشاناً يُروي أربعين رجلاً كما فَعَلَ محمد (ص) ـ نهج البلاغة/ الخطبة 192.
وأمَّا على المستوى الثقافيِّ فقد تمَّ إنكارُ (آنو) ووجودِهِ في موجاتٍ فكريةٍ متعدِّدةٍ تخلُّصاً من اختيارِهِ لنظامِ الحُكْمِ. وتمثَّل هذا الإنكارُ بفئاتِ (الدهرية) في المشرقِ، والماديةِ البدائيةِ في أوربا في القرون الوسطى وما تلاها والتي انتهت بالماديةِ التاريخيةِ.

الطريق الرابع: الاتحادُ بآنو

ولهذا الاتحادِ صورٌ عديدةٌ من أهمِّها صورتان:ـ
الأولى:
الفلسفةُ القائلةُ باتِّحادِ الإلهِ مع المألوهِ أو سريانِ الذَّاتِ الإلهيةِ في كلِّ الموجوداتِ ومن أبرز فلاسفة هذا الاتجاه (سبينوزا)، و(جون لوك) الذي لم يخالِفْهُ بقدر ما أراد تطوير (الأنا) ليمكنَ تعميمُها على الجميع في مقابلةٍ اتحاديةٍ بين الإنسانِ والخالقِ. والفكرةُ هذه هي محاولةٌ لتعميمِ فكرةِ (ألوهية المسيح) التي لم تكن ألاَّ صورةً من صُورِ هذا الاتحادِ لكنها مقصورةٌ على فردٍ هو المسيحِ وحدِهِ. فهي عند دراسةِ المجتمعِ ككيانٍ منفرِدٍ (أي اعتباره فرداً في السلوك عند دراسته نفسياً) تمثِّلُ خطوةً أولى لتعميم الألوهية على كلِّ الأفرادِ المُصابينَ بعوارضٍ نفسيةٍ.
لكنَّ هذا التطوُّرَ كان أسرعَ بكثيرٍ في المشرقِ الإسلامي، فقد ظَهَرَتْ وبسرعةٍ كبيرةٍ دعواتٌ تنادي بألوهيةِ أفرادٍ من الصحابةِ أو أفرادٍ آخرين ادَّعوا الألوهيةَ مباشرةً بعد ادِّعائهم النبوةَ مثل (البيانية) قديماً أو (البابية) التي تطوَّرتْ إلى (البهائية) حديثاً. وَقَدْ انفصلت فرقةٌ من هذه الدعوات ادَّعى أفرادُها الزُهْدَ في البدءِ، وهو زهدٌ فيه نوعٌ من التسامي على المادةِ يختلفُ بل يتناقضُ مع تسامي (جلجامش) تطوَّرَ فيما بَعْدُ إلى فكرةِ اتحادِ (الخَلْقِ بالحقِّ) أو العكس عند (ابن عربي), ووجد صورتَهُ الفرديةَ في اتحادِ (النوابغِ) المتسامين على الحياةِ مع الخالقِ على يد الغزالي ضمناً وتلميحاً وعند (الحلاج) تصريحاً وعلناً.
وفكرةُ الاتحادِ في جميعِ صورِهَا وأدوارِهَا غايتُهَا واحدةٌ وهي الخلاصُ من سلطانِ (آنو) الذي من أسماءِهِ القرآنيةِ (الواحدُ القهارُ) أو (المتكبِّرُ الجبَّارُ) وذلك بادِّعائِهَا صفاتِهِ أو انتحالِهَا من خلالِ التسامي.
إذَنْ هناكَ تسامي صوريٌّ مزيَّفٌ أفلاطونيُّ المفهومِ مفادُهُ إنَّ عليك أن تتسامى على المادَّةِ وتحتقِرَ الحياةَ من أجلِ أن تكونَ شبيهاً بالإلهِ وتتحرَّرَ من سلطتِهِ بحلولِهِ فيك وحلولِكَ فيه، وهو عينُ ما قالَهُ أفلاطونُ من أنَّ أشبَهَ الخَلْقِ بالآلهةِ هم الفلاسفةُ.
وبينَ هذه الاتجاهاتِ تقَعُ أشكالٌُ وصورٌ مختلفةٌ لتعظيمِ (الأنا) أو الذَّاتِ مقابلَ اللهِ، بينما تكْمِنُ فكرةُ (الدِّينِ) عند الرسُلِ والأنبياءِ في نوعٍ من التسامي مختلفٍ ومناقض لهذه الاتجاهاتِ، إذ ينطوي على ضرورةِ غيابِ الاختيارِ الذاتيِّ غياباً تاماً واختيارِ ما اختارَهُ اللهُ فقط، وبهذا وحدِهِ يحصِلُ التسامي الفعليُّ على الموجوداتِ.
ولأهميةِ هذه الفكرةِ سأوضِّحُهَا بصورةٍ مختصرةٍ جداً:
إذ ربَّمَا يتصوَّرُ المرءُ أنَّ غيابَ اختيارِهِ الذاتيِّ يعني فِقْدانَ حرِّيتِهِ في الاختيارِ، فالأمرُ معكوسٌ تماماً. ذلك لأنَّ الإنسانَ يبقى حُرَّاً في اختيارِهِ في كلِّ الأحوالِ، لكنَّ فِكْرةَ الدِّينِ تقولُ إنَّ قُدْرَتَكَ على الاختيارِ لا تعني قيامَكَ بتغييرِ خيارِ اللهِ!.
مثالُ ذلكَ: إنَّ اللهَ اختارَ لَكَ (لتكونَ مرتبطاً به) أشياءَ عديدةً، مثلاً إنَّهُ اختارَ لَكَ أنْ (تُصلِّي) أو (تَحُجَّ).. فإذا لم تفعلْ لم يسلِّطْ عليك قُوَّةً لإجبارِكَ على تِلْكَ الأفعالِ، فأنتَ حُرٌّ من هذه الجهةِ، ولكنَّ حرِّيتَكَ لا تَصِلُ إلى حَدِّ أن تقومَ بتغييرِ أوامرِ اللهِ وخياراتِهِ وتدَّعي أنَّها تِلْكَ الأشياءَ التي طلَبَهَا واختارَهَا فتقولُ مثلاً إنَّكَ إذا حَجَجْتَ لموضِعٍ آخرٍ غيرَ مكَّةَ فهو حَجٌّ وأنَّكَ إذا صلَّيتَ ثلاثَ مرَّاتٍ لا خمسَاً جَازَ ذلك، وإذا غَسَلْتَ يديكَ كيفما أتَّفَقَ فهو وضوءٌ بِحِجَّةِ أنَّ المطلوباتِ هنا قَدْ نفَّذْتَها على نحوٍ ما فإنَّ هذا من شأنِهِ أن يُلغيَ في النهايةِ اختيارَ اللهِ ويجعَلَكَ تختارُ بدلاً عنه! وهو أَمْرٌ لا يمكنُكَ أبداً أن تفعلَهُ مع المخلوقِ الذي هو مثلُكَ، وأيضاً لا يمكنُكَ أن تقومَ بذلك في ظلِّ الأوامرِ والتقاليدِ والأعرافِ السائدةِ في المجتمع، إذ لا يُجيزُ لك عقلُكَ ولا أيُّ كائنٍ آخرٍ أن تسلُبَ اختيارَ الآخرينَ وتجعلَهُ اختياراً لك!.
وإذن.. فالمَلِكُ الذي يعيِّنُهُ اللهُ هو جزْءٌ من تعاليمِهِ لا غير. فالناسُ أحرارٌ في أن يملِّكوهُ أو يزيحوه من المُلْكِ. وحينما يفرِضُ اللهُ عقاباً وثواباً على الأفعالِ فإنَّهُ إنَّما يَخبِرُ عن حقيقةٍ واقعةٍ نهائياً لا غيرَ.. فهذا العقابُ والثوابُ هو قانونٌ عامٌّ مشحونٌ به الكونُ بكلِّ موجوداتِهِ، فهو تعالى يَخبِرُكَ بما يؤولُ إليه اختيارُكَ في كلِّ حالةٍ.
إذن.. يَنْصَبُّ غضبُهُ خصوصاً على أولئكَ الذينَ يشوِّهونَ صورةَ هذا القانونِ في أذهانِ الناسِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ أشخاصٍ يدْعونَ الناسَ قائلين لهم: (اسرقوا فإنَّ القانونَ يُثيبُ السارقَ) أو (افعلوا كذا وكذا.. ففعلُكُم عليهِ مثوبةٌ) خلافاً للواقعِ، إذ الواقعُ القانونيُّ قَدْ شدَّدَ العقابَ على هكذا أفعالٍ. فهؤلاءِ يفعلونَ ثلاثةَ أشياءٍ في آنٍ واحدٍ هي أنَّهم: أولاً يكذبون على المَلِكِ الذي شرَّعَ القانونَ، وثانياً يُفسِدونَ المجتمعَ من خلالِ تضليلِ الناسِ عن القانونِ وثالثاً يَخرِجونَ عن طاعةِ المَلِكِ بالاستكبارِ عليه.
ويبدو أنَّ هذه الخصائصَ الثلاثةَ متلازمةٌ في النصِّ الدينيِّ وخصوصاً القرآنِ الكريمِ، إذ استخدَمَ هذه التعبيراتِ (يفترونَ على اللهِ الكَذِبَ ـ يُفسِدونَ في الأرضِ ـ يتكبَّرونَ في الأرضِ بغير الحقِّ) في وصفِ نفسِ المجموعةِ التي ذكرنا.
تُرى: ماذا يكونُ موقِفُ المَلِكِ المُشَرِّعِ من هؤلاءِ؟
بالطبعِ يعتبرُهُم من ألدِّ أعدائِهِ.. ذلك لأنَّهُم لم يكتفوا من حرِّيتِهِم بمعصيةِ الأوامرِ ومخالفةِ القانونِ بل تعدّى اختيارُهُم إلى القانونِ نفسِهِ فحاولوا تغييرَهُ. ومن هنا يتَّضِحُ أنَّ العلاقةَ مع اللهِ هي علاقةٌ دقيقةٌ جداً. فإنَّ المِرءَ إذا أدَّعى أيَّ شيءٍ من نفسِهِ خلافاً لِمَا ذَكَرَهُ اللهُ فقد أصبحَ من أعداءِهِ. فالخضوعُ له جلَّ وعلا هو الحالةُ الوحيدةُ التي يقبلُهَا، إنَّهُ تعالى لا يقبلُ مشورةً ولا نصيحةً ولا اعتراضاً ولا حتى مجرَّدِ التفكيرِ في مساوئِ قانونٍ وضَعَهُ هَوَ.
إذن.. فهذه العلاقةُ هي علاقةٌ وجوديةٌ قائمةٌ في كلِّ نفسٍ، إنها أشْبَهُ بالغرائزِ التي لا تحتاجُ إلى برهانٍ.
ومن هنا فإنَّ الفكرَ السياسيَّ لم ولن يتمكَّنْ من الخلاصِ منها، وإنَّمَا حاولَ ويحاولُ استبدالَهَا ببدائلَ أخرى أو تشويهَهَا أو الاحتيالَ عليها بشتَّى السُبُلِ ومنها ادِّعاءُ الصِّلَةِ بآنو (الإله) عن طريقِ رسولِهِ السماوي (أنليل) مثل ما جاءَ بذلك المَلِكُ (أتو هيكال) حيثُ ذَكَرَ أَحَدُ الألواحِ أنَّهُ (المَلِكُ الذي مَنَحَهُ أنليلُ القوَّةَ).
وبالطبعِ تتغيَّرُ الأسماءُ وتتغيَّرُ الصيغُ وبسرعةٍ كبيرةٍ مثلما يحدِثُ في كلِّ زمنٍ عندما تتغيَّرُ نظرةُ المجتمعاتِ للدِّينِ. فالمجتمعُ تؤثِّرُ عليه العواملُ الاقتصاديةُ، فعندَ الرفاهِ الاجتماعي ينسى طروحاتَهُ الدينيةَ وتخدعُهُ الحياةُ لفترةٍ قبل حدوثِ التقلُّباتِ. فالملوكُ يحاولونَ تحويلَ المجتمعِ في هذه الإعاقات إلى الطُرُقِ الماديةِ ويتغيَّرُ التنظيرُ بسرعةٍ، وبدلاً من أن يكونَ (اللهُ) هو الذي اختارَ المَلِكَ أو السلطانَ أو الرئيسَ تتحوَّلُ الفكرةُ وخلالَ عَقْدٍ واحدٍ من الزمنِ لا غيرَ إلى أنَّ (الحياةَ) أو (الضرورةَ الاجتماعيةَ) أو (الأمَّةَ) هي التي اختارتْ المَلِكَ. وهي اصطلاحاتٌ مثلُ غيرِهَا يختارُهَا النظامُ السياسيُّ بالشكلِ الذي يلائم به بينَهُ وبين توجهاتِ المجتمعِ.
وإذا كانت عشتارُ العدوَّةُ لجلجامشَ المَلِكَ ليست فردةَ حذاءٍ تؤذي منتعلَهَا فأنَّها في عَهْدِ (آشور بانيبال) على العكسِ من ذلك.. فهي آنئذٍ مصدرُ الحُكْمِ لهذا المَلِكِ حيث قَالَ:
(أوه يا عشتارُ يا محضيةُ الآلهةِ العظيمةِ أنتِ اخترتني بنظرةٍ من عينيكِ…!)
ـ برج بابل ـ بارو/75.
وَقَدْ يحدِثُ اشتراكٌ بين الطرفين في ظروفٍ أخرى. فإنَّ (أوتو هيكال) لم يُنَصِّبْهُ أنليلُ ويمنحُهُ القوَّةَ وحدَهُ، بل قامت (أنانا) ـ وهو اسمُ عشتارَ الأسبقُ حسب الشُرَّاحِ ـ بالمشاركةِ حيثُ (اختارته أنانا في قلبها)!/ الفكر السياسي في العراق القديم/ عبد الرضا الطعان.
عبثاً إذن يحاولُ الباحثونَ إيجادَ نمطٍ محدَّدٍ لعلاقةِ الملوكِ بالسماءِ ورمزِهَا والأرضِ وأربابِهَا، فهي عرضةٌ للتغيُّرِ في النظامِ السياسيِّ الواحدِ فضلاً عن الأنظمةِ المتعدِّدةِ لقرونٍ طويلةٍ. وهذا هو الذي جَعَلَهُم يغيِّرونَ صلاحياتِ (الآلهةِ) المزعومةِ في كلِّ دورٍ.. فالأخطاءُ هنا مركَّبةٌ ومتراكبةٌ بعضُها فوقَ بعضٍ: من أخطاءِ الترجمةِ وغموضِ الألفاظِ إلى تصوُّرِ المرموزاتِ آلهةً إلى اعتبارِ القِطَعِ النثريةِ النقديةِ أساطيرَ وهميَّةً إلى ضِعْفِ وهشاشةِ النظرةِ إلى طبيعةِ الأنظمةِ السياسيةِ وعلاقاتِهَا بالمجتمعاتِ وبالأديانِ وبما يخامرُ النفوسَ.
إنَّ إعلانَ آشور بانيبال عن مصدرِ سلطتِهِ يوضِّحُ في الواقع أخلاقيتَهُ، فإنَّ صفتَهُ الدمويَّةَ في الحروبِ تتلاءمُ تماماً مع صِفَةِ ثورِ عشتارَ في ملحمةِ جلجامشَ. ويمكنُ للباحثِ النبيهِ معرفةُ سلوكِ المَلِكِ وطريقَتِهِ في الحُكْمِ من مجرَّدِ التأكدِ من أوَّلِ سَطْرٍ يُنْبِأُ عن مصدرِ سلطتِهِ ومدى صحَّتِهِ مع الواقعِ. ومن المعلومِ الذي لا مُراءَ فيه أنَّ الأسماءَ تتغيَّرُ والصيغُ تتغيَّرُ وإنْ كانت المفاهيمُ واحدةً، فليس صحيحاً القولُ أنَّ (آنو لم يستطعْ أن يبقى مهيمناً على جميعِ الآلهةِ إذ توجَّبَ في المرحلةِ البابليةِ أن يعلو إلهَ بابل علو مدينة بابل على سائر المدن)/ (الفكر السياسي- 387)، بل لأنَّ الأسماءَ تتغيَّرُ والمفاهيمُ هي المفاهيمُ نفسُهَا فالذي حَلَّ مَحَلَّ (آنو) هو (مردوك ـ مردوخ) الذي نفسِّرُهُ بـ (الروحِ الأعظمِ) وهو حسب التعبيرِ الروائيِّ الإسلامي (مَلِكٌ أعظمُ من جبريل). وكان ذلك بديلاً لأنليلَ، وكانت تلك في الواقعِ محاولةً أخرى للخلاصِ من اختيارِ (آنو) للملوكِ. وَقَدْ أكَّدَ الأستاذُ المؤلِّفُ بنفسِهِ هذه النتيجةَ وإنْ لم يلتفتْ لها حينما قَالَ: (وأصبح ـ أي آنو ـ نادراً ما يُذْكَرُ في تراتيلِ العصورِ المتأخرةِ وأساطيرها حيثُ أُعطيَتْ معظمُ سلطاتِهِ لآلهةٍ آخرين (مرموزات وقوىً كونيةٍ لا إله) على رأسِهِم أنليل إله العاصفة!)/الفكر السياسي ـ 378.
إذن فقد بقيَ أنليلُ يأخِذُ صلاحياتِ (آنو) لأنَّهُ رسولَهُ وانحسرت أعمالُهُ لتخصَّ أعمالَ التعذيبِ الذي يُلقيهِ على الأممِ، وتحديدُهَا بالعواصفِ هو تحديدٌ زمنيٌّ لا يعكسُ نظرةَ العراقيِّ القديمِ له مطلقاً، إنما هو تحديدٌ زمنيٌّ مرتبطٌ بحدوثِ عذابٍ من هذا النوعِ في تلك الفترةِ:

(وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ)
(الحاقة: 6ـ8)
معلومٌ أنَّ الذي فَتَحَ هذه الريحَ العاتيةَ في الدين الإسلامي هو جبريلُ تحديداً لا أيُّ ملِكٍ آخر.
قَالَ محمدٌّ بن عليٍّ الباقرُ (ع) في تفسيرِ (عاتيةٍ): (هي ريحٌ عقيمٌ تخرجُ من تحتِ سبعِ أرضين وما خَرَجَتْ ألاَّ على قومِ عادٍ حين غَضبَ اللهُ عليهم فأَمَرَ الخُزَّانَ أن يُخرجوا منها على قَدَرِ سِعَةِ الخاتمِ فعَتَتْ عليهم وضجُّوا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ذلك وقالوا يا ربَّنا إنَّها عَتَتْ علينا ونخافُ أن تَهْلِكَ من لم يعصِكَ من خلْقِكَ ويعمر بلادَك، فَبَعَثَ اللهُ عزَّ وجلَّ إليها جبرائيلُ فاستقبلَهَا بجناحِهِ وأَمَرَهَا أن تخرج على قدر ما أُمِرَتْ…) تفسير علي أبن إبراهيم عن البرهان ـ 375.
كيف يمكن أن يتَّخِذَ العراقيُّ القديمُ كائناً مدمِّراً بالعواصف إلهاً يقدِّسُه؟.. هذا سؤالٌ حيَّرَ الباحثين ولم يستطعْ الأستاذُ (كريمر) الإجابةَ عليه إذ قَالَ (إنَّ الأسبابَ التي أدَّتْ إلى اتِّخاذ أو (قبول) ـ أنليل إلهاً في المجتمعِ السومريِّ غيرُ معروفةٍ) ـ نقلاً عن الفكر السياسي/379.
وهذا الجوابُ متوقَّعٌ حينما يُنْظَرُ إليه باعتبارِهِ كائناً أسطورياً لا يقومُ إلاَّ بالتدميرِ مستخدِمَاً العواصفَ غيرَ رابطٍ بين أفعالِهِ جميعاً على مختلفِ العصور.
فهو منشأُ الخَصْبِ وظهورِ البركات أيضاً، بل هو معلِّمُ الإنسانِ باعتباره (الوحي) الإلهي. فقد زَخَرَ المأثورُ الدينيُّ الإسلاميُّ بذِكْرِ تعاليمِ جبريلَ للخَلْقِ منذ عَهْدِ آدمَ حيثما وَجَدَهُم يتلكَّئون في المعرفةِ وفي سَبْرِ أغوارِ الطبيعةِ المجهولةِ، فهو الذي علَّمَ آدمَ بناءَ الدَّارِ وزَرْعَ النخلةِ، وجاء له بأنواعٍ من ثمارِ الجنَّةِ ليزرعَهَا في الأرضِ وعلَّمَهُ السقيَ… إلخ. وَقَدْ لخَّصَ القرآنُ ذلك بقوله:
(عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:5)
وهكذا نَجِدُ أنليلَ له أفعالٌ مشابهةٌ في بعض الأدوارِ كما في النصِّ السومري:
(أنليلُ الذي يَصِلُ أمرُهُ إلى أبعدِ مكانٍ. ومن كلمته المقدسة الرب الذي لا يبدِّلُ كلامَهُ والذي يقدِّرُ المصائرُ..) نفس المصدر أعلاه ـ 372.
وفي نصِّ آخرٍ: (أنت الأكثرُ تمجيداً بين كبار الآلهةِ… وأمرُكَ هو أمرُ آنو..) نفس المصدر ـ 347.
فلو أبْدَلْتَ مفردةَ (آلهة) بمفردةِ (ملائكةٍ) لكانَ النصُّ لا يختلفُ بشيءٍ عن المأثورِ الدينيِّ التوحيدي. ومعلومٌ أنَّ (آلهةً) مفردةٌ مترجمةٌ بصورةٍ اعتباطيةٍ تماماً إذ لم يفرِّقوا بينها وبين الألفاظ (رب ـ ملك ـ ملاك ـ مقدَّس …الخ) حيث اعتبِرَتْ كلُّها مترادفات. وهكذا اتَّخذَ بعضُ الملوكِ منحوتاتٍ وصوراً وقصائدَ تمجِّدُ أنليلَ باعتبارِه الوحي الإلهي الذي مَنَحَهُم السلطةَ.
وعلى ذلك نَجِدُ قولَ الباحث (أنَّ سلطةَ هذا الإلهِ كانت تتَّسِمُ بالديمقرطية البدائية) يعني قبل تحوِّلِهِ إلى إلهٍ عنيفٍ مدمِّرٍ.. نَجِدُ هذا الكلامَ لا ينطوي على شيءٍ من البحثِ الجادِّ بشأن خصائص أنليلَ.
فالوحيُ الإلهيُّ هو مصدرُ الحُكْمِ:
آه أنليلُ
عندما خلقت السمواتُ والأرضُ كنت أنت الملكُ
أنت الذي تلفظ اسم الملك واسم الحاكم
من نفس المصدر ـ 68.
أما بقيَّةُ الترجمةِ فتتناقضُ مع هذه السطور، إذ نَسَبَ إليه خَلْقُ الآلهةِ الأخرى!!.
ومعلوم أنَّها قوىً أو مرموزاتٌ لا آلهةٌ.
تتوجّبُ إذن إعادةُ النظرِ بسقوط (أور) وأسبابِهِ. فالوصفُ المشارُ إليه والسابقُ على هذا السقوط بيد العيلاميين يشيرُ إلى وقوعِ كارثةٍ من ريحٍ مدمرةٍ فيها نارٌ كانت هي السببَ في سيطرة العيلاميين على أور، وليس هذا هو وصفاً للمحتلِّين أنفسِهِم كما ذكر الباحثون. وأضَعُ الآن بين يدي القارئ هذا الوصفَ ليعلَمَ أنَّ المهزومَ مهما كانت درجةُ هزيمتِهِ لا يَصِفُ المُحتلَّ بهذه الأوصافِ، وإنما يصِفُهُ بالهمجيةِ مثلاً أو الاعتداءِ على الأعراضِ وانتهاكِ المحارِمِ وإحراقِ الزروعِ.. الخ. أما الوصفُ المذكورُ فأنَّهُ يتحدَّثُ عن قوَّةٍ طبيعيةٍ مدمِّرةٍ:
دعا أنليلُ العاصفةَ والناسُ تنوحُ (أو والشعبُ ينوحُ)

دعا رياحاً شديدةً والناسُ تنوحُ

وعهد بها إلى (كنكا لود)

دعا العاصفة التي ستفني الأرضَ والناس تنوحُ

ودعا رياحاً مدمرات والناسُ تنوحُ

ودعا زوبعةَ السماء والناسُ تنوحُ

الزوبعةُ المُعميةُ الزاحفةُ عِبْرَ السمواتِ

والناسُ تنوحُ

والعاصفةَ المُحَطِّمةَ الهادرةَ عِبْرَ الأرضِ (
لاحظ عبارة "عبر الأرض")
والناسُ تنوحُ

والإعصارَ الظالِمَ المنقضَّ كالطوفانِ

على مراكبِ المدينةِ ليلتهِمَهَا

هذه كلُّها حَشَدَهَا عِنْدَ قاعدةِ السماءِ

والناسُ تنوحُ

وأشعلَ نيراناً عظيمةً رُسُلاً للعاصفة والناسُ تنوحُ

وأشعلَ من الميمنةِ والميسرةِ من الرياحِ العاتيةِ

هجيرةَ الصحراءِ اللاهبةِ وحريقُهَا مثلُ لَهَبِ الظهيرةِ

لا يمكنُ أن يكونَ العراقيُّ القديمُ ساذجاً إلى هذا الحدِّ فينوحُ نواحاً مستمراً لولا أنَّ الكارثةَ كانت كارثةً من الطبيعةِ لا قِبَلَ له بردِّهَا.. فلماذا ينوحُ الشعبُ؟ فإنْ كان رافضاً للاحتلالِ فعليه القتالُ لا النواحُ وإنْ كان متخاذلاً لا يرغبُ فيجب عليه التظاهُرَ بالفرحِ وقبولِ المحتلِّ ليغطِّي على تخاذلِهِ.. أما النواحُ المستمرُّ فهو وضعٌ شاذٌّ لا يمكنُ أن يقصدَهُ الكاتبُ لو لم تكن ثمة عاصفةٌ بالفعلِ ورياحٌ عاتيةٌ وصفها القرآنُ في موضعٍ آخرٍ بقوله تعالى:
(وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ. مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)
(الذريات: 41ـ42)
إذن فقولُ الباحثِ:
(عندما هَجَمَتْ الجحافلُ العيلاميةُ على أور وفَتَكَتْ بها وَجَدَ العراقيُّ فيها ضرباتِ العاصفةِ التي يتجسَّدُ عبرها أنليلُ إلهُ العواصف)
هذا الوصفُ ليس صحيحاً مع كثرةِ النواحِ، وهي العبارةُ المتكرِّرةُ في النصِّ والتي أرادَ الكاتبُ من خلالها التأكيدَ على أنَّ الشعبَ لا يمكنه فعلُ شيء تجاه الكارثةِ سوى النواح.
وكذلك فعل أنليلُ في ملحمةِ جلجامشَ فهو بطلُ الطوفانِ وهو فاعِلُهُ الأوَّلُ. ولقد عبَّرَ القرآنُ دوماً بصيغةِ جمع المتكلمين للإشارة إلى القوى المنفِّذَةِ من الملائكةِ:
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)
(القمر:11ـ12)
واصطنعَ الكاتبُ حواراً بين الزمنِ وبين جبرائيل (ع)، فهل حركةُ الزمنِ هي التي فَعَلَت الطوفانَ أم هو جبرائيلُ بأمرٍ ألهيٍّ خارجٍ عن النظامِ الكوني المعهود؟
ثمة فرقٍ حينما يكون الزمنُ هو الفاعلُ، إذ معنى ذلك أنَّ الطوفانَ محتومُ الوقوعِ! لأنَّ الزمنَ عبارةٌ عن حركةٍ للأفلاكِ وتطوِّرِ في حركةِ الأشياءِ التابعةِ.. فإذا كان الفاعلُ هو الزمنَ فلا مسؤوليةَ على الإنسانِ جِراءَ وقوعِ كارثةِ الطوفان!
بينما يختلفُ الأمرُ حينما يكونُ الفاعلُ هو الوحيُّ الإلهيُّ. فهذا الوحيُّ لا يفعلُ شيئاً من تلقاءِ نفسِهِ وإنَّما بأمرِ اللهِ الحكيمِ وبالتالي يكون الإنسانُ هو المسئولُ عن الطوفانِ، لأنَّهُ لم يطعِ اللهَ وحاول بأنانيتِهِ الخروجَ من الحياةِ الحقيقيةِ، فمصيرُهُ الموتُ والدَّمارُ وفْقَ قانونِ الحياةِ نفسِهِ. فكيف انتهى الحوارُ؟ انتهى بأنْ قامَ الزمنُ (أيا) بتبرئةِ نفسِهِ من هذه التُهْمَةِ!. ومن جهةٍ أخرى لامَ أنليلُ على شدَّتِهِ مع الخَلْقِ وقدَّمَ بدائلَ مقترحَةً للطوفان، وهي بالطبعِ بدائلُهُ هو والتي لا يعرِفُ سواهَا باعتبارِهِ زمناً. فقالَ مخاطباً أنليلَ:
كيف لم تتروَّ فأحدثْتَ عُبابَ الطُوفان؟
حَمِّلْ المخطئُ وِزْرَ خطيئَتِهِ
وحمِّلْ المعتديَّ إثمَ اعتداءِهِ
ولكنْ أرحمْ لئلا يَهْلِكَ
وتشدَّدْ لئلا يمعنَ في الشرِّ
وراح (أيا) يَسْرِدُ البدائلَ الممكنةَ للطوفانِ، وهي بدائلُهُ الخاصَّةُ بِهِ:
لو أنَّكَ بدلاً من الطوفان
سلَّطْتَ السباعَ على الناسِ فقلَّلْتَ من عدَدِهِم
ولو أنَّكَ بدلاً من الطوفان
سلَّطْتَ الذئابَ فقلَّلْتَ من عدَدِهِم
وبدلاً من الطوفانِ لو أنَّكَ أحلَلْتَ القُحْطَ في البلاد
وبدلاً من الطوفانِ لو أنَّ (إيرا) فَتَكَ بالناسِ
إنَّ الزمنُ هو المسئولُ عن سيْرِ الوقائعِ الطبيعيةِ، إذ هو ظرفُ وجودِهَا وتلاحُقِهَا، فهو يقترحُ على أنليلَ أن يستخدمَهُ بصفةٍ خاصَّةٍ لتقليلِ الأعدادِ ومعاقبةِ الخَلْقِ عن طريقِ القُحْطِ والأوبئةِ وتسليطِ (الذئابِ والسباعِ) والتي يُحْتَمَلُ جداً أنْ تكون رموزاً للفِتَنِ الداخليةِ التي يقودُهَا أشخاصٌ متوحِّشونَ توحُّشَ الذئبِ والسَّبْعِ، إذ لا يُعقلُ أن تُسيطرَ على الإنسانِ وتُهلكَ أعداداً غفيرةً منه فهو تصوُّرٌ لم يقعْ وما وَقَعَ سابقاً ولاحقاً، وإَّنَما هو رمزٌ يلائمُ الثورَ الوحشيَّ ويلائمُ ما ذَكَرَهُ النصُّ من مسخٍ للراعي الذي تحوَّلَ إلى ذئبٍ يُهلِكُ قطيعَهُ بذبحِ أفرادِهِ كلَّ يومٍ لإرضاءِ عشتارَ.. الراعي الذي كانَ وما زالَ رمزاً بل اسماً صريحاً لصاحِبِ السلطانِ (انظر قصيدةَ "الراعي" للجواهري، وغيرُهَا كثيرٌ كمصطلح "الراعي والرعية" المشهورِ وهو عنوانُ كتابٍ عن عهودِ الإمام علي عليه السلام للوُلاة).
إذن فالزمنُ يقترحُ على أنليلَ أن يترِكَهُ يعاقِبَ الخَلْقَ بما أودعَهُ (آنو) فيه من سُنَنٍ عاملةٍ ذاتياً في العقابِ والثوابِ، ذلك أنَّ المجتمعاتِ إذا انحرَفَتْ تناحَرَتْ وَظَهَرَتْ فيها الفاقةُ وعمَّ البلاءُ وحدثتِ المجاعاتُ وأكَلَتْ الذئابُ والسِّباعُ من طبقاتِ المستغلِّينَ وأتباعِ السلطانِ قسماً من الناسِ.
إذن.. فالملحمةُ تؤكِّدُ من هذه الجهةِ أنَّ الطوفان لم يحدث من خلال السُننِ الطبيعيةِ العاديةِ ولم يكنْ من جملةِ القوانينِ التي شُحَِنَِ بها الزمانُ، إنَّه استثناءٌ قامَ به أنليلُ في عمليةِ إبادةٍ جماعيةٍ انتقاميةٍ.
إذن.. فالملحمةُ هي التي تُسَفِّهُ الرأيَّ أو الآراءَ الزاعمةَ أنَّ الطوفانَ قَدْ حَدَثَ بسببِ غزارةِ الأمطارِ تارةً، وتارة بسببِ فيضانِ النهرينِ ممَّا يتنافى مع أقوالِ الزاعمينَ كلِّها بشأنِ مناسيبِ الأمطارِ في وادي الرافدين ممَّا يُعَدُّ في الحقيقةِ مسخرةً من مساخرِ هذا الزمنِ في تفسيرِ الآثارِ القديمةِ ووقائعِها ممَّا يأتيكَ بيانُهُ في آخرِ فَصْلٍ من هذا الكتابِ تحتَ عنوان (أسطورةُ الطوفانِ أم الطوفانُ الأسطورةُ).
لما كان (أيا) هو الزمنُ فهو إذن الأقدرُ في هذا الوجودِ على معرفةِ أسرارِ المستقبلِ، إذ المستقبلُ جزءٌ من الزمنِ. فالزمنُ إذ يَنْطِقُ يكونُ شخصاً متكلِّماً في الملحمةِ، فهو واحدٌ لا يتجزَّأُ، ولذلك فإنَّ (أيا) يمتلكُ أسرارَ الوقائعِ والحوادثِ وما يكونُ في المستقبلِ.
وإذا كان (أيا) قَدْ أنْكَرَ أنْ يكونَ هو المسببُ للطوفانِ فَمِنَ المؤكَّدِ أنَّ ذلك لا يعني أنَّه لا يعلمُ سرُّ الطوفانِ أو أنَّهُ فوجئ به. كيف؟‍! وهو الزمانُ الذي ينطوي على كلِّ الوقائعِ. فَمِنْ أينَ عَلِمَ وقوعَِ الطوفانِ إذا لم يكنْ ثمَّة شيءٌ من قوانينِ الطبيعةِ يؤدِّي إلى وقوعِهِ؟.. لَقَدْ عَلِمَ به من خلالِ نفسِهِ فقط من حيثُ هو زمانٌ، ومع ذلك فإنَّهُ كَتَمَ هذا السرَّ، ولم يفشِ سرَّ الإلهِ لأحدٍ من الخَلْقِ إلاَّ لـ (نوحٍ "ع")، وبطريقةٍ محدَّدَةٍ تستلزمُ أخبارَهُ بِهِ بحيثُ استطاعَ نوحٌ نفسُهُ أن يستخدِمَها لكشفِ ما يأتي به الزمنُ من خلالِ الرؤيا، وهكذا برَّأَ الزمنُ نفسَهِ من جميعِ التُهَمِ الممكنِ أن توجَّهُ إليه:
أما أنا فلم أفشِ سرَّ (الآلهةِ) العظامِ
ولكنِّي جَعَلْتُ أتراحاسس يرى رؤيا
فأدْرَكَ سرَّ (الآلهةِ)
وتدبَّرَ أمرَهُ وقرَّرَ مصيرَهُ

صورة رمزية إفتراضية للعضو علي العذاري
علي العذاري
انتقل لرحمة الله
°°°
افتراضي
وهكذا تمكَّنَ الكاتبُ وبطريقةٍ فذَّةٍ من تفسيرِ العلاقةِ بين القضاءِ والقَدَرِ. فالطوفانُ (قَدَرٌ) محتومٌ زماناً إلاَّ أن قضاءَهُ (أي إصدارَ الأمرِ بحدوثِهِ) لم يكنْ خاضعاً لقوانينِ الطبيعةِ المعروفةِ، فهو بقانونٍ آخرٍ فوقيٍّ وإلهيٍّ لا يدركُهُ حتى الزمنُ نفسُهُ لكنَّه يدْرِكُ وقوعَهُ فقط، ومع ذلك تمكَّنَ إنسانٌ واحدٌ من البَشَرِ أن يعلَمَ هذا السرَّ فيصنَعَ سفينةً لينجو بها وبإشارةٍ من الزمنِ!، لأنَّ هذا الرجلَ هو (أتراحاسس) وهو أسمٌ آخرٌ لـ(أوتو نوبشتم) مشتقٌّ من شدَّةِ الإحساسِ. وهل يمكنُ أن يعطي (أيا) إشارةً لمن لا يحسُّ؟. فالعديمُ الإحساسِ لا يفهَمُ الإشارةَ وذو الإحساسِ هو الذي يفهَمُ الإشارةَ وهو وحدُهُ الجديرُ بالبقاءِ والخلودِ. فالآخرون أكثرُ شراً من البهائم:
(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)
(الفرقان:44)
وبالطبعِ يتوهَّمُ الشُرَّاحُ حينما يحاولون تفسيرَ الانتقالِ في وظيفةِ الآلهةِ المزعومةِ مثل (أيا) إلى ما يبدو عندَهُمْ متناقضاً. فَقَدْ وَرَدَ في كتابِ (الأساطير في بلاد ما بين النهرين ـ 58) أنَّ (أيا) هو إلهُ الطبابةِ والتعاويذِ، وذلك في مقطوعةٍ ترجَمَهَا (سبايزر) وأوردها (هوك) لأنَّهُ وَجَدَها تتحدَّثُ عن دودةِ تسوِّسِ الأسنانِ التي جَرَتْ دموعُهَا أمام (أيا) ليسمَحَ بإعطائها غذاءً أفضل!.
فما العلاقةُ بين شكوى الدودةِ والطبابةِ؟، إذ المفروضُ أنَّ المشتكي لإلهِ الطبابةِ هو صاحبُ الأسنانِ لا الدودةُ!
لَقَدْ رَبَطَ النصُّ كما هو واضحٌ الآنَ بين ما تقومُ به الدودةُ وبين الزمنِ من حيثُ أنَّها تسكِنُ الأسنانَ. والأسنانُ إنَّما هي عُمُرُ الإنسانِ، وفي العربية فإنَّ (السِنَّ) لفظُ يُرادُ به عَدَدَ سِنيِّ العُمِرِ. فالمقطوعةُ تفسِّرُ معيشةَ هذه الدودةِ، فكأنَّ الزمنَ هو المسئولُ عن طعامِهَا، إذ أعطاها ما يخصُّهُ ومن أفضل ما يكونُ من الناحية الزمنية، لأنَّهُ اقترحَ عليها (التينَ الناضِجَ) و(المشمشَ) فقالَتْ:
وما فائدةُ التينِ الناضجِ والمشمشِ؟
ارفعني إلى الأعلى واجعَلْني بَيْنَ الأسنانِ
واجعلْ مَسْكني اللثَّةَ لأمتصَّ دَمَ الإنسانِ
وأَقرِضَ اللثَّةَ وعروقَهَا ـ أغْرِزَ الدبّوس َوأمسِكَ قدمَهَا
إذن هذه ليست تعويذةً كما توهَّمَ هوك وليس (أيا) إلهاً للطبابةِ كما زعم، إنَّمَا هو وصفٌ طبيٌّ لطريقةِ عَمَلِ دودةِ التسوُّسِ انتهى كما هو واضحٌ بإعطاء تعليمٍ للطبيبِ (بحفر السِنِّ المنخورِ) وذلك بأن يغرِزَ المِثْقَبِ ويمسكَ بقدمِهَا (أي من الجَذْرِ)، ثم يَضَعَ حشوةً في الحفرةِ، وإنَّ العمليةَ تحتاجُ إلى قوَّةٍ في ساعدي الطبيب وهما أيضاً من صنع الزمن (خبرة الطبيب) فانتهى النصُّ بعبارةٍ واضحةٍ هي:
لأنَّكِ قُلْتِ ذلك أيَّتُهَا الدودةُ
فليضربْكِ إذن (أيا) بقوَّةِ يدي!
لَقَدْ زَعَمَ هوك إنَّها أسطورةٌ وتعويذةٌ بالرغمِ من اعترافِهِ أنَّ العبارةَ (أغرز الدبوس) هي (تعليماتٌ أُعطيَتْ إلى طبيبِ الأسنان!).
لَقَدْ حَدَثَ خَلْطٌ كبيرٌ بين وظائفِ هذه المرموزات حينما أطلقَ عليها الباحثون صفةَ الألوهيةِ. فبينما يكونُ أنليل السالفُ الذكر إلهاً للعواصفِ والأعاصيرِ كان (أدد) هو الآخرُ إلهاً (للرعودِ والبروقِ والزوابعِ) حسب طه باقر ـ 156 أو (إلهَ الجوِّ والرياحِ والأمطارِ) حسب طه في الصفحة ـ 230 من الملحمة.
كذلك اختلطتْ عشتارُ كآلهةٍ للحربِ و(ننورتا) كآلهةٍ للحربِ والصيدِ أو بين عشتارَ وهي آلهةَ (الولادةِ) وبين (ننتو) كآلهةٍ للولادةِ ممَّا استدعى اعتبارها اسماً من أسماءِ عشتارَ!. وحَدَثَ ذلك أيضاً بين (الأكيكي) كمجموعةِ آلهةٍ أرضيةٍ و(الأنوناكي) كآلهةٍ للسماء أو العكس (الأكيكي) آلهةً للسماءِ أحياناً بدلاً من الأرضِ كما في ترجمة باقر الآنفة في الصفحة ـ 219.
فهذا الخليطُ الغيرُ متجانسٍ والمتناقضُ الوظائفِ للآلهةِ المزعومةِ ما هو إلاَّ صدىً للترجماتِ والأفكارِ العشوائيةِ المُسبقةِ في تفسيرِهَا.
فأين هي الخصوبةُ من الحربِ حينما يقول (كونتينو) أنَّ(ننورتا) كان في العَصرِ السومريِّ إلهاً للخصوبةِ بَيْدَ أنَّهُ أصبحَ في العصْرِ الآشوري إلهاً للمعارك؟ وكيف يَتِمُّ تحويلُ مجرى وظيفةِ الإلهِ بهذا الطريقِ المُخالِفِ للمنطقِ واللغةِ؟.
فبينما كانَ إلهاً للمعاركِ نَجِدَهُ في نفسِ الفترةِ يتحكَّمُ بالفيضانِ السنويِّ للنهرينِ ولَهُ زوجاتٌ تفيدُ (تنوِّعَ صفاتِهِ بحيثُ أنَّهنَّ لا يراقِبْنَ صحَّةَ الإنسانِ وشفاءَ سُقْمِهِ، بل في مناسباتٍ أخرى يُقِمْنَ بإنزالِ الموتِ بالإنسانِ)/ العراق القديم ـ 418.
فأيُّ تخليطٍ وأيَّةُ نتائجٍ عجيبةٍ تمخَّضَتْ عنها دراساتُ الباحثينَ لآلهةِ العراقَ القديم؟.
الواقعُ لم يكن شيءٌ في ذِهْنِ العراقيِّ القديمِ مما يقولُهُ الباحثونَ، فإنَّ (ننورّتا) هو لفظٌ يُرادُ به الرمزُ للحقِّ من حيثُ كونِهِ نوراً محضاً. ومن هنا تصبحُ الوقائعُ المقدَّرَةُ جزءً من حتميةِ العلاقاتِ الوجوديةِ في الطبيعةِ. فالشفاءُ والموتُ كلاهُمَا من سنخٍ واحدٍ، ومن منبعٍ مشتركٍ هو الحقُّ والعدلُ وإنْ تناقَضَ الشفاءُ مع الموتِ، ألسْنَا نقولُ الآن: (إنَّ الموتَ حقٌ)؟. وهذه هي فلسفةُ العراقيِّ القديمِ.. لَقَدْ كَشَفَ فيها عن طبقاتِ التناقُضِ الذي تقومُ عليه حركةُ الموجوداتِ والمجتمعاتِ بقوانينَ سَبَقَ بها الديالكتيكَ الهيجليَّ بآلافِ السنين.
وحينما تتغيَّرُ الرسومُ الرامزةُ لتلكَ القوى، أو حينما يؤكِّدُ ملوكٌ معيَّنينَ على بعضِهَا دونَ بعضٍ، أو حينما يحْصِلُ تغيُّرٌ اجتماعيٌّ يستلزمُ التأكيدَ على جانبٍ دون آخرٍ لمختلفِ الغاياتِ السياسيةِ والاجتماعيةِ فلا يعني ذلك أنَّها كانت آلهةً معبودةً مثلما لا يعني أنَّ وظائفَهَا قَدْ تبدَّلَتْ.



الفَصْلُ الثَالِثُ
قِرَاءَةٌ جَدِيْدَةٌ
في اللَّوْحَيْنِ التَّاسِعِ
والحَادِي عَشَر


رِحْلَةُ ذي القرْنَينِ في القُرآنِ
الغايةُ من هذِهِ القراءةِ هي إثباتُ وحدةِ الشخصيَّتينِ: جلجامشَ وذي القرْنَينِ المذكورِ في القرآنِ الكريمِ من خلالِ أوجهِ التشابهِ بينهما، وهي أوْجِهٌ كثيرةٌ جداً.
ولكن هذا الإثباتَ يعتمِدُ بالدرجةِ الأولى على قراءةٍ جديدةٍ أيضاً للنصِّ القرآنيِّ. فَقَدْ عَرَفْنَا من التمهيدِ السابقِ في الفصلينِ الماضيينِ أشياءً كثيرةً عن شخصيَّةِ جلجامشَ من خلالِ رؤيةٍ عامَّةٍ للملحمةِ ورموزِهَا، ولاحَظْنَا كَذلِكَ فضائيةَ الرِحْلَةِ التي قامَ بها بصورةٍ عامةٍ.
والآنَ سوفَ نُحاوِلُ إيجادَ الوشائجِ الأهَمِّ بَيْنَ الشخصيتينِ، وإثباتَ فضائيةِ الرِحْلَةِ من خلالِ قراءَتِنَا للوحِ التاسعِ، أي من خلالِ رِحْلَةِ أوتو ـ نوبشتم القاصي. ولذلك نحتاجُ أولاً إلى تمهيدٍ عن ذي القرْنَينِ القرآنيِّ وفْقَ الحلولِ اللغويةِ الجديدةِ.
فَقَدْ يبدو لنا أنَّ شخصيَّةَ ذي القرْنَينِ لم تكن الناسُ تَعْرِفُ عَنْهَا شيئاً عِنْدَ نزولِ القرآنِ سوى الاسمِ فَقَطْ. وهو أَمْرٌ كثيراً ما يَحْدِثُ في التُراثِ الشعبيِّ للأممِ، حيثُ تبقى لديها أسماءٌ عالقةٌ في الذاكرةِ وفي الأمثالِ، ولكنها تجهلُ عَنْهُ كلَّ شيءٍ تقريباً. وتؤكِّدُ ذلكَ الصيغةُ التي وَرَدَتْ في افتتاحِ القِصَّةِ:
(وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) (الكهف:83)
فهذهِ الصيغةُ (ويَسْأَلونَكَ) المبدوءةُ بالواو استُخْدِمَتْ في القرآنِ الكريمِ دوماً للأسئلةِ الحقيقيَّةِ غَيْرِ الإنكاريةِ، أي أنَّهُمْ كانوا يسألونَ فعلاً عن معلوماتٍ عن الشخصيَّة أو الأشياءِ. فمن أمثلَتِها: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ) (البقرة: من الآية189)، (ويَسْأَلونَكَ عَنِ المَحيضِ…) (البقرة: من الآية222)..الخ. فأَجابَ القرآنُ عن تِلْكَ الأسئلةِ بإجاباتٍ مُحدَّدةٍ وواضحةٍ في تراكيبِهَا اللغويةِ. ولكنَّ الغريبَ حقَّاً أنَّ إجاباتِ القرآنِ عن ذي القرْنَينِ ظلَّتْ مُبْهَمَةٌ جداً إلى حَدِّ كتابةِ هذِهِ السطور. فَقَدْ تميَّزَتْ القِصَّةُ المذكورةُ باستخدامِ ألفاظٍ شديدةِ الغرابةِ وبسياقٍ عجيبٍ عَدَّهُ علماءُ التفسيرِ من مُعضَلاتِ القرآنِ.
وَقَدْ أشارَ أَحَدُ علماءِ التفسيرِ المُحْدَثينَالعضو العزيز...شكر صاحب الموضوع للجهد الذي يقوم به لخدمة اهل العلم يشجعه لإعطاء عطاء أكبر . ضع رد لرؤية الرابط.. إلى أنَّ قِصَّةَ ذي القرْنَينِ في القرآنِ هي من الغموضِ بحيث لا يُحْتَمَلُ وَضْعُ تَصَوّرٍ محدَّدٍ لَهَا، إذ اختلف المفسِّرونَ في ما يَقْرُبُ من (18) لفظاً فيها، ممّا يَجْعَلُ الصُّورَ المُحتمَلَةَ عن تغيُّرِ معاني كلِّ لفظٍ مَعَ ثبوت الآخر وبالتناوبِ بمئاتِ الآلاف!. وادَّعى هذا المفسِّرُ أنَّ ذلكَ يدِلُّ على عَظَمَةِ القرآنِ، إذ لا يَقْدِرُ الإنسانُ على صياغةِ قِصَّةٍ تَحْتَمِلُ كلَّ هذِهِ الاحتمالاتِ!!.
أقولُ:
إنَّ هذا التعدُّدَ في الاحتمالاتِ يدلُّ بدلاً من ذلكَ على جَهْلِنَا بالقرآنِ وسوءِ أساليبِنَا اللغويةِ وطرائقِنَا التفسيريةِ. فالقرآنُ لم ينزَّلْ لأجْلِ أنْ يزدادَ عَدَدُ الاحتمالاتِ لتبلُغَ مئاتَ الآلافِ، وإنَّمَا نُزِّلَ ليجيبَ على السؤالِ: (ويَسْأَلونَكَ عَنْ ذي القرْنَينِ). فلو أبقاهُم وفق احتمالاتِهِم المعدودَةِ والمتصوَّرَةِ لديهم عن الشخصيَّةِ والتي هي رَجْمٌ بالغيبِ لكانَ أفضلَ من أنْ يُجيبَ إجابةً تزيدُ تِلْكَ الاحتمالات لآلافِ المرَّاتِ مِنْ غَيْرِ أنْ يَدْرِكوا الصورةَ الحقيقيةَ المطابقةَ للواقعِ.
ليس أمامَ المِرْءِ إذن إلاَّ أَحَدُ حلَّينِ لا ثالثَ لهما: إمَّا إنكارُ سماويَّةِ القرآنِ، وإمّا إنكارُ صحَّةِ علومِ اللغةِ الحالية. وَقَدْ شدَّدْنَا على هذِهِ المسألةِ في مؤلفاتٍ أخرى لنا. فالجمعُ بَيْنَ علومِ اللغةِ وإعجازِ القرآنِ هو شيءٌ مستحيلٌ. لكنَّنَا بَرْهَنا في الواقعِ على عَدَمِ استحقاقِ أبحاثِ اللغةِ لهذا اللقبِ (علم اللغة)، إذ هي أبحاثٌ اعتباطيةٌ لا تَمِتُ للعلمِ بأيَّةِ صِلَةٍ.
فالقرآنُ الكريمُ أكَّدَ أنَّهُ آياتٌ بيِّناتٌ ومُفَصَّلاتٌ، لذا فتَعَدُّدُ الاحتمالاتِ إنَّمَا هو نقيضٌ تامٌّ للتَبْيينِ والتفصيلِ.
نَعَمْ.. إنَّ كلامَ المفسِّرِ المذكورِ هو محاولةٌ لترقيعِ الفَتْقِ الذي لا يمكنُ رَتْقُهُ، على أنَّ أكْثَرَ إجاباتِ علماءِ التفسيرِ عن مُعْضِلاتِ القرآن من هذا النمطِ.
لَقَدْ وَرَدْت قصَّةُ ذي القرْنَينِ في القرآنِ الكريمِ في سورة الكهف، ولمَّا كنَّا نَعْتَقِدُ بوجودِ وحدةٍ موضوعيةٍ للسورِ القرآنيةِ، إذ تميَّزتْ كلُّ سورةٍ قرآنيةٍ بالتأكيدِ على قضيةٍ معيَّنةٍ مَعَ التطرُّقِ إلى بقيَّةِ الموضوعات بحيثُ يكونُ لكلِّ سورةٍ محورٌ معيَّنُ، فَسَوفَ نُحاوِلُ الكَشْفَ عن محورِ سورةِ الكهفِ حيثُ نَميلُ إلى الاعتقادِ بأنَّ السورةَ مخصَّصَةٌ للحديثِ عن التغيُّراتِ الزمكانيةِ والنسبيةِ العامةِ مما يسهِّلُ علينا مُهِمَّةَ الكَشْفِ عن قصَّةِ ذي القرْنَينِ. فلنبدأ إذن بإلقاءِ نظرةٍ عامَّةٍ على السورةِ.

أ ـ العناصرُ الزمكانيةُ والنظامُ الثلاثيُّ في سورةِ الكهفِ:
لَقَدْ أَظْهَرَتْ لنا دراسةُ النصّ القرآنيِّ عن طريقِ المنهجِ المذكورِ في مقدِّمةِ هذا الكتابِ أنَّ للسورِ القرآنيَّةِ خصائصاً مستقلَّةً عن بعضِهَا البعضِ بالرُغمِ من كونِها جزءً لا يتجزَّأُ من وحدةِ النسيجِ القرآنيِّ. ومِنَ الأمثلةِ الواضحةِ على هذا التخصُّصِ سورةُ الكهْفِ، إذ أنَّها اختصَّتْ بمعالجَةِ تغيُّراتِ الزمانِ والمكانِ وبالأبعادِ الثلاثةِ بحيثُ أنَّنا نَجِدُ أنَّ النظامَ الثلاثيَّ قَدْ بقيَ ساريَ المفعول ابتداءً من اسمِ السورةِ إلى جميعِ تفاصيلِهَا الدقيقةِ.
فثمَّةُ ثلاثةُ قِصَصٍ في السورةِ هي: قصَّةُ أصحابِ الكَهْفِ ـ وقصَّةُ موسى ـ وقصَّةُ ذي القرْنَينِ. لكنَّ القِصَصَ الثلاثَ ترتَّبَتْ ترتيباً احتمالياً لاحتواءِ جميعِ التغيُّراتِ الممكنَةِ في الزمانِ والمكانِ وعلى النحوِ الآتي:

الاحتمالُ الأوَّلُ: تغيُّرُ الزمانِ مَعَ ثبوتِ المكانِ:

وعالجَتْ هذا الاحتمالَ قصَّةُ أصحابِ الكهفِ، فَقَدْ تبدَّلَ الشعورُ بالزمانِ عندَهُم بالرغمِ من عَدَمِ تغيُّرِ الموضِعِ حيثُ هو موضِعٌ أرضيٌّ في أَحَدِ الكهوفِ.

الاحتمالُ الثانيُّ: تغيُّرُ المكانِ مَعَ ثبوتِ الزمانِ:

وعالجَتْ هذا الاحتمالَ قصَّةُ موسى وفتاهُ في الرحلةِ إلى العَبْدِ الذي امتَلَكَ نوعاً خاصاً من العِلْم. ففي هذِهِ القِصَّةِ تغيَّرَ المكانُ إلى مسافاتٍ سحيقةٍ ولم يستغرِقْ ذلكَ زمناً يُذْكَرُ. ولذلك استُخْدِمَتْ في القصَّةِ لفظةُ (الانطلاق) بعدما وجدا (أي موسى وفتاه) العَبْدَ الصالِحَ في (مَجْمَعِ البَحرينِ)، وهو موضِعٌ كانَ يحتاجُ إلى أحقابٍ لبلوغِه، فَقَدْ خاطَبَ موسى فتاهُ قائلاً:
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (الكهف:60)
فَبَلَغَا الموضِعَ من دونِ مرورِ زمانٍ: (فلمّا بَلَغَا مجمعَ بينهما)، ثمَّ انطَلَقَ موسى (ع) مَعَ صاحِبِ العِلْم ثلاثةَ انطلاقاتٍ متشابِهَةٍ عَبَّرَ القرآن عن كلٍّ منها بِلَفْظِ (فانْطَلَقَا). وَقَدْ حُدِّدَتْ الحُقْبَةُ في القاموسِ بنحوِ 80 سنةً. ولمَّا كانَ أقلُّ الجَمْعِ ثلاثةً فهذا يعني أنَّ الموضِعَ يحتاجُ إلى ما يقْرُبُ من (240) سنةً بالسفر العادي.
وكان الانطلاقُ السريعُ قَدْ جَعَلَ موسى وفتاهُ يتجاوزان الموضِعَ ممَّا اضطرَّهُمَا للرجوعِ على آثارِهِما:
(قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً) (الكهف:64)

الاحتمالُ الثالثُ: تغيُّرُ الزمانِ والمكانِ:

وَقَدْ عَبَّرَتْ قِصَّةُ ذي القرْنَينِ عن هذا الاحتمالِ، وهي موضوعُ البَحْثِ حيثُ سنرى هذا التغيُّرَ قريباً.
لكنَّ الأبعادَ الثلاثةَ هذِهِ قَدْ دَخَلَتْ في التفاصيلِ الجزئيةِ. فنلاحِظُ مثلاً أنَّ أصحابَ الكهْفِ قَدْ تَمَّ إيقاظُهُم وبإشاراتٍ وَرَدَتْ ثلاثةَ مرَّاتٍ:
(ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً) (الكهف:12)
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ) (الكهف: من الآية19)
(وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) (الكهف: من الآية21)
ومن ناحيةِ عَدَدِهِمْ فَقَدْ أُشيرَ إليه بثلاثةِ احتمالاتٍ أيضاً:
(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف:22)
لَقَدْ تكرَّرَ ذِكْرُ أرقامٍ هنا هي (3 ـ 4 ـ 5 ـ 6 ـ 7 ـ 8)، فإذا جَمَعْناها كانَ المجموعُ (33) وكأنَّهُ يشيرُ إلى النظامِ الثلاثيِّ المكرَّرِ بالأرقامِ أيضاً، فإنَّ الوصيَّةَ التي قَالَهَا قائلٌ منهم لِمَنْ أرسلوه تضمَّنَتْ ثلاثةُ أبعادٍ أيضاً:
1. فليأتكم برزقٍ مِنْهُ 2. وليتلطَّف 3. ولا يشعرنّ بكم أحداً
وسَبَبُ ذلكَ هو وجودُ ثلاثِ نتائجٍ مُحْتَمَلَةٍ إذا ظهروا عليهم:
إن يظهروا عليكم: 1. يرجموكم 2. أو يعيدوكم في ملَّتِهِم 3. ولن تفلحوا إذن أبدا.
وكان مقدارُ لبوثِهِم في الكهْفِ مقداراً ثلاثياً: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (الكهف:25).
هذا ويستمرُّ النظامُ الثلاثيُّ في قصَّةِ موسى وفتاهُ. فالانطلاقُ تمَّ بثلاثِ مراحلٍ:
1.
(فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا) (الكهف:71)
2.
(فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ ) (الكهف: من الآية74)
3.
(فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) (الكهف: من الآية77)
إن سببَ ذلكَ كَمَا يبدو هو أنَّ الأشياءَ تتغيَّرُ بثلاثةِ أبعادٍ. فالزمنُ ينطوي بالنسبةِ للإنسانِ على ماضٍ وحاضِرٍ ومستقبلٍ. لَقَدْ كانَ شخوصُ الرحلةِ ثلاثةً أيضاً: موسى (ع) وفتاه يوشع (ع) والعبد الصالحُ (ع).
وتَدْخُلُ الأبعادُ الثلاثةُ كافَّةَ التفاصيلِ الفرعيةِ وحتى إنَّ الخطابَ الإلهيَّ في آيةٍ واحدةٍ يتضمَّّنُ إنكاراً بشأنِ الجاهلينَ بالنظامِ الطبيعيِّ:
1.
(مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
2.
وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ
3.
وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (الكهف:51)
لَقَدْ فَصَلَ مَثَلٌ قرآنيٌّ بَيْنَ القصَّتين.. وتَضَمَّنَ المَثَلُ الذي قَلَبَ التفسيرُ الاعتباطيُّ عناصِرَهُ لجَهْلِهِ بعائديةِ الضمائر.. تضمَّنَ وصفاً لجنَّتينِ من خلالِ تصوُّرٍ ثلاثيِّ الأبعادِ:
1. جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ 2. وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ 3. وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعَاً
وكانت الأبعادُ الثلاثةُ قَدْ أخَذَتْ موقِعَهَا في القضايا الداخليةِ أيضاً. فالانطلاقاتُ الثلاثةُ انطوَتْ على ثلاثةِ مواضِعٍ، ولكنَّ الإرادةَ تغيَّرَتْ في تعلُّقِهَا بالموضوعِ بثلاثةِ أبعادٍ أيضاً:
السفينةُ: فأرَدْتُ.
الغلام: فأرَدْنَا.
الجدار: فأرادَ رَبُّكَ.
ومِنْ حيثُ الحركةِ فإنَّ المواضيعَ الثلاثةَ متغيِّرَةٌ بحسبِ الاحتمالاتِ:
السفينةُ: يحرِّكُها الأشخاصُ ولا تتحرَّكُ بمفردِهَا.
الغلامُ: يتحرَّكُ تلقائياً.
الجدارُ: لا يتحرَّكُ تلقائياً ولا يحرِّكُهُ أحدٌ.
إنَّ فَهْمَ نظامِ السورةِ بهذه الطريقةِ يُسَهِّلُ علينا معرفةَ القصَّةَ الثالثةَ (قصَّةَ ذي القرْنَينِ)، إذ لم يَبْقَ من الاحتمالاتِ المذكورةِ إلاَّ الثالثُ منها، وهو تغيُّرُ الزمانِ والمكانِ في نَفْس الوقتِ. وكانت القصَّةُ قَدْ انطوَتْ على ثلاثِ رحلاتٍ أيضاً ابتدأت جميعاً بالعبارةِ الغريبةِ (فأَتْبَعَ سَبَبَاً) أو (ثمَّ أَتْبَعَ سَبَبَاً). وسوف نوضِّحُ الآنَ قصَّةَ ذي القرنينِ على ضوءِ هذا النظامِ واللغةِ والروايةِ الهامَّةِ جداً المرفوعةِ إلى الإمامِ علي (ع) عن الرِحْلَةِ.

ب ـ الإيضاحُ العلميُّ للرِوايةِ الغَريبَةِ عن ذي القرْنَينِ:
نصُّ الروايةِ:
بِحَذْفِ الإسنادِ عن أميرِ المؤمنين عليِّ بن أبي طالبٍ (ع) قَالَ في حديثِ ذي القرْنَينِ ما نَأخُذُ مِنْهُ موضِعَ الحاجةِ:
(.. ثمَّ مَشَى ذو القرْنَينِ على الظُّلْمَة ثمانيةَ أيامٍ وثمانيةَ ليال وأصْحابُهُ ينظرونَ إليهِ حتَّى انتهى إلى الجَّبَل المُحيطِ بالأرضِ كلِّهَا، وهو الجَّبَل الأعظمُ وإذا بمَلِكٍ من الملائكةِ قابِضٌ على الجَّبَل وهو يُسبِّحُ فَخَرَّ ذو القرْنَينِ ساجداً فلمَّا رَفَعَ رأسَهُ قَالَ لَهُ المَلِكُ: كيف قَوَيْتَ يا بنَ آدم على أنْ تَبْلُغَ هذا الموضِعَ ولَمْ يبلُغْهُ أَحَدٌ من بني آدم قَبْلِكَ. قَالَ: قوَّاني عليهِ الذي قوَّاكَ على قَبْضِ هذا الجَّبَل وهو محيطٌ بالأرضِ كلِّهَا. قَالَ المَلِكُ: صَدَقْتَ! لولا هذا الجَّبَل لانكَفَأَت الأرضُ كلُّها ولَيْسَ على الأرضِ جَبَلٌ أعْظَمَ مِنْهُ وهو أوَّلُ جَبَلٍ أسَّسَهُ اللهُ تعالى، ورَأْسُهُ مُلْصَقٌ بالسماءِ الدُّنيا وأسْفَلُهُ بالأرضِ السابعةِ السُّفْلَى، وهو مُحيطٌ بالأرضِ كلِّهَا كالحَلْقَةِ، وليسَ على وجْهِ الأرضِ مدينةٌ إلاَّ وَلَهَا عِرْقٌ إلى هذا الجَّبَل، فإذا أَرَادَ اللهُ أنْ يُزَلْزِلَ مدينةً أوحى إليَّ فحرَّكْتُ العِرْقَ الذي يلِيها فَزَلْزَلْتُها).
انتهى هذا النصّالمذكورُفي كتابِ إكمالِ الدِّينِ ونَقَلْنَاهُ عن كتابِ النورِ المُبينِ في قِصَصِ المُرْسَلين للجزائري ـ قِصَّةُ ذي القرْنَينِ.
إنَّ هذا الحديثَ يتضمَّنُ جملةً من الحقائقِ العلميةِ التي ينبغي فهْمُهَا فَهْمَاً مُعاصِراً، ولا يتمُّ هذا الفهمُ إلاَّ عِنْدَ دِراسةِ القصَّةِ في النصّ القرآنيِّ نفسِهِ، والذي استُخْدِمَتْ فيهِ عِباراتٌ ذاتُ صِلَةٍ مُؤَكَّدَةٌ بهذا النصّ من جهةٍ، وبالملحَمَةِ من جهةٍ أخرى.
فالنصُّ القرآنيُّ يُؤَكِّدُ أنَّ الرحلةَ كانتْ في الفَضَاء ويستحيلُ تفسيرُهَا بافتراضِ أنَّهَا حَدَثَتْ في الأرضِ. فالمكانُ والزمانُ كِلاهُمَا تغيَّرَا تغَيُّرَاً كبيراً. فَمِنَ الأشياءِ التي تُؤَكِدُ أنَّ ذي القرْنَينِ أرْتَحَلَ إلى الفَضَاء ما يلي:
الأول
: قولُهُ تعالى:
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْحُسْناً) (الكهف:84ـ86)
هذِهِ هي المرحلةُ الأولى من الرحلةِ. لَقَدْ مكَّنَ اللهُ لَهُ في الأرضِ وآتاهُ من كلِّ شيءٍ سبباً، فلْيَكُن السَّفَرُ في الفَضَاء من جُمْلَةِ ما آتاهُ اللهُ، إذ لا يمكنُ استثناءُهُ من النصّ وهو يقولُ (كلِّ شيءٍ).
على أنَّ لَفْظَ (سَبَبٌ) هنا مقصودٌ للدلالةِ على السَّفرِ الفضائيِّ، إذ استُعْمِلَ في القرآنِ للإشارةِ إلى الرابطةِ بَيْنَ الأشياءِ المتباعدةِ جدَّاً في الموضِعِ. وَقَدْ وَرَدَ هذا اللفظُ سبْعَ مرَّاتٍ ثلاثةٌ منها في القصَّةِ عن ذي القرْنَينِ.. أمَّا الأربعةُ الأُخرى فهي:
(مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) (الحج:15)
واضِحٌ أنَّ هذا الموردَ يُرادُ به السَّفرُ في الفَضَاء.
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ)(غافر: 36ـ37)
هذا الكلامُ لفرعونَ ذَكَرَهُ القرآنُ لإبرازِ عنصِرِ التغابي عِنْدَ الطغاةِ حيثُ تأتي الأعذارُ والدلائلُ وهي أسوأُ من الأفعالِ، لأنَّ موسى لم يَقُلْ إنَّ اللهَ متحيِّزٌ في موضِعٍ ما من السَّمَاء حتَّى يحتاجَ إلى كَشْفٍ.
(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ) (ص:10)
مورِدٌ واضحٌ يُرادُ بهِ إثباتُ عَجْزِ الإنسانِ عن إدراكِ سِعَةِ الفَضَاء والكونِ بما يوضِّحُ مالِكُهُ الفعليُّ وعظمَتُهُ.
(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)
(البقرة:166)
مورِدٌ يحدِثُ في المُستقْبَلِ حينما يَرونَ العذابَ الآتيَّ على الأرضِ فَيُحاولونَ الهَرَبَ إلى الفَضَاء، وهو حَدَثٌ يَقَعُ بعد تمكُّنِ الإنسانِ من غزْوِ الفَضَاء وفقَ الوَعْدِ الإلهي:
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53)
إذن.. فالموارِدُ الثلاثةُ التي جاءَتْ بلفْظِ (السَّبَبِ) في قصَّةِ ذي القرْنَينِ لا تَخْرُجُ عن هذِهِ القاعدةِ، إذ المقصودُ بهِ السَّفرُ الفضائيُّ.
الثاني
: قولُهُ تعالى:
( تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) (الكهف: من الآية86)
ما مَعْنَى (تَغْرُبُ)؟.. إنَّهُ واضحٌ، إذ ليس معناهُ أنَّها تَنْزِلُ في عَيْنٍ أو تسْتَقِرُّ فيها، بل تَغيبُ عن الرؤيةِ في عَيْنٍ. فالأمْرُ كَمَا لو قُلْتَ: (غَرَبَتْ عليَّ الشَّمس في الصِّينِ!)، فهذا القولُ ليس معناهُ أنَّ الشَّمْسَ نَزَلْت في الصِّينِ.
إذن.. فَقَدْ غَرَبَتْ عليه في (عينٍ حمأةٍ).
والعَيْنُ هي كوكبٌ آخرٌ، إذ استُعْمِلَ هذا اللَّفْظُ نفسُهُ للإطلاقِ على الأجرامِ الحارَّةِ والباردَةِ وأستُخْدِمَ عِنْدَ العَرَبِ بهذا المعنى.
فَقَدْ ذَكَرَ صاحِبُ الفِتَنِ والبِحَارِ حديثاً عن الباقر (ع) قَالَ فيه:
(إنَّ مِنْ وراءِ عَيْنِ قَمَرِكُم هذا أربعينَ عَيْنِ قَمَرٍ)
وعن جَعْفَرٍ الصادقِ نصٌّ مماثِلٌ. وأَوْرَدَ السليليُّ في كتابِ الفِتَنِ عن النبيِّ (ص) قولَهُ:
(..وَبَدَنَاً بارِزَاً في عَيْنِ الشَّمس)
العَيْنُ في اللُّغَةِ ذاتُ الشيءِ وجسْمُهُ أو جُرْمُهُ، واستَعْمَلَهُ الفقهاءُ للإشارةِ إلى هذا المعنى في عباراتِهِم المشهورَةِ في الطهارَةِ (إزالةِ النجاسةِ) أي مادَّتِها وليس آثارِهَا جميعاً كالصُبْغَةِ ونَحْوِهَا.
ومعنى العَيْنِ على الأَصْلِ هو (الشيءُ المُكَوَّرُ في ذاتِهِ) فَيَصْدِقُ على كلِّ جُرْمٍ كبيرٍ وصغيرٍ وعلى كلِّ ما وَقَعَ على هذا المعنى.
إذن.. فالأجْرَامُ عيونٌ منها ناريَّةٌ وهي الشُّموسُ أو النجومُ، ومنها باردةٌ ترابيَّةٌ وهي الكواكبُ.
فقولُهُ تعالى (حمأة) مرتبطٌ بالـ (الحمأ المَسْنونِ) الذي هو تُرابُ الأرضِ الذي خُلِقَ مِنْهُ الإنسانُ، إذ وُضِعَ في (سُنَّةٍ) أي في شرْعَةٍ ومنهاجٍ للتَرَقِّي، فهو مسنونُ. وعلى ذلكَ فالحمأُ (كصفةٍ) يعني المُكَوَّن من الحِمْأَةِ وهي حبَّاتُ التُرابِ والرَّمْلِ وما نسمِّيهِ مكوَّنَات الأرضِ.
إذن.. فَقَدْ غَرَبَت الشَّمس عليه في عينٍ (كوكبٍ) أو كُرَةٍ حَمِأَةٍ (أرضيَّةٍ).
وبعد إنْ أعطى التعاليمَ إلى سُكَّانِ هذا الكوكبِ ابتدأت الرحلةُ الثانيةُ.
الثالث
: إنَّ الرحلةَ الثانيةَ كانت بدلالةِ مَطْلَعِ الشَّمس.
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً)
(الكهف:90)
مِنَ الواضحِ أنَّ هؤلاءِ القومَ في طورٍ بدائيٍّ ولم يتوصَّلوا بَعْدُ إلى مرحلةِ بناءِ المساكنِ وخياطةِ الثيابِ. ومِنْ هنا لم يفعلْ شيئاً إزاءَهُم، فَلَمْ يضَعْ لهم قوانينَ وتعليماتٍ كَمَا فَعَلَ في المرحلةِ الأولى. ولكنْ هَلْ خَرَجَ من هذا الكوكبِ في هذِهِ المرحلةِ إلى كوكبٍ آخرٍ؟
يَظْهَرُ مِنَ النصّ القرآنيِّ أنَّهُ بَقيَ في الظلامِ حتَّى مَطْلَعِ الشَّمس، وبذلك يكونُ الطلوعُ على نَفْس الكوكبِ.
يؤكِّدُ ذلكَ الحديثُ الذي يَذْكِرُ سَيْرَهُ في ظِلامٍ دامِسٍ على أرْضٍ مختلفةٍ عن أرضِنَا وتحديداً في وادٍ مِنْها يُدْعَى (وادي الزبرجد) حيثُ تُرابُها من زبرجدٍ ولؤلؤٍ أو شبيهٍ باللؤلؤ.
الرابع
: إنَّ المرحلةَ اللاحقةَ تؤكِّدُ فضائيةَ الرحلةِ. فالنصُّ القرآنيُّ استَعْمَلَ نَفْسَ العِبارَةِ مَعَ عباراتٍ أخرى تبدو غامضةً لأوَلِ وهلةٍ. قَالَ تعالى:
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً.حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً)
(الكهف: 92ـ93)
في بَعْضِ القراءاتِ قُرِئَت (يُفْقِهونَ) بضمِّ الياء، أي لا يَقْدِرونَ على إفهامِ الآخرينَ مُرادَهُم لِتَدَنِّي معارِفَهُم اللغويَّةِ. ويبدو هذا صحيحاً لأنَّ ذا القرْنَينِ صحَّحَ مَطلبَهُم اللغويَّ حيثُ طلبوا مِنْهُ إقامةَ سَدٍّ بِوَجْهِ قومٍ مفسدينَ هم يأجوجُ ومأجوجُ، فأجابَهُم بإقامَةِ رَدْمٍ:
(قَالَوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (الكهف:94)
فقَالَ:
(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (الكهف:95)
والاستشهادُ بأمرين:
الاستشهادُ الأول: إنَّ قَوْلَ المفسِّرينَ عن سَدِّ ذي القرْنَينِ غَيْرُ صحيحٍ، إذ هو رَدْمٌ لا سَدٌّ. والفَرَقُ بينهُمَا: أنَّ السَدَّ يكونُ شاخِصَاً قائِمَاً، والرَدْمُ هو تَسْويةٌ للأطرافِ. فالحُفرَةُ تَرْدِمُها والكُوَّةُ في السَّقْفِ تَرْدِمُهَا ولا يصحُّ أنْ تقولَ (أسِدُّهَا)!. وهذا ما أكَّدَهُ المُعْجَمُ (رَاجِعْ مادَّتي سَدْ وردم). هذا يعني أنَّ هناك شيئاً قائماً في الأصلِ ويحتاج إلى توصيلٍ لأطرافِهِ وإلغاءٍ للفجوةِ التي هي مَنْفَذُ يأجوجَ ومأجوجَ.
أما الاستشهادُ الثاني: فإنَّ الوَصْفَ النبويَّ لهؤلاءِ يُؤَكِّدُ أنَّهُم في كوكبٍ آخر لا على الأرضِ، إذ ليس في الأرضِ مخلوقاتٌ بهذه الصفاتِ (آذانُهُم طويلَةٌ جِدَّاً بحيثُ يفترشونَ إحداها ويغطُّونَ أنفسَهُم بالأخرى)!!. بل نصوصُ الملاحمِ تؤكِّدُ كونَهُم قوماً في الفَضَاء سيهاجمونَ الأرضَ عِنْدَ ظهورِ المهدي (ع) ونزولِ المسيح (ع)، إذ يشربون ماءَ طبريةَ عن آخرِهِ؟!. بل أكَّدَ نصُّ قرآنيٌّ في موضِعٍ آخَرٍ هذِهِ النتيجةَ:
(حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ)
(الأنبياء: 96ـ97)
إذن.. فأيَّةُ محاولةٍ لتفسيرِ القصَّةِ على أنها قَدْ حَدَثَت في الأرضِ هي محاولةٌ فاشلةٌ، فلا وجودَ لهذا السدِّ في الصِّين ولا في أذربيجان كَمَا زَعَمَ المفسرون، لأنَّ سَدَّ الصِّين من حَجَرٍ ورَدْمَ ذي القرْنَينِ من نُحاسٍ وحديدٍ محروقٍ كَمَا سنلاحِظُ قريباً.
الخامس
: إنَّ هذا الرَّدْمَ الذي جَعَلَهُ ذو القرْنَينِ لم يَكُنْ شيئاً عادياً، بل هو قضيَّةٌ علميَّةُ يتوجَّبُ دراستُها. فَقَدْ افترَضْنَا أنَّ القومَ (يأجوجَ ومأجوجَ) كائناتٌ لَهَا علاقةٌ ما بالمغناطيسيةِ، وأنَّ حركتَهُم الراجِعَةَ إلى (الأجِّ والمجِّ) وهي حركةُ انسلالٍ سريعةٍ جداً تتوقَّفُ عِنْدَ وجودِ حَقْلٍ مغناطيسيٍّ شديدِ الفَيْضِ، ولمَّا كانتْ خطوطُ الفيضِ تنقطِعُ عِنْدَ القُطْبِ فإنَّ هذِهِ المنطقةَ تمثِّلُ نقطةَ الضعفِ في الفيضِ المغناطيسيِّ. والرَّدْمُ الذي صَنَعَهُ ذو القرْنَينِ هو توصيلُ خطوطِ الفيضِ عن طريقِ مغناطيسٍ صناعيٍّ كبيرِ الحَجْمِ وَضَعَهُ في المكانِ المذكورِ (بحيثُ تَمَّ به إغلاقُ منطقةِ الضعفِ في القطبِ وبذلك مَنَعَهُم من الخروجِ).
هذِهِ هي الفرضيةُ التي افترضْنَاهَا للمرحلةِ الثالثةِ من الرحلةِ وهي تحتاجُ إلى براهينٍ، لذلك فسوفَ نَذْكِرُهَا بِشَكْلٍ موجزٍ:
البرهان الأول:
إنَّ موضِعَ هذا الرَّدْمِ في الجوِّ وليس على أرضِ الكوكبِ. فَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ القرآنُ تعبيراً غريباً هو (ما بَيْنَ السدَّينِ)، والقومُ الذينَ قدَّموا الشَّكْوى هم دونَ هذين السدَّين والعمليةُ التي تَمَّتْ هي توصيلُ الفيضِ الذي عَبَّرَ عَنْهُ بقوله (سَاوَى بَيْنَ الصَّدْفين).
فَهُنَا يأتي موضِعُ الحديثِ المرفوعِ إلى الإمامِ علي (ع) في رحلةِ ذي القرْنَينِ، إذ يَفُكُّ لنا هذا الحديثُ الألفاظَ العسيرةَ في النصّ القرآنيِّ. وقَبْلُ ذلكَ علينا أنْ نَفْهَمَ ما هو هذا الجَّبَل المحيطُ بالأرضِ كلِّهَا الذي يتحَدَّثُ عَنْهُ الإمامُ؟.
بالطبعِ.. لا يُوجَدُ جَبَلٌ مرئيٌّ يُحيطُ بالأرضِ كلِّهَا كالحلقةِ إلاَّ إذا كانَ المقصودُ هو جبالَ المغناطيسيةِ الشاهقةَ، فهي خطوطٌ محدَّبَةٌ كالجبالِ. ولكن ما اسمُ هذِهِ الجبالِ في القرآنِ؟ أَهي نَفْسُ مفردةِ (الجبالِ) القرآنيةِ؟
كلاَّ بالطبعِ.. لأنَّنا نَجِدُ القرآنَ قَدْ أستَعْمَلَ مفردتين هما (الجبالَ والرواسيَ).
إنها (الرواسيُّ)!
الرواسيُّ التي ظنَّ العلماءُ أنَّها مرادفٌ للجبالِ في النصّ القرآنيِّ بحيثُ لم يُفَرِّقُوا بينهُمَا.
فَهَلْ هُنَاك فروقٌ بينهُمَا في القرآنِ؟
نعم.. هُنَاك أكثرُ من عشرةِ فروقٍ هامَّةٍ بَيْنَ الجِبَالِ والرواسيِّ منها:
ö إنَّ الجِبَالَ منصوبةٌ نَصْبَاً (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ)(الغاشية:19)
بينما الرواسيَّ ملقاةٌ إلقاءً (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ..)(النحل: من الآية15)
والنَّصْبُ للجِبَالِ لأنَّهَا مادَّةٌ من صُخورٍ، والإلْقَاءُ للرواسيَّ لأنَّهَا القُوَّةُ المغناطيسيةُ.
ö ارتَبَطَت الرواسيُّ بِمَيَدَانِ الأرضِ (حركةِ الأرضِ) في ثلاثِ آياتٍ، بينما لا يوجَدُ أيُّ ارتباطٍ للحركةِ بالجِبَالِ. وهذا واضحٌ الآنَ من حيثُ العِلْم الحديثِ الذي يؤكِّدُ هذِهِ الرابطةَ. بَيْدَ أنَّ هناك اختلافاً بَيْنَ عُلَمَاءِ الألمانِ والولاياتِ المتحدةِ. فَفَريقٌ يَقولُ إنَّ حركةَ الأرضَِّ ِالمحورية هي سببُ المغناطيسيةِ، وفريقٌ يقولُ إنَّ المغناطيسيةَ هي المسبِّبُ للدورانِ المحوريِّ.
ö حينَمَا تَكونُ الرواسيُّ هي المرتَبِطَةَ بحركةِ الأرضِ، فهذا يعني أنَّ الحياةَ بكلِّ ما فيها مِنْ فعَّالياتٍ مُرْتَبِطَةٌ بالرواسي وليس بالجِبَالِ.
وهذا ما نَجِدُهُ في القرآنِ.. فبالرغمِ من أنَّ موارِدَ الرواسي هي (9) مواردٍ، وهي أَقَلُّ من موارِدِ الجِبَالِ البالغةِ (33) مورداً إلاَّ أنَّ مظاهِرَ الحَيَاةِ: الماءَ والأنهارَ، والحركةَ، والليلَ والنَّهَار، وكائناتِ الأحياءِ والنَّبَاتَ… إلخ ارتَبَطَت جميعُهَا بالرواسي ولم يَظْهَرْ مِثْلُ ذلكَ مُطٍْلَقاً مَعَ الجِبَالِ.
ö إنَّ الرواسيَّ فاعِلَةُ الإرساءِ. فهي جَمْعُ (راسيةٍ) اسم فاعِلٍ، فهي التي تَجْعَلُ الأرضَ راسيةً مَعَ جبالِهَا، والجِبَالُ منفعِلَةٌ. وهذا ما أكَّدَهُ القرآنُ في موضِعٍ آخرٍ حيثُ قَالَ ( والجبال أرساها) فأشتَقَّ من أسمِهَا فِعْلاً أَوْقَعَهُ على الجِبَالِ لإبرازِ هذِهِ الحقيقةِ.
ö وُصِفتْ الرواسيُّ بالشُّموخِ (رواسيَّ شامخاتٍ)، بينما وُصِفَت الجِبَالُ بتَعَدُّدِ الألوانِ. وهذا فارقٌ واضحٌ في التمييزِ بَيْنَ النوعينِ.
وبِصِفَةٍ عامَّةٍ يمكنُ الرجوعُ إلى كتابِنَا (النظام القرآني) للتوسُّعِ في الموضوعِ ومُلاحَظَةِ التفاصيلِ الأُخرى.
إذن.. فلماذا سَمَّى الإمامُ عليٌّ (ع) خطوطَ الفيض بالجَبَلِ المُحيطِ بالأرضِ كلِّهَا؟
هُنَا تَظْهَرُ نِكْتَةٌ لغويَّةٌ تؤكِّدُ عمومَ حركةِ اللفظِ الذي أكَّدْنَا عليه والاشتراكُ في الإطلاقِ لا في المعنى. فالرواسيُّ يمكنُ أن تسمِّيهَا جِبَالاً لأنَّهَا مَجْبولةٌ أصلاً مَعَ تَكوُّنِ الأرضِ، بينَمَا العكسُ لا يصحُّ لأنَّ الجِبَالَ لا تَفْعَلُ فِعْلَ الإرْسَاءِ.
والآن إذا عُدْنَا لحديثِ الإمامِ (ع) أنكَشَفَ لنا ما يَنْطَوي عليه من وَصْفٍ علميٍّ دقيقٍ للقوَّةِ المغناطيسيةِ. فقولُهُ (ع): مُحيطٌ بالأرضِ كلِّها.. لأنَّ خطوطَ الفيضِ تُغَلِّفُ الأرضَ كلَّهَا بالفِعْلِ.
وقولُهُ: كالحلقة: واضحٌ.. فإنَّهَا عبارةٌ عن حلقاتٍ ـ أنظُر الرِّسومَ المُرفَقَةَ للحَقْلِ.
وقولُهُ: أعلاهُ في السَّمَاء الدُّنيا ـ من الدُّنو أي بضعَةُ الآلافٍ من الأميالِ.
وقولُهُ: وأسْفَلُهُ في الأرضِ السابِعَةِ السُّفلى مُطَابِقٌ لأَحْدَثِ المعلوماتِ، لأنَّ خطوطَ المغناطيسيةِ تَدْخُلُ باطِنَ الأرضِ والمسمَّى بالقَلْبِ المغناطيسيِّ للأرضِ.
وقولُهُ:هو أوَّلُ جَبَلٍ أسَّسَهُ اللهُ ـ فلأنَّ القوَّةَ المغناطيسيةَ ناشِئَةٌ مَعَ نشوءِ الأرضِ، فهي بالطبعِ سابِقَةٌ على نشوءِ كافَّةِ التضاريسِ الجبليةِ.
وأما ارتباطُهُ بالزلازلِ فهي قضيَّةٌ معلومةٌ في مراكزِ البحْثِ العلمي. ومن جِهَةٍ أخرى يتَّضِحُ تفسيرُ النصّ القرآنيِّ الذي رَبَطَ بَيْنَ مَيَدَانِ الأرضِ والرواسي فَقَطْ، ولم يَرْبُطْ المَيَدَانَ بالجِبَالِ.
السادسُ
: إذا توضَّحَ هذا الأمرُ فَقَدْ أمْكَنَ الكشْفُ عن بقيَّةِ الألفاظِ وما عَمَلَهُ ذو القرْنَينِ في بِناءِ الرَّدْمِ. فلنلاحِظَ النصّ القرآنيَّ:
(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً. قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) (الكهف: 96ـ98)
لَقَدْ أستَلَمَ ذو القرْنَينِ وفقَ الحديثِ معلوماتٍ جديدةً عن الفيضِ المغناطيسيِّ وعلاقَتِهِ بالحرَكَةِ والزلازلِ. وَقَدْ انتفَعَ من هذِهِ المعلوماتِ لتسويةِ (الصَّدْفينِ).
فسواءٌ بفَتْحِ الصَّادِ أو ضمِّهَا، فالعبارةُ تعني أنَّهُ أجْرَى مساواةً بَيْنَ صدفينِ قائمينِ بالفِعْلِ وموجودينِ مُسْبَقاً.
ولمَّا كانت الأصدافُ هي في الحقلينِ الكبيرينِ للفيضِ فإنَّ المساواةَ تحتاجُ إلى مغناطيسٍ صناعيِّ كبيرٍ لتوصيلِ خطوطِ الفيضِ.
وهذا هو ما فَعَلَهُ ذو القرْنَينِ حيثُ جَاءَ بمسحوقِ الحديدِ فَأَحْرَقَهُ وصَبَّ عليه قِطَعَ النحاسِ (أو مصهورِ النحاسِ) على القراءة (قطرا ـ آن).
والواقعُ أنَّ ما قامَ به ليس مغناطيساً عادياً، بل هو أرقى أنواعِ المغانيطِ وأكثرها كفاءةً من الناحيةِ العلميةِ.
لاحِظْ هذا النصّ العلميَّ لصناعَةِ المغانيطِ:
(تُصْنَعُ المغانيطُ الحديثةُ من خليطِ الفيرات وهي عبارةٌ عن أكاسيدِ بعضِ المعادنِ، ويُعْتَبَرُ الحديدُ أفضلَ الموادِ الفيرومغناطيسيةِ على الإطلاقِ، إذ يتميَّزُ بوجودِ أربعِ الكتروناتٍ لا ازدواجيةٍ في الطبقةِ الثالثةِ متشابهةً في اتِّجاهِ البَرْمِ (اللَّفِّ)، وبناءاً على النظريةِ الحديثةِ القائمةِ على فِكْرَةِ الدايبولاتِ يأتي النحاسُ بالدرجةِ الثانيةِ بعد الحديدِ في شِدَّةِ التمغنُطِ، وأفضلُ المغانيطِ ما يتمُّ فيه خَلْطُ أوكسيدِ الحديدِ مَعَ اوكسيداتِ موادٍ أخرى كالنحاسِ حيثُ تُطْحَنُ هذِهِ الموادُ أو تُقْطَعُ إلى قِطَعٍ صغيرةٍ ثُمَّ تُحْرَقُ بالنارِ فَنَحْصِلُ على مغانيطٍ فريدةٍ من نوعِهَا) ـ المغناطيسية ـ كلية الهندسة ـ جامعة بغداد.
الواقعُ أنَّ النصّ القرآنيَّ لم يَذْكُرْ لنا سوى هذِهِ العمليةِ فإنَّ اللفظةَ (زُبَرَ) قُرِأَتْ خطئاً بالفتحِ (فتحِ الباءِ) لاعتقادِهِم بعَظَمَةِ القَطْعِ، بينما هي (زُبُرَ) بالضمِّ (ضمِّ الباءِ) مَعَ أنَّ أبنَ منظورٍ في اللسانِ قَالَ بِعَدَمِ الفََرَقِ.
لكنَّ النصّ القرآنيَّ كَمَا هو واضحٌ أكثَرُ دِقَّةً في ملاحظَةِ الاختلافِ في درجاتِ الانصهارِ والاقتصادِ بالنفقاتِ، لأَنَّهُ جَعَلَ إحراقَ النحاسِ يَتُمُّ بَعْدَ اكتمالِ إحراقِ الحديدِ، إذ تكفي الحرارةُ الباقيةُ لحَرْقِه.ِ وَقَدْ أكَّدَ النصّ القرآنيُّ على ضرورةِ استمرارِ تَيَّارِ الهواءِ للحديدِ المحروقِ، إذ بدونِهِ لا يَتُمُّ إنتاجُ أكاسيدٍ وإنَّما يُصْهَرُ الحديدُ فَقَطْ، ولذلكَ قَالَ (انفخوا).
إنَّ عمليةَ التقطيعِ هامَّةٌ لإيصالِ الهواءِ إلى أكْبَرِ قَدَرٍ من الجزيئاتِ وتكوينِ الأكاسيدِ. ومن هنا احتاجَ إلى مسحوقٍ (زُبُرَ الحديدِ).
السابعُ
: ثَمَّةُ رواياتٌ أخرى ذاتُ دلالةٍ أكيدةٍ على فضائيةِ الرحلةِ التي قام بها ذو القرْنَينِ ممَّا يُمَهِّدُ لدراسةِ أوْجِهِ التشابُهِ بيْنَهُ وبَيْنَ جلجامشَ ممَّا يستَلْزِمُ اعتبارَ الشَّخْصَيْنِ رَجُلاً واحداً في الأصْلِ. فمن تِلْكَ الأدلة:
ö عن سَبَبِ تسميتِهِ بذي القرْنَينِ أجابَ الإمامُ الباقرُ (ع) (لأَنَّهُ دَخَلَ النُّورَ والظُلْمَةَ) عن الجزائري في النور المبين.
إنَّ دخولَ النورِ والظُلْمَةِ واضحٌ جداً في الدلالةِ على امتلاكِ السرعةِ الفائقةِ. فالنورُ والظُلْمَةُ يأتيانِ إلينا ونحنُ في نَفْس الموضوعِ، أمَّا الذي يَمْتَلِكُ السرعةَ الفائقةَ فيمكنُهُ الخروجَ من أحَدِهِمَا والدخولَ إلى الآخرِ. لَقَدْ مَرَّ علينا النصّ الملحميُّ الذي ذَكَرَ أنَّ رحلةَ جلجامشَ كانت في الظُّلْمَة وأنَّهُ دَخَلَ النورَ، وَقَدْ أكَّدَ النصّ وبتكرارٍ كثيرٍ مفردتي النورِ والظُلْمَةِ في سطورٍِ متلاحقةٍ.
كانت الرحلةُ قَدْ استَغْرَقَتْ ثلاثةَ أيَّامٍ لِمَا يَحْتَاجُ في العادةِ إلى شهورٍ أو سَنَةٍ. وَلَمْ يُعَلِّقْ الباحثونَ بشيءٍ على هذِهِ السرعةِ، إذ حَسِبُوا أنَّ كاتِبَ المَلْحَمَة يُبَالِغُ حيثُ تعجِبُهُ المبالغةُ.
جَاءَ ذلكَ في العمودِ الرابعِ من اللَّوح السادسِ:

العضو العزيز...شكر صاحب الموضوع للجهد الذي يقوم به لخدمة اهل العلم يشجعه لإعطاء عطاء أكبر . ضع رد لرؤية الرابط..
هو العلامة السيّد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله تعالى في تفسيره الميزان لدى حديثه عن ذي القرْنَينِ في سورة الكهف.
المراجع

صورة رمزية إفتراضية للعضو علي العذاري
علي العذاري
انتقل لرحمة الله
°°°
افتراضي
(وَقَطَعَا مَدَى سَفَرِ شَهْرٍ ونُصْفِ في ثلاثةِ أيَّامٍ)
لكنَّ هذا التحديدَ كَمَا ذَكَرَ طه باقِرَ فيه تصرُّفٌ للباحثينَ. فالسَّفَرُ العاديُّ يستَغْرِقُ أكثرَ من ذلكَ بكثيرٍ وَقَدْ قطعوه بثلاثةِ أيَّامٍ.
فَثَمَّةُ نهاياتٌ مُحَطَّمَةٌ من (ع3 ـ ل4) ذَكَرَهَا الأحمدُ هي:
28 ـ حتَّى يَذْهَبُ ويَرْجَعُ يَصِلُ الغابةَ

29 ـ فَلْيَكُنْ شَهْرَاً…

30 ـ فَلْتَكُنْ سَنَةً…

الأيَّاُم الثلاثةُ موجودةٌ في النصّ، ولكن هناك أشكالٌ في ترجمة (شهر ونصف).
ö عن سَبَبِ التسميةِ بذي القرْنَينِ عن النبيِّ (ص):
(سُمِّيَ بذي القرْنَينِ لأَنَّهُ طَافَ شَرْقَها وغَرْبَها)
ذَكَرَهُ السمرقنديُّ وَنَقَلْنَاهُ عن كتابِ الهيئةِ للشهرستاني، والنصُّ موجودٌ في قِصَصِ الراوندي أيضاً ـ باب ذي القرْنَينِ.
معلومٌ أنَّ المقصودَ بذلكَ شَرْقُ الشَّمس لا الأرضِ، لأنَّ النصّ القرآنيَّ يُحَدِّدُ (مَطْلِعَ الشَّمس) و(مَغْرِبَ الشَّمس) كنِقَاطٍ دالَّةٍ على الحركةِ. وهذا ما سوف نُلاحِظُهُ مُطابقاً لعباراتِ المَلْحَمَة.
ö يَذْكِرُ الراونديُّ في قِصَصِهِ أنَّ ذا القرْنَينِ التَقَى بإبراهيمَ (ع)، فَسَأَلَهُ إبراهيمُ قائلاً: (بِمَ قَطَعْتَ الدَّهْرَ؟).
هذا السؤالُ واضحٌ جداً في الدلالةِ على قَطْعِ الزَّمنِ لا المسافاتِ. فالدَّهْرُ في اللغةِ يساوي تقريباً (80) سنةً، ومعنى ذلكَ أنَّهُ يَقْطَعُ ما يَحْتَاجُ إلى دُهورٍ خِلالَ أيَّامٍ.
قارِنْ العبارةَ مَعَ النصّ القرآنيِّ في القِصَّةِ الثانيةِ من سورةِ الكَهْفِ ممَّا يؤكِّدُ وحْدَةَ السورةِ:
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً)(الكهف:60)
وقارِنْهَا مَعَ عباراتِ المَلْحَمَة (فليكن سنة) ـ وكَذلِكَ مَعَ قولِ الناصحينَ (إنَّ المسافةَ تَمْتَدُّ عشَرْةَ آلافِ ساعةً مُضاعَفَةً).
وبالطبعِ فإنَّ هذا يعني أنَّ السُرعةَ كانت فائقةً، وهو أمْرٌ هامٌّ لأنَّ الوصولَ إلى منطقةٍ مُنيرةٍ من أخرى مُظْلمَةٍ أو العكسَ يَحتاجُ إلى سرعةٍ أكبر من سرعةِ الدورانِ المحوريِّ للأرضِ والبالغةِ بحدودِ (1800 كم/ساعة)، كَمَا يحتاجُ إلى هذِهِ السرعةِ للإفلاتِ من جاذبيةِ الأرضِ.
إنَّ هذا يجعلُنَا نؤَكِّدُ شَكَّ (طه باقر) في صِحَّةِ الترْجُمَةِ لهذا الجُزْءِ المُتَهَشِّمِ، فَقَدْ أَقَرَّ أنَّهُ حَاوَلَ أنْ يُتَرْجِمَ ما بقيَ من السطورِ بِتَصَرُّفٍ.
ومن ذلكَ العبارةُ التي تقولُ أنَّ جلجامشَ وأنكيدو سارا بثلاثةِ أيَّامٍ مسافةَ تُعَادِلُ شهراً ونصف!.
فالواقعُ أنَّهُ لا يُوجَدُ مِثْلُ هذِهِ العبارةِ في النصّ الأصليِّ. فالعبارةُ المتبقيةُ تؤكِدُ أنَّ السفرةَ كانت فضائيةً، وأنَّهَا تَحتاجُ إلى آلاتٍ خاصَّةٍ ومُعِدَّاتٍ مَحْسوبَةٍ حساباً دقيقاً في السُرْعَةِ والمسافاتِ، بل والملابسِ. وهذا ما أكَّدَتْهُ بقيَّةُ الأعْمِدَةِ (1ـ2ـ3ـ4ـ5) من الرُقيمِ الذي يَحْمِلُ الرَّقْمَ الآثاري ( م/399) من اللَّوح الرابعِ وبقيَّةِ اللَّوح الثالثِ. فهذه بعْضُ الألفاظِ المتفرِّقَةِ من بقاياها.
ـ إلى مشرق الشَّمس

ـ الطريق….

ـ ..الطريق…

ـ الشَّمس في السَّمَاء

ـ حتَّى يَصِلَ ويُهْلِكَ خمبابا

ـ ثلاثة سنين

ـ مخيف.. أنهضْ وخطِّطْ

ـ سَيَرْتَدي سَبْعَ بدلاتٍ

ـ رأيا جَبَلَ (الأرْزِ) موطِنَ عَرْشِ آرنيني

ـ ساعة مضاعفة

ـ اثنين إلى ثلاثين

ـ كُنْ القائِدَ

ـ خمسة عشر مثل

ـ السيف

ـ أحاط

ـ ستة عشر مفقودةً

ـ أنليل

ـ الواحد الأحد

ـ المدمّر

ـ كاد يهلِكُ الضعيف

ـ حقاً ثلاثة أضعاف

ـ اثنان… تمسَّكْ جيداً

ألا تُلاحِظُ في هذِهِ المفرداتِ أنَّ محاورةً تجري في (مركبةٍ فضائيةٍ) ومحاولاتٍ للسيطرةِ على الحركةِ؟. فحتَّى نَصِلُ إلى المناطقِ المُمْكِنَةِ القراءةِ في اللَّوح يكونُ أنكيدو قَدْ تَجَاوَزَ مَرَضَهُ السابِقَ وحَدَّثَ جلجامشَ عن حُلْمٍ رَآهُ.
إنَّ العباراتِ المبثوثةِ في المَلْحَمَة تؤكِّدُ وجودَ آلاتٍ معينَّةٍ استُخْدِمَتْ في الرحلةِ ممَّا يُعَزِّزُ القولَ أنَّ العِلْم الذي أَدْرَكَهُ جلجامشُ هو عِلْمٌ طبيعيٌّ. إنَّ هذا في الواقعِ ما أكَّدَهُ النصّ القرآنيُّ. فَقَدْ أدْرَكْتَ الفَرَقَ بَيْنَ القِصَّتينِ في سورة الكهف (قِصَّةِ موسى (ع) وقِصَّةِ ذي القرْنَينِ)، لأنَّ القرآنَ أشارَ إلى ذي القرْنَينِ بـ (العِلْم السببيِّ) المُتَعَلِّقِ بالظواهِرِ في قوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شيءٍ سَبَبَاً)، بينما كانَ انطلاقُ موسى مَعَ الرَّجُلِ العالِمِ بِعلْمٍ من نوعٍ آخرٍ وهو ما يُدْعَى بـ (العِلْم اللَّدُنِي) والذي وَرَدَ في وصْفِهِ بقوله تعالى:
(فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)(الكهف:65)
ومن جِهَةٍ أخرى أكَّدَ نصٌّ آخرٌ للإمامِ علي (ع) على ظاهريَّةِ هذا العِلْم حينما سُئِلَ عن مَعْنَى (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شيءٍ سَبَبَاً) قَالَ:
(وآتَيْنَاهُ عِلْمَاً وقُدْرَةً "ليَعْمَلَ" آلةً يتوصَّلُ بِهَا إلى مُرَادِهِ)
ذَكَرَهُ الجزائريُّ في القِصَصِ.
ö ويؤكِّدُ نصُّ آخرٌ فضائية الرحلة.. فعنه (ع) أيضاً في مَعْنَى (مَكَّنَا لَهُ في الأرضِ)، قَالَ: (سَخَّرَ لَهُ السحابَ ومَدَّ لَهُ في الأسبابِ حتَّى كانَ اللَّيل والنَّهَار عليه سواءً). ولا يَخْفَى عليك المَضْمونُ الفضائيُّ لهذهِ العباراتِ.
في حين أكَّدَ نصٌّ آخرٌ على نَفْس الفكرةِ حيثُ سُئِلَ (ع): (أَكَانَ ذو القرْنَينِ رسولاً أم نبياً؟)
فقَالَ: (لا نبيٌّ ولا مَلكُ هو عَبْدُ أحبَّ اللهَ فأحبَّهُ اللهُ).
وَقَدْ وَرَدَ سؤالٌ آخرٌ عن قَرنيهِ ما كانا؟
فقَالَ: (لعلَّكَ تحسبُ أنَّ قَرْنَهُ كانَ ذَهَبَاً أو فِضَةً أو كانَ نبياً! إنَّمَا كانَ عَبْدَاً أحبَّ اللهَ فدعا قومَهُ إلى اللهِ وإلى الخيرِ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُم فَضَرَبَهُ على قَرْنِهِ الأيسرِ فماتَ. ثمَّ بَعَثَهُ اللهُ فأحْيَاهُ فَدَعَاهُم فَقَامَ رَجُلٌ فَضَرَبَهُ على قَرْنِهِ الأيْمَنِ فَمَاتَ فَبَعَثَهُ الثانيةَ فمكَّنَ لَهُ في الأرضِ وآتاه من كلِّ شيءِ سَبَباً).
إذن.. فالتسميةُ مرتَبِطَةٌ إمَّا بالضَّرْبِ على قَرْنيهِ، وإمَّا لكونِهِ عاش في قرنين من الزمانِ مختلفين.
ولكنْ هَلْ كانت المصادفةُ وحدُهَا هي التي جَعَلَتْ رسومَ جلجامشَ على ألواحِ الفخارِ وتماثيلَهُ بقرنَين أم كانت رمزاً لهذه الواقعةِ؟.

أَوْجُهُ التَشَابِهِ بَيْنَ الشَّخْصِيَتَيْنِ
لَقَدْ َمَرَّتْ لِمَحٌ كثيرةٌ إلى أوْجِهِ التشابهِ بَيْنَ الرَّجُلينِ جلجامشَ وذي القرْنَينِ ونحاولُ الآن ذِكْرُ أوجِهِ التشابهِ الأُخرى ذاتِ الصِّلَةِ بالتفسيرِ المتقدِّمِ للقِصَّةِ القرآنيَّةِ.
وسوفَ نَعْتَمِدُ على شَرْحِ هذِهِ الأوْجِهِ على نصوصٍ مأثورةٍ عن الإمامِ علي(ع) علاوةً على حديثِ الجَّبَل المُحيطِ والأحاديثِ السابقَةِ. وَقَدْ تَسْأَلُ: (لماذا تَعْتَمِدُ على أحاديثِ الإمامِ دونَ سِواه؟).
الواقعُ لأنَّنَا لم نَجِدْ أحاديثاً تَخِصُّ ذي القرْنَينِ عن غَيْرِ الإمام (ع) إلاَّ نتفاً عن الريان منسوبةً إلى رواياتٍ شعبيَّةٍ عامة لا صِلَةَ لَهَا بالشخصيَّةِ القرآنيةِ التي نُريدُ إثباتَ وحدتِهَا مَعَ جلجامشَ.
أمَّا في المأثورِ الإسلاميِّ فإنَّ جُلَّ الأحاديثِ قَدْ وَرَدَ عن النبيِّ (ص) والإمامِ علي (ع) بشأنِ ذي القرْنَينِ.
وأمَّا سببُ ذلكَ فيبدو أنَّ الإمامَ علياً (ع) خصوصاً قَدْ أهتمَّ بهذهِ الشخصيَّةِ، إذ كَرَّرَ القوْلَ في ختامِ الحديثِ عَنْهُ: (وفيكُم مِثْلُهُ) مشيراً إلى نفسِهِ. ولعلَّ التشابهَ بينَهُمَا من جهاتٍ كثيرةٍ منها: إنَّ لكلٍّ منهما قوَّةً جسديَّةً متميِّزَةً وشُجَاعةً فائِقَةً، وإنَّ كلاًّ منهما لَهُ عِلْمٌ واضحٌ بالأشياءِ وإن كليْهُمَا عَابَ الدُّنيَا وسَمَا عليها.. إلى جِهَاتٍ أخرى لا يغفِلُهَا القارئُ الفَطِنُ. أمَّا وِحْدَةُ الشخصيَّةِ بَيْنَ جلجامشَ وذي القرْنَينِ فيمكنُ إدراجُ عناصرِهَا بما يلي:
الأوَّلُ
: ابتدأت قِصَّةُ كلٍّ منهما بنفسِ الطريقَةِ في تعريفِ الشخصيَّةِ.
الثاني
: بَحْثُ كلٍّ من الشخصيَّتينِ عن الخُلودِ.
الثالثُ
: سُلوكُ كلا الشخصيتينِ منطقَةِ الظلامِ
الرابع
ُ: النُصْحُ المتشابِهُ لكلٍّ منهما من قِبَلِ الشيوخِ لِتَرْكِ المُغامرَةِ.
الخامس
ُ: ارتقاءُ كلٍّ منهما جَبَلاً بنَفْسِ الصُّفاتِ.
السادس
ُ: اعتراضُ كلٍّ منهما ناصح آخر مُسيْطِر على الجَّبَل.
السابع
ُ: وصولُ كلٍّ منهما إلى أرضٍ صخريَّةٍ مليئةٍ بالأحجارِ الكريمةِ.
الثامن
ُ: اعتمادُ كلٍّ منهما مطلع الشَّمس ومغربها نقاطاً للحركةِ.
التاسع
ٌ: اصطحابُ كلٍّ منهما للأعوانِ في الرحلةِ.
العاشر
ُ: تَشَابِهُ اسميهما في الدلالةِ اللغويَّةِ.
الحادي عشر
ُ: كلٌّ منهما كانَ مَلِكَاً بالفِعْلِ.
وسَنَتَحَدَّثُ في هذا الفصلِ عن أهمِّ ما انطوتْ عليه هذِهِ الأوجُهُ المتشابهَةُ من علاماتٍ لغويَّةٍ وتعبيريَّةٍ مستخدمينَ النصّ الملحميَّ من جهَةٍ والنصَّ القرآنيَّ مَعَ المأثورِ من جهةٍ أخرى.

الأوَّلُ: التشابِهُ في التعريفِ بالشخصيَّةِ

ليستْ مصادَفَةً أنْ تبدأَ القِصَّتانِ (القرآنيَّةُ من جهةٍ والملحميَّةُ من جهةٍ أخرى) في استخدامِ بُنْيَةٍ تعبيريَّةٍ محدَّدَةٍ بألفاظٍ متشابِهَةٍ جداً تَكونُ في كلٍّ من النصَّيْنِ بدايةً للسَّرْدِ القصَصيِّ.
(فَمَعْرِفَةُ كُلِّ الأشياءِ) هو جَوْهَرُ ما انطوَتْ عليه العبارتانِ في النصَّينِ مَعَ الفَوارِقِ الجوهريَّةِ بَيْنَ الكلامِ الإلهيِّ والكلامِ البشريِّ.
فالسَّرْدُ القرآنيُّ بَدَأَ هكذا:
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً)(الكهف:84)
أما النصّ الملحميُّ فَقَدْ ابتَدَأَ هكذا:
هُوَ الذي رَأى كُلَّ شيءٍ وَخَبِرَ (البلادَ)
الذي عَرَفَ الأرضَ كلَّهَا ليسلِّمه؟
…..سوية قسَّم……
الحكيمُ الغَزيرُ الحِكْمَةِ الذي عَرَفَ جميعَ الأمورِ
والذي رَأى الأسْرَارَ والخَفَايا
(عن ترجمة الأحمد/37)
لكنَّ ترجُمَةَ أوَّلِ المَلْحَمَة ليس محسوماً عِنْدَ الباحثينَ. فَقَدْ ذَكَرَ باقِرُ أنَّ هناك انخراماً في النصّ وَقَدْ تُرْجِمَ إلى عباراتٍ أخرى منها:
هو الذي عَرَفَ جميعَ الأراضي
(م.باقر/73)
ولكنَّهَا في ترْجُمَةِ الأحمد جاءَت في السَّطرِ الثاني وبصيغَةِ المُفردِ (الأرض). وهذه العبارةُ هامَّةٌ لأنَّهَا تَشيرُ إلى قُدْرَتِهِ على الكَشْفِ عن أراضٍ أخرى غَيْرِ أرضِنَا هذِهِ.
وتُرْجِمَتْ أيضاً إلى:
هو الذي رأى الأعماقَ
وتبدو وكأنَّها تشيرُ إلى أعماقِ البحارِ حيثُ البَحْرُ على الأصلِ اللغويِّ العربيِّ هو الامتدادُ الواسِعُ جداً والحاوي على تكويناتٍ عديدةٍ فَيَشْمِلُ على هذا المعنى الفَضَاء، وبِهِ فَسَّرَ الحَلُّ القصديُّ بَعْضَ عباراتِ القرآنِ الكريمِ:
(وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ)(الرحمن:24)
إذ تُشيرُ إلى الجَواري من الكواكِبِ والنجومِ والمذنَّبَاتِ في بَحْرِ الفَضَاء لارتباطِهَا بـ (الجَواري الكُنَّسِ) المذكورةِ في سورةِ التكويرِ آية 16 حيثُ هي النجومُ أو المذنَّبَاتُ.
وبِصِفَةٍ عامَّةٍ فَقَدْ حَدَثَ التباسٌ شديدٌ بِشَأنِ لَفْظِ البَحْرِ، إذ زَعَمَ أهْلُ اللغَةِ والتفسيرِ أنَّهُ البَحْرُ المعلومُ أيْنَمَا جَاءَ في النصّ القرآنيِّ مَعَ أنَّ اللفظَ واسِعُ المعنى عِنْدَ العَرَبِ وغَيْرُ مَقْصُورٍ على البَحْرِ المعلومِ، وعلى ذلكَ ارتأى الحَلُّ القصديُّ للغَةِ قراءةَ الضَمِّ في قولِهِ تعالى:
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ)(إبراهيم: من الآية32)
لتكونَ مشيرةً إلى المجموعِ أي الأفلاكِ. وهي مداراتُ الكواكبِ والنجومِ تجري في بَحْرِ الفَضَاء، إذ أنَّ السُّفُنَ لا تجري بأمْرِهِ تعالى، بل بأَمْرِ الرُّبَانِ وأَصْحَابِ السُّفُنِ، ونِسْبَتُهَا إليه تعالى باعتبارِهِ غاية العِلَلِ والأسبابِ هو نوعٌ من التكلُّفِ في شَرْحِ المفرداتِ في هذا الموضِعِ وأمثالِهِ ومفتاحٌ لبابِ النقاشِ السوفسطائيِّ في (الجَبْرِ والاختيارِ).
ومِنْ هنا تظْهَرُ لك أهميَّةُ هذا التفسيرِ في تحديدِ معانيَّ السطورِ الأُخرى التي تؤكِّدُ على سَفَرِ جلجامشَ في البَحْرِ والتي هي جزءٌ من رحلتِهِ في الظلامِ الدَّامسِ!
إذ المعلومُ أنَّ (بَحْرَ الماءِ) مُنيرٌ نهاراً، بينما الفَضَاء هو البَحْرُ المُظْلِمُ دوماً سواءً في النَّهَار أو في اللَّيل لا فَرَقَ، وَقَدْ أوضَحْنا هذِهِ المَسْألةَ الفيزيائيَّةَ فيمَا سَبَقَ.
إذن.. فالعباراتُ التي ابْتَدَأَتْ بها المَلْحَمَة تُشيرُ إلى قُدُرَاتِهِ في السَّفَرِ إلى الفَضَاء ورؤْيَةِ أراضيَّ أخرى غَيْرِ أرضِنَا ودخولِ الأعماقِ والإطِّلاعِ على الأسْرَارِ والخَفَايَا.
وهكذا نَرَى أنَّ النصّ الملحميَّ يُحاولُ الوصولَ إلى المعانيَّ التي اجْتَمَعَتْ كلُّهَا في العبارةِ القرآنيةِ:
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَبَا)(الكهف:84)
حيثُ تلاحِظُ الألفاظَ المشتركَةَ مثل: أرض، كل شيء…
لكنَّ العبارةَ القرآنيَّةَ إنَّمَا تُعَبِّرُ في الواقعِ عن جميعِ تِلْكَ التَرْجُمَاتِ للنصِّ البابليِّ، بل وتَتَفَوَّقُ عليه في كونِهَا لم تَجْعَلْهُ عَارِفَاً بالأراضيَّ أو الأعماقِ أو البلادِ أو الأشياءِ أو الأسْرارِ!. بل جِمِعِتْ كلَّ ذلكَ وغَيرَهُ في عبارةٍ مُحْكَمَةٍ حينما جَعَلَتْهُ عارفاً بالأسبابِ والعِِلَلَ من كلِّ شيءٍ بلا تحديدٍ، ولمَّا كانَ السَّفَرُ إلى الفَضَاء من جُمْلَةِ الأشياءِ فإنَّ لديْهِ قَطْعَاً معرفةً بهذا السَّفَرِ. ولذلك أكَّدَتْ المَلْحَمَة على هذا السَّفَرِ بعد ذلكَ مِثْلَمَا حَاوَلَتْ ذِكْرَ المزيدِ من الأشياءِ التي سَمَّتْهَا الخَفَايا:
الذي كَشَفَ عن الخَفَايَا المَكْتومَةِ
وجَاءَ (حَمَلَ) بمعارفِ ما قَبْلِ الطوفانِ
وَسَلَكَ طُرُقَاً بَعِيدَةً
لَقَدْ كانَ (باقرُ) يُتَرْجِمُ السَّطْرَ الثاني هكذا (وَجَاءَ بِأنْبَاءِ ما قَبْلِ الطوفان).
فَيُفْهَمُ من هذِهِ العبارةِ أنَّهَا أنباءٌ مجهولةٌ، وأنَّهُ كَشَفَهَا من خلالِ رحلاتِهِ وبَحْثِهِ المُسْتَمِرِّ عن الخَفَايا!
لكنَّ الأحمَدَ يُتَرْجِمُهُ إلى: (وَحَمَلَ معارفَ ما قَبْل الطوفانِ).
وهي تُفيدُ العكسَ أيْ أنَّهُ حَمَلَ تِلْكَ المعارِفَ أولاً ثمَّ أَفَادَتْهُ في تَحْقيقِ أسفارِهِ، وهذا أَصَحُّ وأَدَقُّ لأنَّ السَّفَرَ في الطَريقِ البعيدةِ جَاءَ بَعْدَ السَّطْرِ المَذْكورِ، وعدا ذلكَ أكَّدَ هذا الأمرُ نصٌّ مأثورٌ عن الإمامِ علي (ع) يفيدُ أنَّهُ حَمَلَ المَعَارِفَ قَبْلَ السَّفَرِ حيثُ أشارَ إلى أنَّ ذا القرْنَينِ جَمَعَ حُكَمَاءَ المَمْلَكَةِ وما أثروه من الكُتُبِ وأَمَرَهُم أنْ يَجْمَعُوا لَهُ كلَّ المعارِفِ وأنْ يُنَقِّبُوا في البِلادِ لِيَعْثُروا على معارِفِ ما قَبْلِ الطوفانِ. وَقَدْ حَدَثَ ذلكَ قَبْلَ شروعِهِ بالسَّفَرِ للبَحْثِ عن الخُلودِ، ويَأْتيكَ النصّ في موضِعِهِ قَريبَاً.
إذن.. فالتَرْجِمَةُ الصحيحَةُ هي: (وَحَمَلَ معارِفَ ما قَبْلِ الطوفان).

الثاني: تَشَابِهُ الشَّخصيتينِ في البَحْثِ عن الخُلودِ
البَحْثُ عن الخلودِ هو أَحَدُ أهمِّ محاورِ المَلْحَمَة البابِليَّة، وَقَدْ لاحَظْنَا أنَّ الغايةَ من هذا البَحْثِ الدؤوبِ عن الخلودِ عِنْدَ البَطَلِ جلجامشَ ليس سوى الوجْهِ الآخرِ لمقْتِهِ الشديدِ للحياةِ الدُّنيا (عشتارَ). فَهْوَ يَرْغَبُ بالحياةِ الأبديَّةِ لا من حيثُ كونها حياةً دائمَةً لا تنتهي بالموتِ فَقَطْ، بل من حيثُ كونها حياةً سعيدةً لا أَثَرَ للشقاءِ فيها ولا وجودَ للشَّرِّ خلالَهَا، وَقَدْ ظَهَرَ ذلكَ من خلالِ تعنيفه لعشتارَ وتِعْدَادِ مثالِبِهَا.
وذو القرْنَينِ هو كَذلِكَ لا يبحثُ عن الحياةِ الدائمةِ وحسب، بل عن الحياةِ المرتبِطَةِ بالرَّبِ والتي لا شقاءَ فيها.
فَيَذْكِرُ هنا أحَدُ النصوصِ أنَّ المَلِكَ ذا القرْنَينِ وبَعْدَمَا أحَبَّهُ اللهُ وآتاهُ المُلْكَ أَرْسَلَ لَهُ مَلَكَاً من الملائكَةِ يُؤْنِسُهُ، إذ يعيشُ غرْبَةً قاتلةً في الأرضِ، فبينما كانَ يُحَادِثُ المَلَكَ والذي يُسَمَّى (روقائيل) اشتاقتْ نَفْس ذي القرْنَينِ إلى عبادةِ اللهِ كَمَا يعبُدُهُ الملائكةُ والتي وصَفََها لَهُ روقائيل، بَيْدَ أنَّ الموتَ هو العُقْبَةُ التي تَحولُ دونَ تحقيقِ هذا المَطْلَبِ ممَّا يُعَزِّزُ الفكرةَ القائلةَ بانطباقِ العبادةِ مَعَ رغباتِ الذاتِ في نوعٍ من الحياةِ التي يعيشُهَا المِرْءُ في الملكوتِ.
وأَشَارَ روقائيلُ خلالَ ذلكَ إلى وجودِ احتمالٍ مُعَيَّنٍ في التَخَلُّصِ من هذِهِ المشكلةِ أي الموتِ، وذلك بالعثورِ على (ماءِ الحياةِ) الموجودِِ في (عينٍ) وهي في موضع ما والتي إذا شَرِبَ منها المِرْءُ (الإنسان) فأنَّهُ لا يموتُ حتَّى يكونُ هو الراغِبُ في ذلكَ.
وسَأَلَهُ المَلِكُ ذو القرْنَينِ: وأيْنَ أَجِدُ هذِهِ العَيْنَ؟
ويبدو هنا أنََّهُ يَسْألُ عن (الكوكبِ) أو (الأرضِ) والتي يُعَبِّرُ عناه بالعَيْنِ كَمَا مَرَّ عليك في النصّ القرآنيِّ. وهكذا تبدأ قِصَّةُ ذي القرْنَينِ بعد إنْ أعتَذَرَ المَلَكُ عن معرِفَةِ الموضع سوى أنَّهُ قَالَ: (لا أَعْلمُ ولكنَّنَا نتحدَّثُ في السَّمَاء أنَّ للهِ تبارك وتعالى أرضاً في ظُلْمَةٍ لم يطأْهَا إنْسٌ ولا جَانٌ وهي فيها).
إنَّ هذا يُذَكِّرُنَا بالملحمةِ السومريةِ الثانيةِ التي أَخْرَجَهَا (كرايمر) والتي قَالَ (باقِرُ) أنَّهَا (تُضَاهي إلى حَدٍّ كبيرٍ ما جَاءَ في مَلْحَمَةِ جلجامشَ البابِليَّة) والتي أَطْلَقَ عليها كرايمر عنوانَ (أرضِ الحياةِ).
انظُرْ هوامشَ طَهَ باقر في الصفحات (196-197) من ترجمتِهِ لنصِّ المَلْحَمَة. ويَهُمُّنَا هنا تأكيدُ النصَّينِ على أنَّها (أرضُ الحياةِ)، فليسَ من الضروريِّ أنْ نَفْهَمَ أنَّهَا مَسَاحَةٌ مُعيَّنَةٌ على أرضِنَا خاصَّةً وإنَّ النصّ الإسلاميَّ يؤكِّدُ على وجودِهَا في ظُلْمَةٍ، وهذا لا يَصِحُّ بالطبعِ إلاَّ على كوكبٍ آخرٍ.
ولكنَّ المؤسِفَ أنَّ هذِهِ المَلْحَمَة لم تُتَرْجَمُ كاملَةً بالرغم من أهمِّيَتِهَا وطولِهَا حيثُ تبلغُ حوالي (175) بيتاً في ألواحٍ عَدَدُهَا أربَعَة عشر لوحاً، إذ لم يُترْجَمُ منها سوى تِلْكَ الخلاصَةِ التي تَرْجَمَهَا (باقِرُ) والتي تَبْلَغُ حوَالي (100) بيتٍ مَعَ إهمالِ الألفاظِ في الأجزاءِ المَخْرومَةِ.

الثالِثُ: التَشَابِهُ بَيْنَهُمَا في سُلوكِ الظُّلْمَة
اشْتَرَكَتِ القِصَّتانِ في هذا الأمرِ، فَقَدْ سَلَكَ ذو القرْنَينِ الظُّلْمَة بحثاً عن الخلودِ، وكَذلِكَ فَعَلَ جلجامشُ في المَلْحَمَة.
فَحينَمَا قَالَ المَلَكُ روقائيل في النصّ الإسلاميِّ (لا أدري.. الخ) صَعَدَ إلى السَّمَاء وتَرَكَ ذا القرْنَينِ حزيناً غايةَ الحُزْنِ، إذ لم يُكْمِلَ لَهُ المُهِمَّةَ ويُدِّلُهُ على الموضِعِ فلم يقْدِرْ على النَّوْمِ بَعْدَ ذلكَ.
وَقَدْ دَعَاهُ ذلكَ إلى أنْ يَجْمَعَ كلَّ علماءِ وحُكَمَاءِ المَمْلَكَةِ وجميعَ ما أثروه من الكُتِبِ بحثاً عن موضِعِ هذِهِ العينِ من منطقَةِ الظِّلامِ.
ويَقولُ النصّ أنَّ الحُكَمَاءَ أَجَابوهُ واجْتَمَعَ عنده ألْفُ حَكيمِ وعَالِمٍ وَفَقيهٍ، ولكنَّهُم عَجَزوا عن إجابةِ المسألةِ وتحقيقِ مطلبِهِ في تحديدِ الموضِعِ.
وكانَ في الحُضورِ صبيٌّ صغيرُ السِّنِّ من أولادِ الأنبياء هو الذي دَنَا من المَلِكِ وكلَّمَهُ في آخرِ المَطَافِ قائلاً: (أيُّها المَلِكُ إنَّكَ تَسْأَلُ هؤلاءِ أمراً ليس لَهُم بِهِ عِلْمٌ، وعِلْمُ ما تُريدُ عندي)، فَفَرِحَ ذو القرْنَينِ فرحاً شديداً حتَّى نَزَلَ عن فراشِهِ وقَالَ: (أدْنُ منِّي) فَدَنَا مِنْهُ، فقَالَ: (أخْبِرْنِي) قَالَ: (نَعَمْ أيُّها المَلِكُ إنِّي وَجَدْتُ في كتابِ آدم الذي كُتِبَ يوم "سمَّى لَهُ الله" ما في الأرضِ من عينٍ أو شَجَرٍ فَوَجَدْتُ فيه أنَّ للهِ عيناً تدعى عَينَ الحياةِ فيها عزيمةٌ من اللهِ من شَرِبَ منها لم يَمُتْ حتَّى يكونُ هو الذي يَسْألُ اللهَ الموتَ بِظُلْمَةٍ لم يطأها إنسٌ ولا جانٌ)، ففَرِحَ ذو القرْنَينِ وقَالَ للغُلامِ: (أَتَدْري أينَ موضِعُهَا؟)، قَالَ: (وَجَدْتُ في كتابِ آدمَ أنَّ موضِعَهَا على قَرْنِ الشَّمس) يُريدُ مَطْلِعَهَا).. انتهى المقصودُ من النصّ/ البرهان للتوبلي-ج16/484.
وسوْفَ نلاحِظُ قريباً إصرارِهِ على سلوكِ هذِهِ الظُّلْمَة، وهو نَفْس الأمرِ الذي ظَهَرَ في المَلْحَمَة في فقراتٍ متلاحقَةٍ تؤكِّدُ شِدَّةَ الظِّلامِ بَيْنَ يَديْهِ ومِنْ خَلْفِهِ:
.. وَلمَّا قَطَعَ سَاعَةً مُضَاعَفَةً كانَ الظِّلامُ حَالِكاً ولا نُور
لم يُبْصِرْ ما أمامَهُ وما خَلْفَهُ
وسَارَ ساعتينِ مُضَاعفتينِ
ولَمْ يَزَلْ الظِّلامُ حَالِكاً ولا نور
فلم يُبْصِرْ ما أمامَهُ وما خَلْفَهُ
"…هنا انخِرامٌ في اللَّوح…"
وسَارَ خَمْسَ ساعاتٍ وستَّ ساعاتٍ
وسَبْعَ ساعاتٍ وثمانيَ ساعاتٍ مُضَاعفةٍ
ولَمْ يَزَلْ الظَّلامُ دامساً ولا نُور
ولم يُبْصِرْ ما أمامَهُ وما خَلْفَهُ
وبَعْدَ إنْ قَطَعَِ تِسْعَ ساعاتٍ مُضَاعَفَةٍ
أحَسَّ بالريحِ (تَلْطِمُ) وجْهَهُ
ولَمْ يَزَلْ الظَّلامُ دامساً
فلَمْ يُبْصِرْ ما أمامَهُ وما خَلْفَهُ
قَدْ يَحْسَبُ المِرءُ وهو ينْظُرُ إلى النصِّ بسذاجةٍ أنَّ الكاتِبَ يُمْعِنُ في التِكرارِ المُمِلِّ، بل صَرَّحَ بذلكَ بَعْضُهُم وزَعَمَ أنَّ النصّ يُكَرِّرُ العباراتِ نَفْسَهَا بِصُورَةٍ مُمِلَّةٍ ومُزْعِجَةٍ.
لكنَّ التكرارُ هنا لَهُ ما يبرِّرُهُ، إذ الغايةُ مِنْهُ إعْطَاءُ وَصْفٍ دقيقٍ للسَّفَرِ في الفَضَاء من خلالِ الاستحواذِ الزمنيِّ على ذِهْنِ القارئِ، وهو الأمرُ الذي حَاوَلَتْ (السينما) معالجَتَهُ بطرائِقِهَا الخاصَّةِ والذي تَصْعُبُ جداً مُحَاكاتُهُ في النصّ الأدبيِّ إلاَّ بطريقِ التِكْرَارِ… إذ هو الذي يُوحي في ذِهْنِ المُتَلَقي بهذا الامتدادِ الطويلِ للزَّمنِ خلالَ السَّفَرِ واستمرارِ الظِّلامِ من جميعِ الجهاتِ. أمَّا تكرارُ (المقولِ) نفْسِهِ في مواضِعَ أخرى فليسَ كَمَا زعموا بكونِهِ على طريقَةِ ألفِ ليلةٍ وليلة!.
فإنَّ الذي كَتَبَ النصّ على ألواحِ الطِّينِ المفخورِ كانَ يَرْغَبُ في إيصالِهَا إلى أبْعَدِ نُقْطَةٍ من التاريخِ المستقبليِّ، وكانَ بِمَقدورِهِ أنْ يَكْتُبَ النصّ على أيَّةِ طريقَةٍ شاَء بَيْدَ أنَّهَا لا تَعْمِرُ طويلاً ولا تُقَاوِمُ الرطوبَةَ والأملاحَ والنارَ. ولو سَأَلْتَني الآنَ: ما هي أفْضَلُ طريقةٍ لحِفْظِ نِصِّ ما لآلافِ السنينَ؟. فالجوابُ في القرنِ العشرين هو نَفْس الجوابِ في القرنِ الثلاثين قَبْلَ الميلادِ!.
فإنَّ (المايكروفلم) و(الورقَ) و(الجِلْدَ) و(البَرْدي) وكلَّ الوسائلِ الأُخرى لن تَكونَ فيها ضمانةٌ مِثْلُ ألواحِ الطينِ المفخورةِ. فلم يَكُنْ البابليُّ إذن عاجزاً عن وسيلةٍ أخرى لتسجيلِ أشياءِهِ الهامَّةِ بِقَدْرِ ما كانَ يَحْسِبُ لمسألةِ العُمُرِ حِسَابَهَا العلميَّ الدقيقَ. فلَوحُ الطِّينِ المفخورِ هو الوحيدُ الذي يَصْمِدُ أمامَ الرطوبَةِ حيثُ يَتْلِفُ الوَرَقَ والبرديَّ والخَشَبَ أمامَ النارِ، وحيثُ يَتْلِفُ الجِلْدُ والخَشَبُ والوَرقُ أمامَ الأملاحِ. فلَوحُ الطِّينِ يُقَاوِمُ جميعَ العوامِلِ المُحْتَمَلَةِ في الطبيعةِ عدا أنَّهُ إذا كُسِرَ أو حُطِّمَ أمْكَنَت إعادةُ أجزاءِهِ بعضِهَا إلى بعْضٍ. ولقد كانت إعادةُ الفقراتِ وتكرارُهَا يَأْخُذُ بنَظَرِ الاعتبارِ التَّلَفَ المُحْتَمَلَ علاوةً على كونِهِ قضيَّةً أدبيَّةً تُزيدُ النصّ جمالاً وأهميَّةً. فالتكرارُ ليس سيِّئَاً في كلِّ الأحوالِ، بل لَهُ أحكامٌ خاصَّةٌ حيثُ يُحْسِنُ في مواضِعٍ دونَ مواضعٍ أخرى.
لاحَظْنَا من قَبْلِ أنَّهُ بَعْدَ الساعةِ التاسعةِ دَخَلَ أجواءَ الغلافِ الجويِّ للكوكبِ الآخرِ أو(القَمَرِ) الذي توجَّهَ إليه، ولذلك شَعَرَ بالريحِ تَلْطِمُ وجْهَهُ، وسوف يَشْعُرُ بَعْدَهَا بقوَّةِ جَذْبِ الكوكبِ في الساعةِ التاسعةِ أو العاشرةِ بِحَسَبِ التَرْجُمَةِ حيثُ قَالَ النصّ:
شَعَرَ بقوَّةِ الريحِ وأَخَذَ يهوي على وجْهِهِ!
وهذه هي ترجمَةُ (باقرِ)، بينما وَجَدَ الأحمَدُ العبارةَ غريبةً فَزَعَمَ أنَّهَا (الريحُ تَلْطِمُ وجْهَهُ)!. وَقَدْ أوضَحْنَا هذا النصّ من قبل في الموضوعِ (غابة الأرز أم غابة الأشجار الصّخريّة) من هذا الكتاب.

الرابع: التَّشَابِهُ في نَصَاِئِح الشُّيوخِ لَهُمَا
في النصّ الروائيِّ وفي النصّ الملحميِّ تَشَابِهٌ شديدٌ في هذِهِ التحذيراتِ وَصِيَغِهَا اللغويَّةِ.
ففي النصِّ الروائيِّ الذي ذَكَرْنَا فَقَرَاتٍ مِنْهُ سابقاً وَرَدَ ما يلي:
(قَالَ ذو القرْنَينِ يا مَعْشِرَ الفُقَهَاء والعُلَمَاءِ أنِّي أُريدُ أنْ أَسْلُكَ هذِهِ الظُّلْمَة، فَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وقَالَوا يا أيُّها المَلِكُ إنَّكَ تَطْلِبُ أمَرَاً ما طَلَبَهُ ولا سَلَكَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكَ مِنَ النبيِّينَ والمُرْسَلينَ قَالَ لا بُدَّ لي من طَلْبِهَا..).
ويبدو أنَّ الاعتراضَ على الرحلةِ قَدْ تكرَّرَ على المَلِكِ في التوجُّهِ إلى الظِّلامِ أكْثَرَ من مرَّة. لكنَّ فَقَرَةً من هذا الموضِعِ تؤكِّدُ لنا بجَلاءٍ أنَّ الرحلةَ المُزْمَعَ القيامَ بها كانت إلى الفَضَاء تحديداً، إذ وَرَدَتْ فيها عباراتٌ صريحةٌ جداً بذلك. فالنصائحُ الأخيرةُ قُدِّمَتْ لَهُ في حافَّةِ منطِقَةِ الظَّلامِ!. ومعلومٌ أنَّ هذِهِ الحافَّةَ على حدودِ الغِلافِ الغازيِّ للكُرَةِ الأرضيَّةِ، وهذا يَعْني أنَّ بَعْضَ الأعْوَانِ اصطحبُوهُ إلى هناك. قَالَ النصُّ:
(فلما اجْتَمَعُوا إليهِ تَهَيَّأَ للسَّيْرِ وتَأَهَّبَ لَهُ فَأَعَدَّ العِدَّةَ وأَقْرَبَ القوَّةَ فَسَارَ بِهِم يُريدُ مَطْلَعَ الشَّمس يَخوضُ البِحَارَ ويَقْطَعُ الجِبَالَ والفيافيَّ والأرضينَ والمفاوِزَ فَسَارَ اثنتي عشرة سنةً حتَّى انتهى إلى طَرْفِ الظُّلْمَة فإذا هي ليست بظُلْمَةِ ليلٍ ولا دُخَانٍ ولكنَّها هي التي بَيْنَ الأُفُقَينِ) عن الإمام علي/ البرهان/ ج16/484-م2/.
لَقَدْ أستَخْدَمَ النصُّ خمسَةَ ألفاظٍ لِوَصْفِ العَوارِضِ خلالَ الرحلةِ إلى الظُّلْمَة ذاتِ الطبيعةِ الغربيةِ، إذ هي ليست ظُلْمَةَ ليلٍ ولا دُخانٍ. وهذا بالطبعِ لا يَصْدِقُ إلاَّ على ظُلْمَةِ الفَضَاء التي هي (بَيْنَ الأُفُقَيْنِ) أو ما بَيْنَ كوكبٍ وآخرٍ. فالأفقُ هو مَنْظَرُ انطباقِ أو تلاقي السَّمَاء مَعَ الأرضِ، والنقطةُ الواقِعَةُ بَيْنَ أُفُقينِ هي قَطْعَاً نقطةٌ تقَعُ خارجَ أيِّ واحِدٍ مِنْهُما. وكَذلِكَ استَعْمَلَ صيغةَ الجَمْعِ للأرضِ (الأرضين) للإشارةِ إلى الكواكبِ الأرضيةِ. وهذا يَدِلُّ على أنَّ الموقِعَ المَنْشودَ ليس أَقْرَبَ الكواكبِ، بل تَفْصِلُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الأرضِ كواكبٌ أو أقمارٌ استَعْمَلَهَا كَمُحَطَّاتِ تَوَقُّفٍ، وهو ما سنلاحِظُهُ في المَلْحَمَة. على إنَّكَ تَدْرِكُ العلاقةَ بَيْنَ النصِّ وبَيْنَ المَلْحَمَة حينما قَالَ (عَرَفَ جميعَ الأراضي).
لَقَدْ أعتَرَضَ الشيوخُ الحُكَمَاءُ في هذا النصِّ على رحلةِ ذي القرْنَينِ، وهذا ما نَجِدُهُ أيضاً في النصِّ البابليِّ، فهو قَدْ خاطَبَهُم بنَفْسِ الخِطَابِ تقريباً وأجَابوهُ بِنَفْسِ الإجابَةِ:
اسْمَعُوا شيْبَ أوروكَ ذاتِ الأسْواقِ
أريدُ أنا جلجامشُ أنْ أرى الذي يتَحَدَّثونَ عَنْهُ
الذي مَلأَ أسمُهُ البُلدانَ بالرُّعبِ
إذن.. فهذا الذي يتحَدَّثونَ عَنْهُ لم يَرَهُ أحَدٌ. وَقَدْ أقَرَّ الشيوخُ بذلك حينما قَالَوا: (سَمِعْنَا أنَّ بُنْيَتَهُ غَريبَةٌ)، ومن هنا اعتَرَضُوا قائلينَ:
يا جلجامشُ أنتَ شَابٌّ وَقَدْ حَمَلَكَ قَلْبُكَ مَدَىً بَعِيْدَاً
إنَّكَ لا تَعْلَمُ عاقِبَةَ ما أنتَ مُقْدِمٌ عليه
هذا الاعتراضُ عيْنُهُ جاءَ في نصِّ الإمامِ عليٍّ (ع):
(قَالَوا أيُّها المَلِكُ لو كُنَّا نَعْلَمُ إنَّكَ إنْ سَلَكْتَ الظُّلْمَة ظَفَرْتَ بحاجَتِكَ بِغَيْرِ (خَطَرٍ) عليكَ لأَمَرْنَا؟ ولكنَّا نَخَافُ أنْ يَعْلِقَ بِكَ منها شيءٌ يكونُ فيه هَلاكُ وزَوَالُ سُلْطَاَنكَ وفَسَادُ مَنْ في الأرضِ).
إذن.. فالاعتراضُ كانَ يَحْمِلُ مُبَرَّرَاً واحِدَاً وهو عَدَمُ مَعْرِفَةِ أو تَقْديرِ نَجَاحِ المُهِمَّةِ. وكانَ جوابُ جلجامشَ هو نَفْس جوابِ ذي القرْنَينِ والذي يتَلَخَّصُ بعبارةِ (لا بُدَّ لي من ذلكَ).
لَقَدْ كانَ أنكيدو في الرحلةِ الأولى أكثَرَهُم ظهوراً في الاعتراضِ، لكنَّ جلجامشَ أجابَهُ قائلاً:
يا صَديقِي مَنْ ذا الذي يَسْتَطِيعُ أنْ يَرْقَى إلى السَّمَاء؟
فَهَلْ نَفْهَمُ من هذِهِ العبارةِ عَدَمَ قُدْرَتِهِ على ارتِقَاءِ السَّمَاء؟. إنَّ الأمْرَ لَهُوَ بالعكسِ تماماً، فإنَّ العبارَةَ لا مَعْنَى لَهَا لو كانَ السَّفَرُ في الأرضِ، بل المعنى أنَّهُ ليس بِمَقدورِ أيِّ واحِدٍ أنْ يَفْعَلَ ذلكَ. وما دَامَ هو قَدْ حَصَلَ على عِلْمٍ وقُدْرَةٍ للارتقاءِ فَمِنَ العَجْزِ والجُبْنِ أنْ لا يَسْتَخْدِمَهَا لتأمينِ حياةِ الأرضِ من العَدوِّ. فإذا فَعَلَ وارتَقَى السَّمَاء فسيكونُ عَمَلُهُ فريداً من نوعِهِ، ولذلك وَبَّخَهُ قائلاً:
لَقَدْ صِرْتَ تَخْشَى المَوتَ ونَحْنُ مَا زِلْنَا هنا
فماذا دَهَى قوَّةُ بطولتِكَ؟
إذن.. فجلجامشُ لا يَخشَى الموتَ، وهذا نقيضُ المِحْورِ في المَلْحَمَة، إذ هي عِنْدَ الشُرَّاحِ عبارةٌ عن مُحَاوَلَةٍ للفرارِ من الموتِ!.
إنَّ الأمْرَ ليس بهذِهِ السذاجَةِ التي يَظْهَرُ فيها تناقضٌ ظاهريٌّ، إنَّمَا مَرَدُّ ذلكَ إلى حالةِ التناقضِ الداخليِّ الذي يعيشُهُ كلُّ مُتَفَوّقٌ. فالأولياءُ هم دوماً بهذِهِ الصفَةِ فتراهُم يقدِمُونَ على الموتِ لشِدَّةِ مَقْتِهِم لَهُ وحُبِّهِم للحياةِ الأبديةِ. فالموتُ لا يغلِبُهُ إلاَّ الخلودُ أو الموتُ نفْسُهُ. وهنا يَخْتَارُ جلجامشُ الطريقَ الثانيَّ وهو غِلْبَةُ الموتِ بالموتِ.. لماذا؟.. لأَنَّهُ هنا يتحَدَّثُ عن الخَطَرِ المُحْدِقِ بالأرْضِ، وهذا النصُّ هو في الرحلةِ الأولى، فَلمَّا نَجَحَ في قَتْلِ العَدوِّ ولم يَمُتْ نَشَدَ غِلْبَةَ الموتِ بالطريقِ الآخرِ وهو البَحْثُ عن الخلودِ. فليس ثمَّة تناقضٌ في النصِّ. وللإمامِ عليِّ (ع) قَوْلٌ مشْهورٌ بهذا الصَّدَدِ هو:
(إذا خَشيتَ من شيءٍ فَقَعْ فيه، فإنَ الوُقوعَ فيهِ خَيْرٌ من شِدَّةِ توَقِّيهِ).
لَقَدْ أعتَرَضَ الشيوخُ على الرحلةِ خوفاً على مَلِكِهُمْ من زَوَالِ مُلْكِهِ وفَسَادِ مَنْ في الأرضِ، وهذا واضحٌ الآنَ فأنِّ تِلْكَ القوَّةَ ستُحَاوِلُ الانتقامَ من أهْلِ الأرضِ عِنْدَ فَشَلِ المُحَاوَلَةِ في القَضَاء عليها.
فلماذا لَمْ يَظْهَرْ اعتراضٌ كهذا في الرحلةِ الثانيةِ إلى أوتو- نوبشتم؟.
هَلْ أَهْمَلَ الكاتِبُ ذلكَ أمٍْ سَقَطَ الجزْءُ الخاصُّ بالاعتراضِ من الرحلةِ الثانيةِ والتي هي أخْطَرُ وأبْعَدُ من الأولى أمْ الصحيحُ هو قَوْلُ الشُرَّاحِ أنَّهُ (هَامَ على وجهِهِ في البراري بَعْدَ موتِ أنكيدو!!)؟.
إنَّ الاحتمالَ الثانيَّ هو الصحيحُ والمُتَعَيَّنُ فَقَدْ أنخَرَمَ هنا قَبْلَ أنْ يُقَرِّرَ الذهابَ إلى أوتو-نوبشتم ولم تمكُنْ قراءةُ الرقيمِ إلاَّ وهو على مشارِفِ جَبَلِ (ماشو) العجيبِ. فلنناقِشَ تعليقَ طه باقر على الأجزاءِ المخرومةِ. قَالَ:
(باقي النصِّ مُشَوَّهٌ تَتَعَذَّرُ ترجمتُهُ ولكنْ يبدو أنَّ جلجامشََ قَامَ بشعائرِ الدَّفْنِ الخاصَّةِ وصَارَ يرثي صديقَهُ ويندبُهُ ويبكيهِ ليلَ نهارَ ثمَّ شَرَعَ يهيمُ على وجْهِهِ في البراريَّ ثمَّ قامَ برحلتِهِ البعيدةِ قاصداً أوتو ـ نوبشتم) باقر ـ 127.
أقولُ: (مِنْ أينَ عَلِمَ باقِرُ هذِهِ الأفعالَ والنصُّ المشَوَّهُ تتعَذَّرُ ترجمتُهُ؟، إذ ليس من المعقولِ أنْ يهيمَ المَلِكُ على وجهِهِ في البراريَّ والقِفَارِ ويَتْرُكَ مَملِكتَهُ مهما َبلَغَ به التأثُّرُ لموتِ صديقِهِ)!.
وهذا كلُّهُ يناقضُ توجِّهاتَهُ وإقرارَهُ بحقيقةِ الموتِ وتوبِيخَهُ لأنكيدو إذ يخافُ الموتَ والذي رأيناهُ قَبْلَ قليلٍ.
الذي دَعَاهُ (أي باقرَ) لذلك ثلاثةُ عوامِلٍ. الأوَّلُ: الفَصْلُ بَيْنَ جلجامشَ المَلِكِ وجلجامشَ المَلْحَمَة. فالأوَّلُ حقيقةٌ أما جلجامشُ البَطَلُ فهو أسطورةٌ جَرْيَاً وراءَ المُحلِّلينَ الغربيينَ. وهذه ثغرةٌ قاتلةٌ في البحثِ التاريخيِّ وجنايةٌ على الحقائقِ.
فما أدْرَاهُم أن جلجامشَ جَمَعَ شِيبَ أوروكَ مرَّة أخرى وأَعْلَنَ لهم عن عَزْمِهِ على اختراقِ الظُّلْمَة الأبْعَدِ والوصولِ إلى أتو ـ نوبشتم؟
والعامِلُ الثاني: هو التساهِلُ في وضْعِ أيِّ ترتيبٍ معقولٍ ظاهرياً للقصَّةِ بتخمينِ ما حَدَثَ في الأجزاءِ المخرومَةِ. وهذا الأسلوبُ لا يَتَّسِمُ بالمنهجيةِ في البحثِ ولا يتضمَّنُ الدِّقَةَ العلميَّةَ. وأمَّا العاملُ الثالثُ فهو: مساعدةُ الفَهمِ الاعتباطيِّ للُّغةِ لأجلِ وَضْعِ تصوُّراتٍ من هذا النوعِ. فالألفاظُ التي تُذْكَرُ في مَعْرِضِ الحديثِ عن المشاكلِ التي واجَهَتْهُ هي من نوعِ: المفاوزِ ـ البراري ـ الجبالِ ـ البحاِر…الخ. فهذهِ الألفاظُ ألهَمَتْهُم أنْ يكونَ قَدْ هامَ على وجهِهِ فيها بالرغمِ من أنَّها جاءت عِنْدَ استقامةِ النصّ للترجمةِ خلالَ الرحلةِ لا قَبْلَهَا جُمُوداً على معانيها الاصطلاحيَّةِ عندهُم. بينما تِلْكَ الألفاظُ كغيرِهَا هي بدلالةٍ عامَّةٍ تَصْدِقُ على كلِّ ما يتَّصِفُ بها من غَيْرِ تحديدٍ كَمَا ستلاحِظُ قريباً.

صورة رمزية إفتراضية للعضو علي العذاري
علي العذاري
انتقل لرحمة الله
°°°
افتراضي
الخامِسُ: التَشَابِهُ في اتِّجَاهِ الرحْلَةِ
حدَّدَ النصُّ القرآنيُّ اتجاهاتِ الرحلةِ بِمَطْلَعِ الشَّمس ومَغْرِبِ الشَّمسِ:
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) (الكهف: من الآية86)
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً) (الكهف: 89ـ90)
أما النصُّ البابليُّ فَقَدْ كرَّرَ نَفْسَ الاتِّجاهاتِ المُرتَبِطَةِ بمَطْلَعِ ومَغْرِبِ الشَّمسِ.
فَقَدْ أعادَ ذِكْرُ المَطْلَعِ والمغْرِبِ أكثرَ من مرَّة بما في ذلكَ ذِكْرُها في الافتتاحيةِ في اللَّوح الأوَّلِ:
إنَّهُ هو الذي فَتَحَ مجازاتِ الجِّبَالِ
وحَفَرَ الآبارَ في الجِّبَالِ
وعَبَرَ البَحْرَ والمُحيطَ
إلى حيثُ مَطْلَعِ الشَّمسِ
وحَينَمَا نَقْتَرِبُ من الرحلةِ في اللَّوحِ التاسِعِ يُعيدُ النصُّ وبدِقَّةٍ مُدْهِشَةٍ الإعلانَ عن الجِهَةِ في الموقعِ والتَرتيبِ، حيثُ جاءَ ذلكَ على لِسَانِ حارِس الجَّبَل (الرجُلِ العَقْرَبِ) حَسَبَ الترجُمَةِ وهو يَنْصَحُ جلجامشَ بالرجوعِ من حيثُ أتى قائلاً:
الظِّلامُ حَالِكٌ ولا يُوجَدُ نُورٌ
وإلى مَطْلَعِ الشَّمسِ…
والى مَغْرِبِ الشَّمسِ…
ولكنَّ المؤسِفَ أنَّ النصَّ يَنْخَرِمُ هنا مرَّةً أخرى وفي أشَدِّ المواضِعِ أهميَّةً من الناحيةِ العلميَّةِ. وبعْدَ الوصولِ إلى أوتو ـ نوبشتم يخاطِبُهُ جلجامشُ قائلاً:
اسمي جلجامشُ أنا الذي أتى مِن أوروكَ
من أيِّ أنَا
وأجتاز البِحَارَ ورَكَبَ الأسفارَ الطويلةَ
من مَطْلَعِ الشَّمسِ جِئْتُ لأراكَ
لم تكنْ رحلةُ جلجامشَ رحلةً عاديةً ولا أسطورةً وهميَّةً مَعَ ما سنلاحِظُهُ مِنْ علاقاتٍ علميَّةٍ بَيْنَ النصّينِ لوَصْفِ الجِّبَاِل الذي سيأتي قريباً. ولكن ذلكَ أُورِدُ قبلَ ذلكَ النصَّ المُترجَمَ عن الكسرَةِ (ل) من الرقيم (208) ـ تل اسبحالي، الذي يَذْكِرُ وصفاً عِلميّاً غريباً في وجْهِهِ الأوَّلِ:
قَالَ جلجامشُ لأنكيدو سَنَصِلُ إلى…. (هنا إنخرامٌ في النصِّ)
إنَّ حُزَمَ الأشعَّةِ المُضيئَةِ ستَضْطَرِبُ وتختفي
سَتَتَلاشى الحُزَمُ المضيئَةُ
ويصبحُ الضوءُ كَدِرَاً مُعتمَّاً
أجابَ أنكيدو جلجامشَ قائلاً:
يا صديقي…
إذا أمْسَكْتَ بالطائِرِ فأينَ تَذْهَبُ صِغَارُهُ؟
دِعْنَا نَبْحَثُ عن حُزَمِ الأشعَّةِ المضيئَةِ فيما بَعْدُ
(أنظر الملحق /2/179 ـ من الإضافاتِ الجديدةِ لطه باقر)
ويبدو هذا النصُّ على علاقةٍ وطيدةِ بنصِّ وَرَدَ عن الإمامِ عليٍّ (ع) بشأنِ الكائنِ الذي التقاه ذو القرْنَينِ، والذي هو شبيهٌ بطائِرِ الخطاف وَقَدْ ارتَبَطَتْ رؤيَتُهُ لهذا الطائرِ بنوعٍ من الإضاءةِ فعلاً، فَقَدْ قَالَ النصُّ:
(.. فإذا هو بقَصْرٍ مبنيٍّ على طولِ فرسَخٍ فَجَاءَ ذو القرْنَينِ إلى البابِ وعَسْكَرَ عليه ثمَّ تَوَجَّهَ وحْدهُ إلى القَصْرِ فإذا طائِرٌ وإذا حديدةٌ جليلةٌ قَدْ وَضَعَ طَرَفَاهُ على جانِبِ القَصْرِ والطيرُ الأسوَدُ مُعَلَّقٌ في تِلْكَ الحديدةِ بَيْنَ السَّمَاء والأرضِ كأنَّهُ خَطَّافٌ أو شبيهٌ بالخَطَّافِ أو هو خطَّافٌ، فلما سَمَعَ خشخشةَ ذي القرْنَينِ قَالَ: من هذا؟. قَالَ: أنا ذو القرْنَينِ. فَقَالَ: أمَا كفَاكَ ما ورَاءَكَ حتَّى وصَلْتَ إلى حَدِّ بابي؟. وكَذلِكَ حينما خَرَجوا إلى ضوءٍ ليس بضوءِ شمسٍ ولا قَمَرٍ ولا نهَارٍ ولكنَّهُ نورٌ) ـ
نَقَلْنَاهُ بتقديمٍ وتأخيرٍ يسيرٍ من نَفْسِ المَصْدَرِ.
أن هذا النصَّ يبدو شبيهاً إلى حَدٍّ ما بِمَا مذكورٍ في الكَسْرَةِ الآنفةِ الذِكْرِ ويبدو متَّفِقَاً مَعَ رحلتهِ الأولى لقتْلِ خمبابا أو (خواوا) من وجُوهٍ منها:
ö إنَّهُ تَقَدَّمَ وحْدهُ إلى مَنزِلِ هذا الكائنِ، وهو ما ذَكَرَهُ النصُّ البابليُّ بعْدَ إنْ ذَعرَ أنكيدو من المَخْلوقِ.
ö إنَّهُ سَأَلَ من هذا؟ وفي النصِّ البابليِّ سَأَلَ:
مَنْ هذا الذي كَدَّرَ صفوَ الغابَةِ في جَبَلِي؟
ö إنَّ الطائِرَ في النصِّ يَكْبَرُ ويَصْغُرُ بِحَسَبِ علاقَتِهِ بذي القرْنَينِ الذي أرتَعَبَ مِنْهُ أشَدَّ الرُّعْبِ واستَطَاعَ في النهايةِ أن يجعَلَهُ يتضاءَلُ إلى أدنى حَدٍّ بالحديدَةِ المُعَلَّقِ بها. وفي النصِّ البابليِّ أنَّ الريحَ الثمانيةَ هَبَّتْ على خمبابا ومَنَعَتْهُ من الحركةِ. أمَّا في المأثورِ فأن حركتَهُ شُلَّتْ بالحديدةِ الكبيرةِ المُعَلَّقِ بها.
ö في المأثورِ أنَّ ذي القرْنَينِ توصَّلَ إلى ذلكَ بالتوسُّلِ إلى اللِه وتَقْديمِ الطاعاتِ، وفي النصِّ البابليِّ توصَّل إلى النَصْرِ من خلالِ التوسُّل بـ (شمش). لكنَّ النصَّ مُهَشَّمٌ في مواضِعٍ كثيرةٍ أفْقَدَتْ مِنْهُ التَسَلْسُلَ.
ö إنَّ لَفْظَ (خَطَّافٍ) قريبٌ دلالةً أو أصواتاً من اللفظِ (خواوا)، وقولُ النصِّ أنَّهُ (شبيهٌ بالخطَّافِ أو كأنَّهُ خَطَّافٌ أو هو خَطَّافٌ) ليس من بابِ التَرَدُدِ والشَّكِ، وإنَّمَا (خَطَّافٌ) هو على المعنى العامِّ لهذا اللفظِ، بَيْدَ أنَّهُ شبيهٌ به إذا كانَ المرْءُ لا يَدْرِكُ من الخَطَّافِ إلاَّ الخطَّافَ المعلومَ في ذِهْنِهِ.
بِهَذَا.. يبدو أنَّ علينا أنْ نَتَّصِفَ بنوعٍ من التواضُعِ أمامَ بَعْضِ الأشياءِ التي لا نَدْرِكُ مَغْزَاهَا، فإنَّ الرَّفْضَ هو دوماً أسْهَلُ السُّبُلُ وهو سبيلُ الجُهَلاءِ لأَنَّهُ لا يُوجِبُ عليهم الإتيانَ بأيَّةِ أدِلَّةٍ كالتي يُوجِبُهَا الإيمَانُ بالأشياءِ الغَريبَةِ حيثُ ينبغي تفسِيرُهَا بصورَةٍ مقبولَةٍ.
إنَّ اعتقادَنَا بأنَّنا عَرَفْنَا أسرارَ الطبيعةِ وحْدَنَا دونَ سِوانَا من الأُمَمِ السالفَةِ هو اعتقادٌ يحتاجُ إلى أكثرِ من وقْفَةٍ. أولاً لأنَّنَا لم نَدركْ بَعْدُ كلَّ الأشياءِ ليكونَ التاريخُ جزءاً من هذا المُدْرَكِ ويكونُ بذلك جزءاً مفروغاً مِنْهُ، وهذا يدِلُّ على أنَّ ما فَعَلْنَاهُ على جَهْلِنَا هو بحدود ما نَعْلَمُهُ في أقلِّ الأحوالِ. وثانياً لأنَّ التاريخَ نَفْسَهُ يُكَذِّبُنَا ويُقَدِّمُ لنا أسئلةً محرِجَةً جداً لا تمكنُنَا الإجابةُ عليها ونحن على هذا التصوُّرِ من معارفِنَا.
فمثلاً أنَّنَا نَعْتَقِدُ أنَّ (قَرْنَ الشَّمسِ) هي عبارةٌ خرافيَةٌ لجَهْلِنَا باللُّغةِ التي تَحَدَّثَ بها صاحبُ العبارةِ. وَقَدْ يَحِقُّ لنا ما دُمْنَا جهلاء بها أنْ نَعْتَقِدَ أنَّها خرافيَةٌ، ولكنَّ جَهْلَنَا قَدْ تَجَاوَزَ هذِهِ الحدودَ، ذلكَ لأنَّ قاِئلَ العبارةِ نَفْسَهُ يَذْكِرُ لنا في موضِعٍ آخرٍ أنَّهُ ارتقى إلى الفَضَاء قبل ألف وأربعمائة سنةٍ، وهو يُقَدِّمُ لنا دليلاً علمياً على كروية الأرض حينما يقولُ أنَّهُ عِنْدَ رجوعِهِ من الرحلةِ إلى الأرضِ (رأينا الأرضَ كالدرهم)!!.
فأرجو ملاحَظَةَ هذا النصِّ المأخوذِ من حديثٍ طويلٍ، وأطْلُبُ من السادةِ المُنْكِرينَ للعلومِ القديمةِ التي تَفوقُ العِلْم الحديثَ تفسيراً لَهُ، لأنَّ المخطوطَ الأصليَّ متوَفِّرٌ في مكتباتِ العالَمِ وَقَدْ كُتِبَ قَبْلَ رحلةِ ماجلان بعدَّةِ قرونٍ. إنِّي أُحيلَهُم إلى مخطوطةِ كتابِ البرهانِ للسيّدِ هاشم البحراني /ج16/490/م2 حيثُ ذَكَرَ نِصَّاً يُفيدُ قيامَ بَعْضِ الصحابَةِ بقيادةِ وليٍّ من الأولياءِ بالسَّفَرِ إلى الفَضَاء وأَقْتَصِرُ على ذِكْرِ الفَقَرَةِ الخاصَّةِ بعودِتِهِم من الرحلةِ الفضائيةِ. وهذا هو النصُّ:
(.. ثمَّ سَأَلْنَاهُ الرجوعَ إلى أوطانِنَا فَقَالَ أَفْعَلُ إن شاءَ اللهُ وأَثَارَ السحابتينِ فَتَنَاهَتَا مِنَّا فَقَالَ خُذوا مواضِعَكُم فَجَعَلَنَا على سَحابَةٍ وركبَ أخرى وأَمَرَ الريحَ فَحَمَلَتْنَا حتَّى إذا كُنَّا في الجَوِّ رأينا الأرضَ كالدّرهَمِ ثمَّ حَطَطْنَا في دارِهِ في أقَلِّ من طَرْفِ النَّظَرِ وكان وصولُنَا إلى المدينةِ (يعني المنَوَّرَةِ) وَقْتَ الظهرِ والمؤَذِّنُ يؤذِّنُ وكان خروجُنَا عِنْدَ ارتفاعِ الشَّمسِ فقلتُ أبالله العَجَب كُنَّا في جَبَلِ قافٍ مسيرةَ خمسِ سنينٍ وعُدْنَا في خمسِ ساعاتٍ من النَّهَار؟؟!).
بالطبعِ يمكنُ للمرءِ أنْ يقولَ: ( وكيفَ أُصَدِّقُ أنَّ السحابَةَ تَحْمِلُ الإنسانَ في الفَضَاء؟). لكنَّهُ يَنْسَى في واقعِ الأَمْرِ أنَّ (السحابَةَ) ليست هي من نوعِ السحب التي يَرَاها عادةً. فَمَنْ هو الذي أَعْطَاهُ الحَقَّ في تحجيمِ مَعْنَى المُفْرَدَةِ لِيَخُصَّ بها ما يعجبُهُ أو ما يتصوَّرَهُ في ذهنِهِ وحَسْبُ دونَ سِواهُ من المعاني؟. فهنا تَكْمِنُ مشكلَةُ الاعتباطِ اللغويِّ، لأنَّنَا إذا افْتَرَضْنَا أنَّنَا نقابِلُ رَجُلاً ماتَ مُنْذُ قرونٍ وسَألناهُ: ( ما مَعْنَى (سيارة)؟، فإنَّهُ سيقولُ: (معناها القومُ السائرون والجماعة السائرة). وإذا حَقَّقْنَا مَعَهُ كثيراً فَلَنْ يَصِفَ لنا في كلِّ الأحوالِ (السيارةَ) التي في أذهانِنَا ذاتَ المُحَرِّكِ والعَجَلاتِ!.
فهنا احتمالانِ فَقَطْ: إمَّا أنْ يَحُقَّ لنا أنْ نُسَمِّيها سيارةً لأنَّها تقومُ بِفِعْلِ السَّيْرِ وإمَّا لا يَحُقُّ لنا ذلكَ.
وبالطبعِ يَحُقُّ لنا أنْ نُسَمِّيها سيارةً.. فلماذا يَحُقُّ لنا استعمالُ مُفرداتِ القُدَمَاءِ لِمَا لَمْ يستعملوه مطلقاً ولا يَحُقُّ لهم استعمالُ مُفردات ِاللغة لِمَا لا نَعْرِفُهُ مِنَ الأشياءِ؟
نعم.. لو قَرَأْتَ مُؤَلفاتِنَا اللغويةَ الأُخرى لأنكشَفَ لك الأمْرُ. فثَمَّةُ محاولاتٌ قديمةٌ متجدِّدَةٌ لإبعادِنَا عن الفَهْمِ الصحيحِ للغةِ كي لا نكتشِفَ المراميَّ المزبورةَ في النصوصِ ذاتِ الخطورةِ.
وبالتأكيدِ فإنَّ (السحابةَ) التي رَكَبَهَا الوليُّ وجماعَتُهُ هي (سحابةٌ) على أصْلِ المعنى تقومُ بِفِعْلِ السَّحْبِ ولا علاقةَ لَهَا بالغيومِ، والدليلُ على ذلكَ أنَّهُم رأوا الأرضَ كالدرهمِ، وهو عَيْنُ مَنْظَرِهَا التي تُرى فيه من الفَضَاء في زَمَنٍ كانَ عِلْمُ الفُلْكِ فيه يَعْتَمِدُ على (قُبَّةِ بطليموس) حيثُ السَّمَاء قُبَّةٌ مضروبةُ الإطنابِ كالخيمةِ على الأرضِ المسطَّحَةِ وَقَدْ عُلِّقَتْ فيها النجومُ كَمَا تُعَلَّقُ القناديلُ في الخيمةِ!!.

السَّادِسُ: التَشَابِهُ بَيْنَ جَبَلِ ذي القرْنَينِ وَجَبَلِ جلجامشَ
يَرْحَلُ جلجامشُ في العمودِ الأولِ من اللَّوحِ التاسعِ باتِّجاهِ مَطْلَعِ الشَّمسِ. وهذه العبارَةُ يَجِبُ أنْ لا نَفْهَمَ منها أنَّهُ أتَّجَهَ نَحْوَ المَشْرِقِ!. فالعبارَةُ دقيقةٌ جداً فهي تشيرُ إلى أنَّهُ أتَّخَذَ مَسَارَ الشَّمسِ من مَطْلِعِها اتِّجاهَاً للحركةِ. فَكَمَا تَسيرُ الشَّمسُ من المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ بالنسبةِ لنا فهو يتحَرَّكُ بهذا القوسِ. ولذلك أختلفَ التعبيرُ عَنْهَا في القرآنِ الكريمِ حيثُ أشار في الرحلةِ الأولى إلى مَغْرِبِ الشَّمس. وهذا يعني في الحالتين أنَّهُ يَسيرُ بِقَوسٍ من المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ باتِّجَاهِ الكواكبِ الخارجيةِ وأقْمَارِهَا أي المريخ ـ والمشتري ـ وزحل… ولمَّا كانت نهايةُ اللَّوحِ مُهَشَّمَةً فإنَّهُ يَصِلُ إلى جَبَلٍ غَريبِ الهَيئَةِ يُعْتَبَرُ بالنسبةِ لنا مفاجئاً.
واللَّوحُ التاسعُ متضرِّرٌ بصفَةٍ عامَّةٍ بقَدَرِ السّطورِ المفقودةِ فيه حيثُ يقَدِّرُ طه باقر الأسْطُرَ التالفةَ من العمودِ الأوَّلِ بما لا يَقِلُّ عن (32) سطراً حيثُ قَالَ خلالَ الترجمَةِ:
(ثمَّ بَلَغَ جلجامشُ جَبَلاً عظيماً) والعبارةُ هذِهِ لباقرَ.
ثمَّ قَالَ: (هنا انخرامٌ بِنَحْوِ 32 سطراً يدِلُّ ما بَقِيَ مِنْهُ أنَّ جلجامشَ بَلَغَ الجِبَالَ التي سيأتي وَصْفُهَا).
(وكانَ اسمُ الجَّبَل ماشو) هذِهِ هي أوَّلُ عبارَةٍ من العمودِ الثاني، وعليهِ فالجُزْءُ المُهَشَّمُ يَتَضَمَّنُ وَصْفَاً مُسهِبَاً لكيفيةِ وصولِهِ إلى الجَّبَل ماشو وإلى أشياءٍ أخرى يَصْعُبُ التَكَهُّنُ بها.
أما قَبْلَ ذلكَ فَقَدْ حَدَثَتْ معركةٌ ما مَعَ أجسامٍ تَسْتَخْدِمُ الإضاءَةَ أو الأَشِعَّةَ!. وهذا يَدِلُّ دلالةً كافيةً على تَشَابهِ الرحلتين الأولى والثانيةِ بَيْدَ أنَّهُم تَرْجَموهَا إلى (الأُسودِ) وأنَّ جلجامشَ رآها في حِلْمٍ وهي تَمْرَحُ فاسْتَلَّ سيفَهُ وانقَضَّ عليها وجَعَلَهَا تَفِرُّ مِنْهُ!.
هذِهِ هي الترجمَةُ:
رأيتُ الأُسودَ فَتَمَلَّكَني الرُّعْبُ
رَفَعْتُ رأسي إلى (سينَ) وصلَّيْتُ لَهُ
وفي المساءِ أضْطَجَع فأيقظَهُ حِلْمٌ رَآهُ
رأى (الأُسودَ) حَوْلَهُ تَمْرَحُ مَسْرورةً
في ضوءِ سينٍ (القمر)
رَفَعَ فأسَهُ بيدِهِ واستَلَّ سيفَهُ من غَمْدِهِ
وانقَضَّ عليهِم كالسَّهْمِ
فَضَرَبَهَا وجَعَلَهَا تَفِرُّ مِنْهُ
ولكنَّنا لا نَجِدُ أصلاً لمِثْلِ هذِهِ الترجمَةِ في النصِّ. فالسَّطْرُ (13) لم يَبْقَ مِنْهُ سوى مفردتان: (فاستلقى ـ خائفاً) وما بَعْدَهُ فيه مفردتان: (فَرِحينَ بالحياة) والذي يليه هو: (أَخَذَ فأساً في يدِهِ)… وأذن فالهجومُ لا يُعْلَمُ إنْ كانَ على ما سَمُّوهُ (الأسودِ) أو على غيرِهَا مَعَ افتِرَاضِ صِحَّةِ الترجمَةِ لبقيَّةِ المفرداتِ.
يَدِلُّ على ذلكَ أنَّ (الأُسودَ) المذكورةَ لم تُقْتَلْ، بل (كُسِّرَتْ)، وهو اللفظُ الذي أثْبَتَهُ الأحمدُ في ترجمتِهِ بالرغم من أنَّ لَفْظَ (بارارو) عِندَهُ بثلاثةِ معانٍ هي: (قَتَلَ ـ كَسَرَ ـ هَشَّمَ).
وبِصِفَةٍ عامَّةٍ يَنْبَغي لَنَا ألا نُسَلِّمَ أنَّهُ الآنَ في البريةِ أو الصحراءِ حيثُ الأسود والوحوش لمجرَّدِ أنَّنَا يمكنُ أنْ نُتَرْجِمَ بقايا العمودِ إلى جُمَلٍ مُحْكَمَةٍ تُعْجِبُنَا!.
فلا تُوجَدُ في النصِّ العبارَةُ (جَعَلَهَا تفِرُّ مِنْهُ)، وكلُّ ما بقيَ في السَّطْرِ الثامِنِ عَشَر هو الفِعْلُ (بارارو) وَقَدْ وَقَعَ كاحتمالٍ على ضميرِ الجماعةِ. والناتجُ هو (كسَّرَهُم). فكيْفَ إذا كانَ المعنى الدقيقُ هو (تَلاشَتْ) ويَعُودُ إلى حُزَمِ الإضاءةِ؟.
وأمَّا بقيَّةُ المُفْرَداتِ فهي متفرِّقَةٌ مِثْلُ:
(أكْمَلَهَا، رَمَى، اسم السابق، اسم الثاني، رفع إلى، الرب، ثمانية وعشرون) ثمَّ لا تَظْهَرُ أيَّةُ سُطورٍ واضحَةٍ إلى حدِّ 32 سطراً فينتهي العمودُ الثاني المُمْكِنُ القراءةِ وأوله: (إنَّ اسمَ الجَّبَل ماشو).
فلنحاوِلَ الآنَ بالاعتمادِ على هذا العمودِ إثباتَ نتيجتين: الأولى: إنَّ جَبَلَ (ماشو) هذا هو نَفْسُ جَبَلِ (قاف) المذكورِ كهَدَفٍ أوليٍّ أو محطَّةِ انطلاقٍ أولى لذي القرْنَينِ.
الثانية
: إنَّ هذا الجَّبَل هو نَفْسُ (الجَّبَل المُحيطِ) الذي يذْكُرُهُ الإمامُ عليٌّ (ع) خلالَ شَرْحِهِ لرحلةَِ ذي القرْنَينِ والذي هو جَبَلُ الفيضِ المغناطيسيِّ بحقليهِ الشامِخَيْنِ.
وقَبْلَ ذلكَ لا بُدَّ للقارئِ الكريمِ من ضَبْطِ ما ذَكَرْنَاهُ عن تِلْكَ النصوصِ في أوَّلِ هذا الفَصْلِ إذ يأتي هنا تطبيقُ نتائِجِهَا. وتَسْتَنِدُ هذِهِ النتائجُ إلى أوجِهِ التشابهِ اللفظيِّ ومعانيَّ المفرداتِ وحَرَكَةِ الشخوصِ وإجاباتِهِم والى اتِّفاقِ هذا التصَوُّرِ عن الجَّبَل مَعَ التصوُّرِ العلميِّ للمغناطيسيَةِ الأرضيةِ. وتَتَرَكَّزُ تِلْكَ الأوْجُهُ بالنقاطِ الآتيةِ:

1ـ التشابهُ في وصْفِ الجَّبَل:
لو رَجَعْتَ إلى نصِّ الإمامِ عليٍّ (ع) الذي يَذْكُرُهُ العياشيُّ في آخر صفحات تفسيرِهِ الروائيِّ المفقود إلاَّ هذا الجزء لوَجَدْتَهُ يَصِفُ الجَّبَل بأوصافٍ لا تَنْطَبِقُ على الجِبَالِ المعروفة، بل تَتَّفِقُ فَقَطْ مَعَ (الرواسيَّ) المذكورة ِفي القرآنِ والتي يُقْصَدُ بها كَمَا رأينا من قَبْلُ خطوطَ الفيضِ المغناطيسيِّ الشامخاتِ والتي هي كالجِبَال في مظهرِهَا الخارجي كَمَا في الرَّسْمِ المُرْفَقِ في آخِرِ الكتابِ.
فَقَدْ قَالَ النصُّ: (وهو أوَّلُ جَبَلٍ أسَّسَهُ اللهُ تَعالى وهو مُحيطٌ بالأرضِ كلِّها وأعلاه في السَّمَاء الدُّنْيَا).
أمَّا في النصِّ البابليِّ فَقَدْ وَصَفَ الخطوطَ على أنَّها مجموعةُ جِبَالٍ لا جبلاً واحداً ـ أو جبلاً واحداً ذا قُمَمٍ عديدةٍ ـ حسب ما نَقْتَرِحُهُ للترجُمَةِ لأَنَّهُ عَدَلَ من المُفْرَدِ إلى الجَمْعِ فجأةً وأَعْطَاهُ نَفْسَ الوَصْفِ كَمَا في البيت الرابع:
وقُمَمُهُم تَصِلُ أطْرَافَ السَّمَاء
وقَالَ الإمامُ عليٌّ(ع):
(وأَسْفَلُهُ في الأرضِ السابعةَ ِالسُّفْلى)
وقَالَتْ المَلْحَمَة:
ومِنَ الأَسْفَلِ بَلَغَت صدورُهُم العَالَمَ الأسْفَلَ
لكنَّ هذا العدولَّ بالصيغِة هو ترجمَةُ الأحمدَ أما باقرُ فأبقاهُ مُفْرَدَاً قَالَ:
وهو الجَّبَل الذي تَبْلُغُ أعاليهِ قُبَّةَ السَّمَاء
وفي الأسْفَلِ ينْزِلُ صدْرُهُ إلى العالَمِ الأسْفَلِ
وبالطبعِ فإنَّ هذا وصفٌ دقيقٌ في المَلْحَمَة، والنصُّ العلويُّ هو عن خطوطِ الفيضِ كَمَا ذَكَرْنَا لأنَّها شامخةٌ بالفعلِ وداخِلَةٌ في الأسْفَلِ إلى قَلْبِ الأرضِ المغناطيسيَّ.
ولكنْ.. لماذا اخْتَلَفَتْ الترجُمَةُ بَيْنَ المُفْرَدِ والجَمْعِ؟ وأيُّهُما أصَحُّ من الأُخرى؟
الحقُّ إنَّ الترجمَتَيْنِ تجاوزَتَا النصَّ. فليسَ الأصلُ كَمَا ذَكَرَ باقِرُ (قُمَّتُهُ) إذ ألغى صِيغَةَ الجَّمْعِ، ولا هي كَمَا قَالَ الأحمدُ (قُمَمُهُم) إذ جَمَعَ الجَّبَل نَفْسَهُ مَعَ أنَّهُ مُفْرَدٌ في النصِّ.
تَكْمِنُ الترجُمَةُ الصحيحةُ في التصوُّرِ العلميِّ نَفْسِهِ. فالجَّبَلُ واحِدٌ ولكنَّهُ مُكَوَّنٌ من مجموعةِ خطوطٍ (رواسي)، كلُّ خَطٍّ لَهُ قُمَّةٌ. وبالتالي فإنَّ ضميرَ الجماعةِ الذي هو (شونو) لا يمكنُ جَعْلُهُ مُفْرَدَاً كَمَا فَعَلَ باقِرُ ولا يمكنُ إرجاعُهُ إلى الجَّبَل مباشرةً ليكون (جبالاً) بالجمعِ، بل يعوُد على الجَّبَل مَعَ إبقاءِهِ مُفْرَداً ـ أي أنَّ الترجُمَةَ ليست (قُمَّتُهُ)، ولا قُمَمِ الجبال (قُمَمُهُم)، بل (قُمَمُهُ). فهو جَبَلٌ واحِدٌ وله قُمَمٌ عديدةٌ.
والذي دَعَاهم لهذينِ التأويلينِ هو صعوبَةُ اعتبارِ الجَّبَل واحداً والقُمَمُ عديدةً. ولكنْ.. هذا هو الجَّبَل المغناطيسيُّ خلافاً للجِبَالِ المعروفةِ. لاحِظْ النصَّ الأصليَّ:
أي ـ لو ـ شو ـ نو ـ شو ـ يو ـ أوك شامي ـ كا
أيلو: قُمَّةُ.
شونو: ضميرُ الجماعَةِ المذكَّرُ الثالِثُ.
هكذا قَالَ الأحمدُ. فالناتجُ عنْدَهُ (قُمَمُهم)؟ بالرغمِ مِنْ أنَّ (شو) هو ضميرُ المفردِ الغائبِ (الثالثِ) كَمَا في ترجمة البيت (9)/ص207. أما (نو) فأداةُ جَمْعٍ.
ومعلومٌ أن أداةَ الجَمْعِ لا تَجْمَعُ المفردَةَ الموجودَةَ في البيتِ السابِقِ (جَبَل)، بل تجمعُ المفردَةَ المجاورِةَ واللفظَ المرتبطةَ به وهو (آيلو) فتصبَحُ على الجَمْعِ (قُمَمٌ) بدلاً من قُمَّةٍ، وتبقى عائديةُ هذِهِ القُمَمِ للجَبَلِ المُفْرَدِ.
وإذن.. فقولُهُ (قُمَمُهُم) هو غيرُ دقيقٍ، إنَّمَا هي (قُمَمُهُ).
ويمكنُ وضعُهَا كصيغَةٍ مستقلَّةٍ على النَحْوِ الآتي:
آيلو ـ شو ـ نو
قمة ـ هو ـ هم (ضمير الجماعة)
فإذا قُلْتَ: (قُمَمُهُم) أبْطَلْتَ عَمَلَ (شو)، وإذا قُلْتَ: (قُمَّتُهُ) أبْطَلْتَ عَمَلَ (نو). والصحيحُ هو (قُمَمُهُ)، فَيَعْمَلُ (نو) للجَمْعِ، ويَعْمَلُ (شو) لإعادةِ المفردَةِ إلى الجَّبَل المفرَدِ.
وعلى ذلكَ فإنَّ أولى أوصَافِ الجَّبَل من الأعلى والأَسْفَلِ واحتواءَهُ على مجموعةِ قُمَمٍ قَدْ تطابقتْ بصورةٍ تامَّةٍ بَيْنَ نصِّ المَلْحَمَة ونصِّ الإمامِ عن ذي القرْنَينِ.

ب- التَّشَابِهُ في عَمَلِ حارِس الجَّبَل:
لَقَدْ ذَكَرَ نصٌّ آخرٌ عن ذي القرْنَينِ عَمَلَ المَلِكِ المُوَكَّلِ بهذا الجَّبَل حيثُ ذَكَرَ أنَّ عَمَلَهُ هو الأشْرَافُ على تَعَاقُبِ اللَّيل والنَّهَار.
وَقَدْ ذَكَرْنَا هذا النصَّ في ما سَبَقَ حيثُ تَضَمَّنَ حَديثاً عن الجماعَةِ التي ارْتَقَتْ على السحابَتَيْنِ في العَهْدِ النبويِّ. فبِدَلالَةِ الارتِبَاطِ مَعَ حديثِ الجَّبَلِ المُحيطِ المَذكورِ سابِقَاً نَعْلَمُ أنَّ الجَّبَلَ المُحيطَ هو نَْفسُهُ جَبَلُ (قافٍ) في الرِّوايَةِ الثانيةِ، وإنَّهُ مُرْتَبِطٌ بعمليةِ تَعَاُقِب اللَّيلِ والنَّهَارِ. ففي اللَّحْظَة التي تَصِلُ فيها الجماعةُ إلى مَشَارِِفِ هذا الجَّبَلِ يَسْأَلُ المُتَحَدِّثُ الوليَّ قائِدَ الرحلةِ عن الجَّبَلِ وشَأْنِهِ وعن المَلَكِ الموكّلِ به، فيُجيبُ قائِلاً:
(إنَّ هذا المَلَكَ الذي وَكَّلَهُ اللهُ تعالى بظُلْمَةِ اللَّيلِ وضوءِ النَّهَارِ ولا يزولُ إلى يَومِ القِيامَةِ).
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَصْدَرَ الحَديثِ فيما سَبَقَ في كِتَابِ البُرْهَانِ مرفوعاً إلى أبن عباس عن طريقِ مجاهدٍ من تفسيرِ سُورَةِ الكَهْفِ، وهو النصُّ الذي تَضَمَّنَ رؤيتَهُم الأرضَ من السَّمَاء وهي كالدِرْهَمِ.
ومَرَّةً أخرى أَطْلُبُ من السادَةِ الذين يعتقدونَ بخرافيةِ هذا النصِّ إبداءَ التفسيرَ المعقولَ لأسبقيةِ الكَشْفِ عن العِلاقَةِ بَيْنَ الفيضِ المغناطيسيِّ والحَرَكَةِ المحوريَّةِ للأرضِ التي يَنْتِجُ منها تَعَاقُبُ اللَّيلِ والنَّهَار. فهذِهِ العلاقَةُ المُؤَكَّدَةُ عِلميَّاً تَجْعَلُ النصَّ نصَّاً علمياً من الدرجةِ الأولى يَجِبُ التَّوقُفُ عندَهُ.
الاختلافُ الوحيدُ هو أنَّ العِلْمَ الحَديثَ لم يَحْسُمْ طبيعةَ هذِهِ العلاقَةِ إلى الآن خاصَّةً في اليابان وألمانيا. فهناك فريقانِ: الأوَّلُ يَقولُ إنَّ اللَّفَ المحوريَّ للأرضِ ناشئٌ عن المغناطيسيةِ، والآخَرُ يَقولُ العَكْسَ وهو إنَّ المغناطيسيةَ ناشئَةٌ عن اللَّفِ المحوريِّ.
والآن.. إذا رَجَعْنَا للملحمةِ البابِليَّة وَجَدْنَا نَفْسَ التَعْليلِ ونَفْسَ العَمَلِ لهذا الجَّبَلِ المسمَّى في المَلْحَمَة (ماشو):
إنَّ الجَّبَلَ اسمُهُ ماشو
وحينما بَلَغَ الجَّبَلَ ماشو
الذي يُرَاقِبُ مَطْلَعَ الشَّمسِ
ومَغْرِبَ الشَّمسِ كُلَّ يومٍ
(وقُمَمُهُ) تَصِلُ إلى أطرافِ السَّمَاءِ
وأسْفَلُهُ يَنْزِلُ صَدْرُهُ إلى العَالَمِ الأسْفَلِ
إذن.. فالجَّبَلُ المغناطيسيُّ هو الذي يَتَحَكَّمُ بعمليةِ تَعَاقُبِ اللَّيل والنَّهَار لأَنَّهُ مرتَبِطٌ بدورانِ الأرضِ حَوْلَ محورِهَا.. وهذا بِغَضِّ النَّظَرِ عن دِقَّةِ الترجُمَةِ لمُفْرَدَةِ (يُراقِبُ). وبالطبْعِ فإنَّ خطوطَ الفيضِ المغناطيسيِّ داخلةٌ في قَلبِ الأرضِ السَّفلي علميَّاً.
أرجو الآنَ من القارئِ الكريمِ مُلاحَظَةَ الرَّسْمِ المُرْفَقِ في آخِرِ هذا الكتابِ للحَقْلِ المغناطيسيِّ وخطوطِ الفيضِ، حيثُ سيلاحِظُ ما يلي:
ö أنَّ شَكْلَ هذِهِ الخطوطِ مَعَ حقولِ الفَيْضِ يمكنُ أنْ تُشَبَّهَ بالنِّسْرِ أو العنكبوتِ أو العَقْرَبِ. وَقَدْ يمكنُ تشبيهُ الصُّورةِ بالمَحَارةِ ذاتِ الصَّدفتينِ.
ö أنَّ هناك حقلانِ متقابلانِ للفَيْضِ هما مِثْلُ قُمَّتينِ لجبلينِ اشْتَرَكَا في الوَسَطِ.
بينما الظِّلُ الأبْعَدُ وهو الحَقْلُ المُشْتَرَكُ فيبدو وكأنَّهُ قُمَّةٌ واحدَةٌ. وهناك حُقولٌ صُغْرَى وكُبْرَى فرعيَّةٌ. وبالطبعِ فإنَّ التوضيحَ العلميَّ للحَقْلِ المغناطيسيِّ هو أَمْرٌ شديدُ التعقيدِ وليست لَهُ ضرورةً كُبْرَى للقارئِ في هذا البَحْثِ وإنْ كانَ يَكْشِفُ عن المَزيدِ من الدلالاتِ اللفظيَّةِ للنصِّ القرآنيِّ والملحمَةِ والمأثورِ.
لَقَدْ أختارَ النصُّ القرآنيُّ عِبَارَةَ (الصَّدْفينِ) للإشارةِ إلى الحَقْلَينِ، بينما اختارَتْ المَلْحَمَة عبارَةَ (التوأمينِ) كَمَا سنرى. أمَّا من حيثُ الشَّكْلِ فَقَدْ انطوى النصُّ القرآنيُّ على الشَّكْلِ لأنَّ المَحَارَةَ كَمَا تَعْلَمُ فيها خطوطٌ بخاصَّةٍ إذا كانَ الصَّدْفان بمعنى (غِشَاءِ الدُّرَةِ) لا الصَّدفةِ الصَلِبَةِ، وهو ما ذَكَرَتْهُ بَعْضُ التفاسيرِ والمعاجِمِ كَمَا في تفسيرِ (أنوارِ التنزيلِ) للبيضاوي.
ö أنَّ هناك تَقَابُلاً للحقولِ الخارجيَّةِ والفرعيَّةِ وهي على شَكْلِ توائمٍ أو أزْوَاجٍ. وَكَمَا تُلاحِظُ فإنَّها متقابلةٌ من حيثُ الشَّحْنَةِ أيضاً. فَكُلُّ حَقْلٍ سَالِبٍ يُقَابِلُهُ حَقْلٌ مُوجَبٌ وهو على ما يدَّعي العالم الألماني (وولتر) شُحِنَتْ به الدقائقُ الملقاةُ كَفَيْضٍ من الإلكتروناتِ السالبَةِ والبروتوناتِ الموجبةِ الآتيةِ من السَّمَاء كَمَا توضِّحُهُ الصورةُ.
ومن هنا نَعْلَمُ سَبَبَ التعبيرِ القرآنيِّ عَنْهَا في موضِعينِ بـ (الإلقاءِ)، حيثُ قَالَ:
(وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (النحل:15)
لَقَدْ أَحْسَنَ طه باقر حينما قَالَ تعليقاً عن اسمِ الجَّبَل ماشو ما نِصُّهُ: (لا يُعْلَمُ بالضَّبْطِ أصْلُ هذا اللَّفْظِ، فإذا كانَ بابلياً فَيُحْتَمَلُ أنَّهُ يعني (التوأمين)...) ـ 129.
وهذا يعني أنَّ المَلْحَمَة قَدْ أكَّدَتْ خَصَائِصَ المغناطيسيةِ الأرضيةِ في أكْثَرِ مفرداتِهَا المستخْدَمَةِ مِثْلَمَا أشَاَرْت إلى عَمَلِهَا المُرْتَبِطِ بالدَّورانِ المحوريِّ للأرْضِ.
لكنَّ التعليقَ النهائيَّ لباقِرَ اتَّسَمَ بالعشوائيةِ حينما قَالَ مُضِيفَاً: (ولَعَلَّ هذا إشارةٌ إلى تَصَوُّرِ العراقيينَ القدماءَ لجِبَالِ لبنانَ الشرقيَّةِ والغربيَّةِ)!!.
أَقُوْلُ: ليسَ العراقيُّ القديمُ من السذاجَةِ بحيثُ يتحَدَّثُ عن جَبَلٍ واحِدٍ بصيغَةِ المُفْرَدِ (حيثُ إبقاهُ باقِرُ مُفْرَدَاً كَمَا رأيتَ)، ويقولُ أنَّهُ يَحْرِسُ مَطْلَعَ الشَّمسِ ومَغْرِبَ الشَّمسِ وأنَّ حُرَّاسَهُ (الرجالَ العقارِبَ حسب الترجمَةِ) كائناتٌ مُرْعِبَةٌ وأنَّ قُمَّتَهُ تبَلِْغُ السَّمَاءَ وأسفَلَهُ يَنْزِلُ إلى قلبِ العالَمِ الأسْفَلِ.. وبَعْدَ ذلكَ كُلِّهِ يقولُ المترجِمُ لعلَّ ذلكَ هو تصوُّرُهُم عن جِبَالِ لبنانَ الشرقيَّةِ والغربيَّةِ!.
فما هي علاقَةُ جِبَالِ لبنانَ بكلِّ تِلْكَ الخصائصِ الغريبةِ والمُرْتَبِطَةِ بأمورٍ كونيةٍ وفُلكيَّةٍ؟.
لكنَّ لَفْظَ (ماشو) لَهُ من جِهَةٍ أخرى دلالةٌ هامَّةٌ إذا افتَرَضْنَا أنَّهُ مُرْتَبِطٌ بالمشيِّ والمُمَاشاةِ في العربيَّةِ.
فالمشيُ لَفْظٌ يُطَابِقُ الحَرَكَةَ التي تُؤَدَّي فيه والتي هي اقترانُ حَرَكَةِ الرِّجْلِ بالرِّجْلِ الأُخرى. فهو يَنْطَوي ضمنياً على وجودِ زوجينِ أو توأمينِ.
لَقَدْ عَبَّرَ المأثورُ عن هذا الجَّبَل باسم (قاف). وهو لفظٌ مرتبطٌ بالاقتفاءِ فهو أيضاً حركةٌ اقترانيَّةٌ بَيْنَ اثنينِ بَيْدَ أنَّهُ عامٌّ جداً. فكلُّ خَطٍّ يقفوَ الخَطَّ الآخرَ، وكلُّ حَقْلٍ يقفوَ الحَقْلَ الآخرَ خلالَ الدورانِ المحوريِّ للأرضِ. والجَّبَلُ بكاملِهِ يقفو حركةَ الأرضِ المحوريَِّةِ، ويقفوها وهي بحركةِ الدوران حولَ الشَّمس، إذ يُحْتَمَلُ وجودُ علاقةٍ بَيْنَ الحركتينِ وإنْ كانَ العِلْمُ لا يستطيعُ البتَّ بهذِهِ المسألةِ الآنَ.
على أنَّ حَرْفَ (قاف) في اللغةِ العربيةِ مُشابِهٌ جداً لخطوطِ الفَيْضِ من حيثُ الرَّسمِ والشَّكْلِ.

ج-التَّشَابِهُ في وَصْفِ حارِس الجَّبَلِ:
يمكنُنَا الاعتقادُ أنَّ الحارِسَ في كلٍّ من الروايَةِ والملحمَةِ هو نَفْسُ الشخصيَّةِ.
ذلكَ لأَنَّهُ يُجيبُ بإجاباتٍ متشابهَةٍ ويعتَرِضُ بنَفْسِ الاعتراضاتِ على جلجامشَ أو ذي القرْنَينِ. ولكنْ قَبْلَ التفصيلِ نُحَاوِلُ التَّعَرُّفَ على مدى الدِّقَّةِ في ترجُمَةِ الأبياتِ المتعلِّقَةِ بحارِسِ الجَّبَلِ. فَقَدْ تَرْجَمَ طه باقرُ النصَّ إلى ما يلي:
ويَحْرِسُ بابَهُ الرِّجَالُ العقارِبُ
الذينَ يَبْعَثونَ الرُّعْبَ والهَلَعَ ونَظَرَاتُهُم الموتُ
ويَطْغَى جَلالُهُم على الجِّبَالِ
الذينَ يَحْرِسونَ الشَّمسَ في شِروقِهَا وغروبِهَا
أمَّا الأحمدُ فكانت ترجمَتُهُ كَمَا يلي:
ويَحْرِسُ بابَهَا الرِّجَالُ العقارِبُ
الذينَ رِهْبَتُهُم مُخيفَةٌ ونَظْرَتُهُم هي الموتُ
والذينَ يَطْغَى جَلالُهُم المُرْعِبُ على الجِّبَالِ
ويَحْرِسونَ الشَّمس عِنْدَ مَشْرِقِ الشَّمسِ ومَغْرِبِ الشَّمسِ
أمَّا ما يتعلَّقُ بهذِهِ الفقَرَةِ من النصِّ الروائي للإمامِ عليٍّ (ع) فهو:
(وإذا نَحْنُ بِمَلَكٍ يَدُهُ في المَغْرِبِ والأخرى في المَشْرِقِ، فَلمَّا نَظَرَ المَلِكُ إليه (إلى عَلِيٍّ بنَ أَبِي طالبٍ) قَالَ: أَشْهَدُ أنْ لا إلهَ ألا اللهَ وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسولُهُ ثمَّ قَالَ للريحِ اهبطي ممَّا يلي هذا الجَّبَلَ وأشار إلى جَبَلٍ شامخ في العلوِّ)
أمّا ما يتعلَّقُ بها من رواية الجَّبَل المُحيطِ فهو من قوله:
(وإذا بملك قابض على الجَّبَل....الخ) ـ وَقَدْ مَرَّ سابقاً.
وأوَّلُ شيءٍ نُلاحِظُهُ هنا أنَّ الحارِسَ واحِدٌ في الروايَةِ. ولكنْ في المَلْحَمَة هناك جماعةٌ يحرِسونَ في الجَّبَل.
لكنَّ الواقِعَ أنَّ المترجِمِيْنَ جَمَعُوا اللَّفظَ المُفْرَدَ من دونِمَا سَبَبٍ واضِحٍ. فالنصُّ الأصليُّ مَعَ ما يقابِلُهُ من العربيةِ هو كالآتي:
أقرابو ـ أميلو أي ناصاروا بابي شو
عَقْرَبُ رَجُلْ يحرِسونَ باب ـ هو
إذن.. فقولُهُم (عقارب) على الجَمْعِ مخالِفٌ للأصلِ الذي وَرَدَ فيه اللفظُ بالمُفْرَدِ ورُبَّمَا اضطَرَّهُم إليه وجودُ فِعْلٍ للجماعَةِ هو (يَحْرِسونَ). وبالطَّبْعِ لا تمكنُهُم إضافتُهُ إلاَّ لرَجُلٍِ وعَقْرَبٍ فقَالَوا: (رجالٌ عقاربٌ)!!.
ومِنْ جِهَةٍ أخرى قَالَ الأحمدُ: (بابَها) بدلاً من (بابِهِ)، ولا يُعْلَمُ وَجْهُ هذا التأنيثِ ولِمَنْ يَعودُ ضَميرُ المؤنَّثِ فالجَّبَلُ مذكَّرٌ؟.
والحقيقةُ أنَّ هناك التباساً في تصوّرِ تركيبِ الجُمْلَةِ. فالجَمْعُ موجودٌ ولكنَّهُ لا يمكنُ أن يؤديَ إلى جَمْعِ المُفرداتِ السابقَةِ (وهي رَجُلٌ وعَقْرَبٌ) في آنٍ واحِدٍ.
وسَبَبُ ذلكَ هو جُمودُ المترجمين على المعنى المُسْتَخْلَصِ عندهم لكلِّ لفظٍ. فإنَّ مُفردَةَ (أميلو) تعني (رَجُلٌ)، ولكنِّي أَسْأَلُ: (أليسَ هذا اللفظُ عِنْدَ كَسْرِ الرَّاء سيعني شيئاً آخرَ هو (رِجْلٌ) والتي معناها إحدى رِجْلَي الإنسانِ أو الحيوانِ أو الكرسيِّ سواءً بسواءٍ؟!.
وإذا كانَ هذا يصحُّ في العربيةِ، فَلِمَ لا يَصِحُّ في كلِّ لغةٍ من لغاتِ الأرضِ؟
أفَليسَ مِنَ المُحْتَمَلِ أنْ يكونَ الجَمْعُ لأحَدِ اللفظينِ فَقَطْ دونَ الآخرِ بحيثُ يكونُ هو (رِجْلَ العقارِبِ) أو العَقْرَبَ ذا الأرجُلِ الكثيرةِ؟. وبالتالي يَبْقَى الإِفْرَادُ في أوَّلِ الجُمْلَةِ مَعَ صيغةِ الجَمْعِ للفِعْلِ في آخِرِهَا وتكونُ الجُمْلَةُ كالآتي:
(الذي يَحْرِسُ بابَهُ أرْجُلُ العَقْرَبِ)
ذلكَ لأَنَّهُ حينما شَبَّهَ الحَقْلَ بكامِلِهِ بالعَقْرَبِ وهو تَشبيهٌ دقيقٌ للغايةِ، فإنَّ خطوطَ الفَيضِ أَصْبَحَتْ بمثابَةِ الأرْجُلِ.
هذا إذا سَلَّمْنَا بترجمَةِ كافَّةِ الألفاظِ على ما ذَكَرُوهُ وألاَّ فإنَّ اللغةَ موسَّعَةٌ في الاستعمالِ دوماً. فلَعَلَّ اللفظَ (أميلو) مُشتَقٌّ أصلاً من الامتلاكِ وَقَدْ أُطْلِقَ على الرَّجُلِ وسُمِّيَّ به لأَنَّهُ مالِكٌ لأمْرِهِ ومالِكٌ لأمْرِ أُسرتِهِ. وبالتالي يكونُ المعنى هو ذاتَهُ في (المَلَكِ القابِضِ على الجَّبَل) في الروايَةِ.
وكَذلِكَ لفظ (اقرابو) فلَعَلَّهُ يفيدُ الاقترابَ والمَيْلَ، أو يكونُ اللفظُ (أميلو) ذا علاقَةٍ بـ (الميلِ) والذي فَسَّرَ البيضاويُّ بِهِ عبارَةَ (الصَّدفين) القرآنيةِ. ومعلومٌ أنَّهُ مرتَبِطٌ بالميلِ الأرضيِّ الذي تَتَحَكَّمُ فيه القوَّةُ المغناطيسيَّةُ.
لَقَدْ تَكَلَّمَ هذا الرجُلُ (الرَّجُلُ العَقربُ) مَعَ مَنْ سَمَّاهُ المترجمون (زوجَتَهُ)، واللفظُ الأصليُّ له هو (سينيشتي) والذي يعني (زوجاً) أو (مُقابِلاً) أو (النصفَ الآخرَ).
ولكنَّهُم أضافوا إليه التأنيثَ من عِنْدِهِم لاعتقادِهِم أنَّ (أميلو) هو رَجُلٌ وبالتالي فإنَّ زوجُهُ لا بُدَّ أنْ يكونَ امرأةً.
لكنَّ النصَّ استخْدَمَ نَفْسَ العلاماتِ للزوجينِ فلَمْ يُؤَنِّثْ الزوجَ الآخرَ. وهذا يدِلُّ على مُرادِ النصِّ. فهناك توأمانِ أو زوجانِ متقابلان ليسا من الذَكَرِ والأنثى، وإنَّمَا من بابِ النصْفِ والنصْفِ الآخرَ أو الموجَبِ والسالِبِ أو الحَقْلِ الأيمنِ والأيسرِ.
وهنا تَظْهَرُ العلاقةُ مَعَ النصِّ الروائي الذي استَخْدَمَ الأيدي بَدَلَ الأرْجُل إذا صَحَّتْ فرضيتُنَا بكونِهِ (عقرباً ذا أرْجُلٍ)، إذ قَالَ النصُّ:
(يَدُهُ في المَغْرِبِ والأخرى في المَشْرِقِ)
فهو يُؤَدِّي نَفْسَ الوظيفَةِ حيثُ هو (مُوكَّلٌ بظُلْمَةِ اللَّيلِ وضوءِ النَّهَارِ) ـ البرهان ـ 489 ـ م2. وفي المَلْحَمَة:
(يحرس الشَّمسَ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمسِ وعِنْدَ مشْرِقِ الشَّمسِ)/9 ـ ع2.
فالمشْرِقُ ابتداءُ ضوءِ النَّهَار، ومغْرِبُ الشَّمسِ لا يعني سوى ظُلْمَة اللَّيلِ.

د-التَّشَابِهُ في ردودِ فِعْلِ الحَارِسِ:
في المَلْحَمَةِ البابِليَّةِ يقولُ حارِسُ الجَّبَلِ لجلجامشَ:
لماذا لَزمْتَ الطريقَ البعيدَ؟
ولماذا وصَلْتَ أمامي؟
اختَرَقْتَ البِحَارَ الشَّاقَةَ العبور
أما النصُّ الروائيُّ فيقولُ المَلَكُ لذي القرْنَينِ: (ما الذي قَوَّاكَ يا بْنَ آدَمَ أنْ تَبْلغَ هذا الموضعَ الذي لم يبلغْهُ أحَدٌ من قبْلِكَ مِنْ ولْدِ آدم من الأنبياءِ والمُرْسَلين؟)
ومِنْ جِهَةٍ أخرى قَالَ حارِسُ الجَّبَل لجلجامشَ إنَّ أحَداً لم يَبلغْ هذا الموضِعَ من قَبْل:
لا يُوجَدُ إنسانٌ يَسْتَطِيعُ ذلكَ يا جلجامشُ
لم يَعْبُرْ أَحَدٌ من البَشَرِ مَسْلِكَ الجَّبَلِ
فكذلكَ يُحَذِّرُ المَلَكُ ذا القرْنَينِ من سلوكِ الظُّلْمَة في وَقْتٍ نُلاحِظُ فيه التَحْذيرَ من حارِس الجَّبَلِ لجلجامشَ:
أن داخلَهَا يمْتَّدُ اثنتي عشرة ساعة مضاعفةً
والظِّلامُ حَالِكٌ ولا يُوجَدُ نورٌ
ولكن النصَّ البابليَّ يَنْخَرِمُ هنا أيضاً حيثُ يُحْتَمَلُ أنَّ الحارِسَ أستمَرَّ في وصْفِ عَقَبَاتِ الرحلةِ.
ومعلومٌ أنَّ التأكيدَ على عَدَمِ وجودِ نورٍ من قِبَلِ الحَاِرِس أو ما أكَّدَتْهُ المَلْحَمَةُ فيما بَعْدُ خلالَ الرحلةِ إنَّمَا هو وصْفُ دقيقٌ لطبيعةِ الفَضَاء. وَقَدْ أوضَحْنَا هذا الأمْرَ من قَبْلُ. فالفضَاءُ مُظْلِمٌ دوماً حتَّى ولو كانَ المسافِرُ يرى الشَّمْسَ لعَدَمِ وجودِ أجسامٍ ولا حتَّى غِبَارٍ يَعْكِسُ الضوءَ، وسَبَبُ ذلكَ هو مسألةٌ فيزيائيةٌ رُبَّما تَكونُ غائبةً عن الأذهانِ. فالضوءُ نَفْسُهُ لا يُرَى مُطْلَقَاً وإنَّمَا تمكنُ رُؤيَةُ الأجسامِ عِنْدَ انعكاسِهِ عَنْهَا ولذلكَ لا يَرَى رُوَّادُ الفَضَاء في السَّمَاءِ أيَّةَ إضَاَءةٍ خَارِجَ المَرْكَبَةِ حتَّى لو كانتْ الشَّمْسُ طالعةً عليهم (وهي دوماً طالِعَةٌ في الفَضَاءِ). فخارِجُ المَرْكَبَةِ لا يرون سوى أنْفُسهم!!
وحينَ يَرَى النُّورُ في المَلْحَمَةِ أو النصِّ الروائيِّ، فمعنى ذلكَ أنُّه وَصَلَ إلى كوكبٍ أو قَمَرٍ من الأقْمَارِ التابَعةِ لكوكَبٍ ما، وهو ما سَنُلاحِظُهُ في الفَقَرَةِ الآتية عن أَوْجِهِ التَّشَابِهِ.

صورة رمزية إفتراضية للعضو علي العذاري
علي العذاري
انتقل لرحمة الله
°°°
افتراضي
السابِعُ: التَّشَابِهُ في وَصْفِ المُحَطَّات
نَعْلَمُ الآنَ وبِفْضْلِ كشوفاتِ عِلْمِ الفَلَكِ أنَّ كواكبَ المجموعَةِ الشمسيَّةِِ وأقْمارَهَا تتميَّزُ عن الأرضِ وعن بعضِهَا البَعْضِ في طبيعَتِهَا وصُخورِهَا ذاتِ الأشْكَالِ الغَريبةِ كَمَا هو مُلاحَظٌ في الرسومِ المُرْفَقَةِ.
لَقَدْ أكَّدَ النصُّ الروائيُّ والملحميُّ على هذِهِ الطبيعةِ الغريبَةِ التي تتميَّزُ بها تِلْكَ المُحَطَّات التي تَنَقَّلَ بينها جلجامشُ (ذو القرْنَينِ).
ففي النصِّ الروائيِّ أنَّهُ دَخَلَ أرْضَاً أو قَمَرَاً من أقْمَارِ المجموعَةِ الشمسيَّةِ جاءَ وصْفُهُ بطريقَةٍ مُشَابِهَةٍ لِمَا في النصِّ البابليِّ. يقولُ هذا النصُّ:
(ومَرَّ ذو القرْنَينِ فأَخْطَأَ الواديَ فَسَلَكَ في تِلْكَ الظُّلْمَة أربعينَ يوماً وليلةً ثمَّ خرَجوا إلى ضوءٍ ليس بضوءِ شَمْسٍ ولا قَمَرٍ ولكِنَّهُ نورٌ فَخَرَجُوا إلى أرضٍ رَمْلَةٍ حَمْراءِ خشخاشةٍ فركةٍ كانَ حصباؤها اللؤلؤ).
وفي نصِّ آخَرٍ أنَّهُ مَرَّ بهذِهِ الأرضِ بَعْدَ رجوعِهِ ويَأْسِهَِ من الحُصولِ على الحياةِ الأبديَّةِ، ولذلكَ عَزَفَتْ نَفْسُهُ عَمَّا فيها من كنوزٍ. يقولُ الإمامُ عليٌّ (ع):
(رَحِمَ اللهُ أخي ذا القرْنَينِ ما كانَ مُخْطِئَاً إذ سَلَكَ ما سَلَكَ وطَلَبَ ما طَلَبَ ولو ظَفَرَ بوادي الزبرجدِ في مَذْهَبِهِ لَمَا تَرَكَ فيه شيئاً إلاَّ أخْرَجَهُ للناسِ ولكِنَّهُ ظَفَرَ بِهِ بَعْدَمَا رَجَعَ وزَهِدَ عن الدُّنْيَا بَعْدُهُ) ـ البرهان/ ح25-ح23.
وَقَدْ ذَكَرَ نصٌّ سومريٌّ ترجمَهُ (كرايمر) بعنوانِ (جلجامشُ وأرضُ الحَيَاةِ) مَرَّ عليك سابقاً.. ذَكَرَ أنَّ جلجامش لم يَكُنْ بمفرَدِهِ في الرحلةِ الثانيةِ تحديداً، لأنَّ الرحلةَ الثانيةَ كانتْ للبَحْثِ عن الخلودِ. والنصُّ السومريُّ الأَقْدَمُ عَهْدَاً إنَّمَا يَتَحَدَّثُ عن هذِهِ الرحلةِ، وهي للبَحْثِ عن أرْضِ الحَيَاةِ فَقَدْ أختارَ جلجامشُ (خَمْسينَ مُتَطَوِعَاً من رِجَالِ الوركاءِ وشبابِهَا مِمَّنْ لا تربِطُهُم روابطٌ عائليةٌ ليُرَافِقوهُ في الرحلةِ) ـ حسب ما وَرَدَ في خلاصَةٍ لترجُمَةِ النصِّ ذَكَرَهَا باقِرُ في ص197.
وإذن.. فَزَعْمُ الشُّراحُ أنَّهُ هَامَ على وجْهِهِ في البراري بَعْدَ مَوْتِ أنكيدو هو زَعْمٌ بَاطِلٌ جُمْلَةً وتفصيلاً. فَقَدْ قَدَّروا هذا الزَعْمُ تقديراً كَمَا فَعَلَ باقِرُ مِنْ خلالِ الانخرامِ في النصِّ.
وَقَدْ أَكَّدَ النصُّ الروائيُّ على وجودِ مجموعَةٍ مَعَهُ من خلالِ تِكْرَارِ مُفْرَدَةِ (وأصحابه) أو عبارةٍ مِثْل ( وأصحابُهُ يَنْظرونَ إليه)، وأَكَّدَ وجودَهَا أخيراً من خلالِ سِلوكِهِ وادي المعادنِ والجواهِرِ. فَقَدْ جَهَلَ الجماعَةُ شأنَ هذا الوادي فَسَألوهُ قائلين:
(ما هذا أيُّها المَلِكُ؟ قَالَ خُذوا مِنْهُ فَمَنْ أَخَذَ يَنْدَمُ ومن لَمْ يَأخُذْ يَنْدَمُ)!!
قَالَ النصُّ بَعْدَ ذلكَ:
(فَلَمَّا خَرَجوا من الظُّلْمَةِ عَلِمُوا أنَّهُ الزبرجَدُ فَنَدَمَ الآخِذُ وَنَدَمَ التارِكُ)
وبالطَّبْعِ لا يَخْفَى أنَّ الظُّلْمَةَ الأخيرَةَ هي ظُلْمَةُ الكوكَبِ وهي مُخْتَلِفَةٌ عن الظُّلْمَةِ المذكورةِ في النصِّ الأسْبَقِ والتي هي ظُلْمَةُ الفَضَاءِ الكونيِّ، لأنَّهَا حُدِّدَتْ على أنَّهَا ليست ظُلْمَةَ ليلٍ ولا دُخَانٍ.
لَقَدْ كانت تِلْكَ المنطقَةُ التي وَصَلَهَا في النصِّ الملحميِّ عبارةً عن (غابَةٍ) حَسَبَ الترجُمَةِ، بَيْدَ أنَّهَا غابَةٌ صخريَّةٌ كَمَا رأيتَ في أوَّلِ هذا الكِتَابِ.
وكانت الرحلةُ الأولى لِقَتْلِ (خمبابا) هي الأُخرى إلى (غابة الأرز) أيضاً. وَقَدْ ذُكِرَ الأرْزُ مرَّةً أخرى خلالَ المحاوَرَةِ مَعَ الملاَّحِ ومن سُمِّيَتْ بـ (صاحِبَةِ الحانَةِ) في الرحلةِ الثانيةِ.
السؤالُ الآنَ هو: إذا كانَ (خمبابا) في غابَةٍ أرضيَّةٍ فَكَيْفَ ظَهَرَتْ الغابَةُ والأرْزُ مرَّةً أخرى في الرحلةِ إلى أوتو ـ نوبشتم؟ مَعَ أنَّ المفروضَ أنَّ مَسْكَنَهُ بَعْدَ بَحْرِ الموتِ وبِحَارِ الظُّلُماتِ؟.
الواقعُ إنَّ التعبيرَ عن تِلْكَ المُحَطَّات بالغابَةِ إنَّمَا هو وَصْفُ مُشْتَرَكٌ لطبيعةِ الكواكِبِ وأقمارَِهَا المُكَوَّنَةِ من أحجارٍ وصُخورٍ ذاتِ أشكالٍ تَشْبَهُ الأشْجَارَ. فلاحِظْ التشابِهَ بَيْنَ الوصْفينِ:
في الرحلة الأولى:
غابَةُ الأرْزِ...
زينتُهَا الصَّخْرُ الأبيضُ
واللاروشُ… الرصاصُ الأحْمَرُ
الكبريتُ وصَخْرُ الأنكوكمي المعدني
وصَخْرُ الزاجِ وحَجَرُ الدم
وحَجَرُ الأصماغِ الزرنيخيةِ
….للبحر....
وكَذلِكَ ما رَآهُ في الرحلةِ الثانيةِ. فالموضِعُ مُتَشابِهٌ مِنْ حيثُ كونِهِ صُخوراً منحوتةً وبأشكالٍ غريبَةٍ ولكنَّ نوعَهَا يختلِفُ بالطبْعِ، لأنَّ الكوكَبَ هو كوكبٌ آخِرٌ:
وبَعْدَ إنْ قَطَعَ اثنتي عشرة ساعةً مُضَاعَفَةً (في الظِّلامِ)
أنَارَتْ (الأرضُ)
أبْصَرَ أمامَهُ أشجاراً تَحْمِلُ الأحْجَارَ الكريمَةَ
فَلَمَّا رآها اقْتَرَبَ مِنْهَا
فَوَجَدَ الأشْجَارَ التي ثمارُهَا العقيقُ
وتَتَدَلَّى الأعْنَابُ مِنْهَا… ومَرْآهَا يُسِرُّ الناظِرَ
ووَجَدَ الأشْجَارَ التي تَحْمِلُ اللازودَ
فَمَا أبهى مَرْآهَا
رأى العوسَجَ الذي يَحْمِلُ الأحجارَ الكريمَةَ
واللؤلؤَ البحريَّ
قَالَ المترجِمُ مُعَلِّقَاً:
(يَشْبَهُ هذا الوَصْفُ لهذِهِ البستانِ العجيبةِ ما وَرَدَ في قِصَصِ وحكاياتِ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ!!).
فالمُتَرْجِمُ لمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كونِهَا وصفاً لمناطقٍ كونيَّةٍ وبَيْنَ كونِهَا أسطورةً تَتَحَدَّثُ عن أشجارٍ لا وجودَ لَهَا.. فالكاتبُ لمْ يَقُلْ أنَّ الأشْجَارَ هي أشْجَارٌ نباتيَّةٌ وتَحْمِلُ ثِمَارَ العقيقِ.. بل يقولُ أشْجَارٌ وعوسج فَقَطْ، ويُسَمِّيْهَا بتشكيلاتِهَا الغريبةِ على أسماءِ النباتِ الأرضيِّ. وَقَدْ أَمِنَ من الالتباسِ في جميعِ التفاصيلِ وجميعِ المُفْرَداتِ في كلِّ المَلْحَمَةِ، فلم يَحْدُثْ أيُّ التباسٍ في الموضوعِ خاصَّةً وأنَّهُ يَتَحَدَّثُ من خلالِ نصٍّ أدبيٍّ وشعريٍّ لا من خلالِ نصٍ خاصٍ بعِلْمٍ من العلومِ.
فأيُّ شُبْهٍ وأيَّةُ علاقةٍ بَيْنَ الوصْفِ العلميِّ الدقيقِ لمناطقٍ كونيَّةٍ وأقْمَارٍ للسَّيَاراتِ بَعْدَ تأكيدِهَِ على كُلِّ التفاصيلِ المارَّةِ سابقاً وبَيْنَ القِصَصِ الخرافيةِ المجَّةِ لألفِ ليلةٍ وليلة؟.
فأرجو ملاحَظَةَ صورةِ القَمَرِ (تيتان) وهو أَحَدُ أقمارِ كوكبِ زُحَل المُرفقَةِ لِتَرَى الصَّخْرَ الأبيضَ والأَحْمَرَ والأشكالَ المتنوِّعَةَ في طبيعتِهِ.
فَمِنَ المُحْتَمَلِ أنْ تَكونَ المُحَطَّاتُ المذكورةُ هي أقمارُ زُحَل، فَثَمَّةُ شُبْهٌ كبيرٌ بَيْنَ الصُّفَاتِ والأسماءِ المذكورةِ في القصَّتينِ مَعَ خصائصِ أقمَارِ هذا الكوكبِ.
إذ يبدو أنَّ اللفظَ (سيدوري) الذي تَرْجَمَهُ الشُّراحُ إلى (صاحبةِ الحانَةِ) هو اسمُ الكوكَبِ وهو قَريبٌ لفظيَّاً من اسمِهِ اللاتيني (ساتورن)، فإنَّ ترجمةُ اللفظِ إلى (صاحبةِ الحانةِ) فيه مجازفَةٌ كبيرةٌ لا تَخْفَى.
لَقَدْ جاءَ اللفظُ الأصليُّ لأوّلِ مرَّةٍ في المَلْحَمَةِ بصوتٍ آخَرٍ عَدَّةُ الشُّراحُ الاسمَ الآخَرَ لصاحبةِ الحانَةِ وهو (أناسابيتوم).
وكانَ باقِرُ قَدْ رَبَطَ بَيْنَ هذا اللفظِ وبَيْنَ اللفظ (سابيتم) البابلي الذي يعني بائعةَ الخَمْرِ وبَيْنَ المفردةِ العربيةِ (سبأ) و(سَباء) أي بائع الخَمْرِ. لكنَّ هذا التأويلَ يَعْتَمِدُ على طريقَةِ القِراءَةِ وتقطيعِ المَقَاطِعِ.
فالأحْمَدُ مثلاً تَرْجَمَ المَقْطَعَ (أيناسابان تامتي) إلى عبارَةِ (التي تَسْكِنُ أعماقَ البَحْرِ أو ظلامَ البَحْرِ).
وَقَدْ أستُعْمِلَ اللفظُ (تام) و(تامتي) للإشارَةِ إلى البَحْرِ ولكُلِّ ما هو واسعٌ سِعَةً عظيمةً عِنْدَ البابليين، وهؤلاءِ قَدْ أطلقوا لَفْظَ (تمتم) على البَحْرِ، والعَرَبُ يقولون (طمطام) لوصْفِ البَحْرِ العميقِ جداً والواسِعِ سِعَةً كبيرةً.
كَذلِكَ الوصْفُ (سابي) فإنَِّ الارتباطَ مَعَ اللفظِ العربيِّ (سبأ) و(وسَباء) لا يعني بالضرورَةِ أنْ يكونَ بائعَ الخَمْرِ. فَقَدْ وَرَدَ في العربيَّةِ مُسْتَعْمَلاً لأشياءٍ كثيرةٍ منها:
سَبَا العدوَّ: أَسَرَهُ
سَبَأَ الخَمْرَ: بَاعَهَا
السابياء: الأموالُ الكثيرةُ من ذَهَبٍ ومواشي
السابياء: المشيمةُ الخارجيَّةُ من الرّحْمِ
السبًاء: العودُ الصغيرُ في السيلِ الجَّارِفِ
السبَيَة: دُرَّةُ البَحْرِ
السبأة: السَفَرُ النائي.
المسبأ: الطريقُ في الجَّبَلِ
أنظر في القاموس.
إذن.. فقولُهُم (سبأ، وسباء) هو بائع الخمر خاطئٌ أصلاً، لأنَّ المُعْجَمَ لَمْ يَقُلْ أنَّ اللفظَ (سبأ) وَحْدَهُ مَعْنَاهُ (بَاعَ الخَمْرَ)، بل هو فِعْلٌ إذا وَقَعَ على الخَمْرِ يعني باعَهَا أو اشتراها، وإذا وَقَعَ على فَرْدٍ دَلَّ على غيرِ ذلكَ. قَالَ في القاموس: سبأ فلاناً: جَلَدَهُ. وقَالَ: سَبَأَ الجِلْدُ: غيَّرَه. ومِنْهُ السبَاء: جِلْدُ الحيَّةِ المسلوخِ.
فإذا أرادَ المرءُ الانتفاعَ باللفظِ العربيِّ يتوجَّبُ عليه الانتفاعُ من جَذْرِهِ اللغويِّ فَقَطْ ومعناهُ الأصليُّ العامُّ. وليس المعنى الأصليُّ للفظ (سبأ) سوى السعة والتعمُّق والإيغال بحيثُ إذا وَقَعَ على المِرْءِ أفادَ الجِلْدَ، وإذا وَقَعَ على الخَمْرِ أفادَ التجارَةَ بها، لأنَّ التجارَةَ بما هو ضَارٌّ هو إيغالٌ في الفَسَادِ، فكأنَّهُ لم يَكْفِهِ شربُهَا فَتَاجَرَ بها، وإذا وَقَعَ على العودِ أفادَ الإيغالَ في خِفَّتِهِ وضآلَةِ شأنِهِ، وإذا وَقَعَ من المِرْءِ (لا عليه) أفادَ إيغالَهُ في الأمْرِ من سَفَرٍ ونَحْوِهِ.
وهذا اللفظُ قريب من لفظِ (السبعة) التي أستعْمَلَهَا العَرَبُ للكثرَةِ وأستعْمَلَهَا التنزيلُ في قولِهِ تعالى:
(إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )(التوبة: من الآية80)
وَقَدْ استَعْمَلَ البابليون لَفْظَ (سبأ) للعدَدِ سبعةٍ في وقتٍ مبكِّرٍ.
فإذا جمعنا اللفظين (سابي تمتام) عنى البِحَارَ السَّبْعَةَ، وإذا نُحِتَ مِنْهُ اللفظُ (سابيتم) عَنَى السباعيَّ العُمْقِ أو السباعيَّ البَحْرِ.
لا تُوجَدُ في النصِّ أيَّةُ قرائنٍ أخرى تُشيرُ إلى وجودِ حانةٍ مثلاً أو خَمْرٍ أو بائعةِ خَمْرٍ، كَمَا لا يَدِلُّ ظَنُّهُ أنَّها رُبَّما سَتَحْسِبُهُ مِنْ قُطَّاعِ الطريقِ على كونِهَا غانيةً من خلالِ شريعةِ حمورابي، وذلكَ: أولاً لأنَّ هذا القانونَ الذي مَنَعَ الغواني من إيواءِ قُطَّاعِ الطريقِ مُتَأَخِرٌ زمنياً عمَّا يُفْتَرَضُ أنْ يكونَ حَدَثَاً مُتَقَدِّمَاً عليه بألْفِ سنةٍ في الأقَلِّ، وثانياً لأنَّ هذا القانونَ كانَ عامَّاً في مضمونِهِ، وكانَ ذِكْرُ الغواني هو فَقَرَةً من فقراتِهِ لا علاقةَ لَهَا بتطبيقِ هذا القانونِ عليه من الناحيةِ الزمنية ولا الجغرافيةِ، إذ هو الآنَ خارجُ مملكَةِ حمورابي في الزمانِ والمكانِ قطعاً حتَّى لو كانت الرحلةُ على الأرضِ. فأعجبْ إذنْ وَلَكَ أنْ تعْجَبَ لتأويلاتِ الشُّراحِ.
وبِصِفَةٍ عامَّةٍ فإنَّ سؤالَ (سيدوري) عن سَبَبِ الرحلَةِ وإجابَتَهُ عن السؤالِ لم تختلفْ عن المراحِلِ الأُخرى التي جَرَى فيها مِثْلُ هذا الاستغرابِ من مجيئِهِ إلى هذِهِ المواضِعِ.
ولماذا لا نَفْتَرِضُ إنَّهُ كانَ يُكَلِّمُ الكوكبَ نَفْسَهُ (سدوري) أو زُحَل على عادةِ الشُّعَرَاءِ والأدَبَاءِ في مُخاطَبَةِ النَّجْمِ والبَحْرِ والجَّبَلِ والقَمَرِ وما في الطبيعة، وما أكثرُهُ في الأدبِ. وهل نَنْسَى ونحنُ في خُضْمِ البَحْثِ عن الرموزِ أنَّ المَلْحَمَةَ نصٌّ أدبيٌّ قَبْلَ كلِّ شيءٍ آخَرٍ؟. فقد قَالَ الشاعرُ:
ألا يا أيُّها اللَّيلُ الطويلُ ألا فانجلي

بِصُبْحٍ وما الإصباحُ منك بأَمْثَلِ
هكذا قَالَ أمرؤُ القيس.
وقَالَ آخَرٌ: يا جَبَلُ التوباذ حيَّاكَ الحيا… الخ.
وقَالَ آخَرٌ عن حِصَانِهِ:
فازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ القَنَا بلُبَانَةٍ

وَشَكَا إليَّ بِعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ

وقَالَ المتنبي:
يَقولُ بشَعْبُ بَوَّانٍ حِصَاني

أَعَنْ هذا يُسَارُ إلى الطِّعَانِ؟

فَهَلْ نَرَى إنَّهُ سَمِعَ حصانَهُ فِعْلاً يقولُ أم أنَّهُ حَكَى على لسانِهِ؟
وهل نَنْسَى ما أجْرَاهُ الكاتبُ الوهرانيُّ على لِسَانِ بَغْلَتِهِ الشَّهيرةِ (بغلةُ الوهراني)، أو الحَكيمُ على لِسَانِ حِمَارِ الحكيمِ؟.. إلى شواهِدَ كثيرةٍ خَاطَبَ فيها الأديبُ الأشياءَ والكائناتِ وأَجَاََبها إذا سائَلَتْهُ، وسائَلَهَاَ فأجابَتْهُ، ووَضَعَ على لسانِهَا ما يُريدُ قولَهُ.
أفلا يمكنُ أن يكونَ كاتبُ الملحَمةِ قَدْ أضافَ خيالَهُ الشعريَّ إلى تفاصيلِ القصَّةِ من غيرِ إخلالٍ بحرَكَةِ الشُّخوصِ؟.
يمكنُ ذلكَ بالطبع حينما نَتَصَوَّرُ أنَّ عبارَتَهُ:
والآنَ وَقَدْ رأيتُ وجهكَ يا سيدوري
هو خِطَابٌ موجَّهٌ إلى كوكبِ زُحَلٍ من أَقْرَبِ أقمارِهِ إليه كقَمَرِ (تيتان) مثلاً أو (ميماس)، وحينها تَكونُ العبارةُ (سابي تامتام) بمعنى ذات البِحَارِ السبعة والمقصودُ بها زُحَلْ.
ولكن لماذا يُسمَّي زُحَلُ بهذا الاسمِ الآخَرِ؟
إنَّ لزُحَلٍ ثلاثةُ أنْطِقَةٍ يَعْلَمُهَا القارئُ من صوَرِهِ الملوَّنَةِ المشهورةِ والتي تَظْهَرُ في إحدى الصورِ المُرْفَقَةِ في هذا الكتابِ وتسمَّى أطواقَ زُحَلٍ. ولكنَّنَا نَعْلَمُ الآنَ أنَّ هذِهِ الأنطِقَةَ ما هي إلاَّ غازاتٌ وغبارٌ كونيٌّ مُخْتَلِفُ الكثافَةِ في كلِّ نطاقٍ ممَّا يُظْهِرُهُ بألوانٍ زاهيةٍ مختلفةٍ، وهو بالفِعْلِ أجْمَلُ السيَّاراتِ في المجموعَةِ الشَّمسيَّةِ.
لكنْ يَجِبُ أنْ لا نَنْسَى أنَّ بَيْنَ كلِّ نطاقٍ وآخَرٍ يوجدُ نوعٌ آخَرٌ مِنَ الوَسَطِ الذي لا نُدْرِكُهُ بالمطيافِ لعَدَمِ صُدورِ ألوانٍ عَنْهُ، وبالتالي فإنَّ عَدَدَ الأنطِقَةِ الفعليَّةِ مَعَ الغلافِ الخاصِّ الخاص بالكوكبِ يصبحُ سبعةَ أنْطِقَةٍ.
هَلْ كانَ يكَلِّمُ السيَّارَ ذا الأنطِقَةِ السَّبعةِ نَفْسَهُ لِيُدِلَّهُ على طريقِ الوصولِ إلى أوتو ـ نوبشتم حيثُ يَقْطِنُ في هذا الكوكبِ؟.
إنَّ النِسْخَةَ الآشوريَّةَ تَتَضَمَّنُ وَصْفَاً أفْضَلَ لسيدوري بَيْدَ أنَّ الأسْطُرَ المقصودَةَ قَدْ تَهَشَّمَتْ إلاَّ بِضْعَةَ مُفرداتٍ.
ولكنَّ هذِهِ المفرداتِ تبدو وكأنَّهَا تُعَزِّزُ هذا الفَرْضَ لا سواه، إذ يمكنُ أن نَقْرَأَ (سابيتوم) قراءةً أخرى من جِهَةِ كونها (سبعة وبحار) كَمَا أسلفنا، أو (ظلام) كَمَا أثبته الأحمدُ، وبالتالي يكونُ الاسمُ هو ذاتَ البِحَارِ السبعةِ. فكلُّ بَحْرٍ هو نِطَاقٌ يَجِبُ خَوضُهُ للوصولِ إلى أوتو ـ نوبشتم.
لاحظ ما بَقِيَ من مُفرداتٍ من هذا العمودِ:
سيدوري التي تَقْطِنُ عِنْدَ ساحِلِ البَحْرِ
....التي تَقْطِنُ....
عَمَلوا لَهَا قَدَحَاً من ذَهَبٍ
وصنعوا إبريقاً..
مُغَطَّاةٍ بحجابٍ..
يأتي جلجامشُ
والوَجْهُ مِنْهُ يَشْبَهُ الذاهِبُ إلى طَريقٍ بعيدٍ
إنَّهُ قَدَحٌ، ومُحْتَمَلٌ أنَّهُ صَحْنٌ من ذَهَبٍ لا إبريقٌ وهو حِجَابُها.
أَوَلَيْسَ هذا وصفاً لأنطِقَةِ زُحَلٍ؟
لَقَدْ تَرْجَمَ (سبايرز) البيتَ الأخيرَ بصورَةٍ مختَلِفَةٍ، فهو عِنْدَهُ:
الوَجْهُ مِنْهُ يَشْبَهُ الذاهِبَ برحلَةٍ طويلةٍ
رحلةٌ كَمَا تَطْلَعُ الشَّمْسُ!
فَهَلْ تَدْري كَمْ هي هامَّةٌ جداً كَلِمَةُ (كَمَا) في قوله: (كَمَا تَطْلَعُ الشَّمْسُ) ؟، وهل تَدْري كَمْ يَخْتَلِفُ السِياقُ الذي تجيءُ فيه عن سِياقِ العبارَةِ (من مَطْلَعِ الشَّمسِ) المكررَّةِ في المَلْحَمَة؟.
ذلكَ لأنَّ الراحِلَ كَمَا تَطْلَعُ الشَّمْسُ إنَّمَا يَرْحَلُ في مَجْرَىً فضائيٍّ مُسَاوِقٍ لمَجْرَى الشَّمْسِ، ولا يعني ذلكَ سوى أنَّهُ يَذْهَبُ إلى الكواكِبِ الخارجيَّةِ في المجموعَةِ الشمسيَّةِ إلى حيثُ المريخ، المشتري، وزُحَل. فماذا كانَ جوابُ سيدوري لجلجامشَ؟
لَقَدْ كانَ مشابهاً لِمَا قَالَه العَقْرَبُ ذو الأرْجُلِ من قبْلُ، لكنَّهَا أضافَتْ أنَّ هناك بحاراً للموتِ يَجِبُ عبورُهَا:
صَعْبٌ مكانُ العبورِ وطُرُقُهُ أصْعَبُ
وماذا تصْنَعُ عندما تَصِلُ إلى مياهِ المَوتِ؟
ولكن كَيْفَ نؤكِّدُ هذا الفَرْضِ بأرقامٍ علميَّةٍ من دَاخِلِ المَلْحَمَةِ؟.
الأَمْرُ ممكنٌ جداً فَقَدْ استعانَ جلجامشُ بـ (اورسنابي) الملاَّحِ ليوصِلَهُ إلى هناك. وقَطَعَ (أورسنابي) بطريقتِهِ العجيبَةِ مسافَةً تَقْطَعُ عادةً بـ (45) يوماً.. قَطَعَهَا بثلاثَةِ أيَّامٍ فَقَطْ.
لَقَدْ كانَ يَسيرُ بآلَةٍ سريعَةٍ يمكنُ حِسَابُ سرعَتِهَا التقديريَّةِ. فالسَّيْرُ بعرباتٍ تجرُّهَا الجِيادُ يُقَدَّرُ كَمُعَدَّلٍ بنحو 65 كم/ساعة. ولَمَّا كانت سرعَةُ سَيْرِهِمَا مضاعَفَةً (15) مرَّة (45 ÷ 3 = 15)، فإنَّ سرعتَهَا هي: (65 × 15 = 975 كم/ساعة).
وَقَدْ سَارا ثلاثَةَ أيَّامٍ أي (3 × 24 = 72 ساعة).
فَكَمْ قَطَعَا بهذِهِ السرعَةِ وبهذا الزمنِ من مسافَةٍ؟.
لَقَدْ قَطَعَا مسافةً تساوي:
المسافةُ = السرعة × الزمن = 975 × 72 = 70200 كم. وتساوي تقريباً (70000) كم.
ولكنْ إلى أينَ وَصَلا بهذِهِ المسافةِ؟
لم تَقُلْ المَلْحَمَةُ أنَّهُما وَصَلا إلى حيثُ يَقْطِنُ (أوتو ـ نوبشتم)، بل وَصَلا إلى مياهِ الموتِ فَقَطْ.
وعندما افْتَرَضْنَا أنَّ مياهَ الموتِ هي حَلَقَاتُ زُحَلٍ، فيَجِبُ أن تَكونُ هناك مسافَةً قريبةً من هذِهِ بَيْنَ أحَدِ أقمارِهِ وبَيْنَ حافَّةِ حلقاتِهِ إذا كانَ هذا الانطلاقُ قَدْ تَمَّ من أَحَدِ أقمارِهِ كَمَا افْتَرَضْنَا.
نَعَمْ.. إنَّهُ القَمَرُ (ميماس). فهو يَبْعُدُ عن زُحَلٍ (148000) كم وعِرْضُ الحَلَقَاتِ هو (65000) كم.
إذن.. المسافةُ بَيْنَ ميماس والحلقاتِ هي:
148000 - 65000 = 83000 كم.
وهذا رقمٌ قريبٌ من المسافَةِ التي قَطَعَهَا (أورسنابي) مَعَ جلجامشَ.
ولكنَّنَا لا نستطيعُ التحقُّقَ بِنَفْسِ الطريقَةِ من المسافَةِ المُتَبَقِّيةِ، لأنَّ العمودَ يَتَهَشَّمُ هنا أيضاً فلا نَعْلَمُ المُدَّةََ التي مَرَّتْ لعبورِ هذِهِ المَنْطِقَةِ والوصولِ إلى أوتو ـ نوبشتم.
أمَّا إذا كانت المسافَةُ أقلَّ من ذلكَ حَسَبَ مصادِرَ أخرى كالمثبَّتَةِ في الرَّسمِ وهي (115000) كم، فإنَّ التفسيرَ سيكونُ أكثَرَ ملائَمة ويسراً.

الثامِنُ: التشابِهُ بَيْنَ اسمي البطلين

لا تَحْتَاجُ هذِهِ الفَقَرَةُ إلى إيضاحٍ مُسْهَبٍ فَثَمَّةُ اعتقادٌ حَوْلَ المعنى اللغويِّ لأسم المَلِكِ (جلجامش) كلَفْظٍ، وثَمَّةُ سؤالٌ عن أسمِ ذي القرْنَينِ. إذ أنَّ معناه يَشْبَهُ المعنى الذي يقدِّرُهُ عُلَمَاءُ الآثارِ لأسم جلجامش. وسَبَبُ ذلكَ أنَّ ذا القرْنَينِ لَقَبٌ لا اسمٌ.
قَالَ طه باقر: (عجباً! مِنْ جلجامشَ هذا الذي أَصْبَحَ مِثَالاً يُحْتَذى بِهِ في أَبْطَالِ جميعِ الأُمَمِ على الأرضِ؟)
وَذَكَرَ بَعْدَ ذلكَ المعنى المُحْتَمَلَ للاسمِ فَقَالَ:(الرَّجُلُ الذي يُنْبِتُ شَجَرَةً). ولو أَرَدْنَا ترجُمَةَ هذِهِ العبارَةِ إلى ألفاظِ العراقيين اليوم فَلَنْ نَجِدَ أفْضَلَ من مفردةِ (عائش أو عياش) وما شابه، إذ أنَّ الذي يُنْبِتُ شَجَرَةً ويُخْلِّفُ ذريَّةً أو يَفْعَلُ أفعالاً تُخَلِّدُهُ لا يُعَدُّ ميتاً، فهو عِنْدَهُم (عايِشٌ).
ومِنْ هنا فإنَّ مَعْنَى اللفظِ يدورُ حَوْلَ استمرارِ الحياةِ بنحْوٍ ما.
أمَّا أسمُ ذي القرْنَينِ فَقَدْ وَرَدَ في كتابِ (النور المبين) وكتاب (البرهان) وغيرهما أنَّ رَجُلاً سَأَلَ علياً (ع) عن أسمِ ذي القرْنَينِ فقَالَ: (كانَ أسمُهُ عياش وكانَ قَدْ مَلَكَ بَعْدَ الطوفان). والنصُّ هذا موجودٌ في النورِ المبينِ في قصَّةِ ذي القرْنَينِ، وفي كتابِ البرهانِ من شَرْحِ سورةِ الكهف في الحديثِ المرَقَّمِ (27).
ومعلومٌ إنَّنا نَقْصِدُ بذي القرْنَينِ في هذا الكتابِ الوليَّ المَلِكَ المذكورَ في النصِّ القرآنيِّ، وهو غَيْرُ الإسكندر المُلَقَّبِ أيضاً بهذا اللَّقَبِ، ذلكَ أنَّ لَقَبَ ذي القرْنَينِ هو لَقَبٌ قَديمٌ استَعَارَهُ من صَاحِبِهِ الأوَّلِ أشْخَاصٌ كثيرون مِنْهُم الإسكندرُ كَمَا أكَّدَ طه باقر بقَولِهِ: (والبَطَلُ جلجامشُ أنتَقَلَ اسمُهُ إلى مَعْظَمِ الآدابِ القديمةِ وإنَّ أعمالَهُ نُسِبَتْ إلى أبْطالٍ أو أسْمَاءٍ من الأُمَمِ الأُخرى مِثْل (أخيل) و (هرقل) و(الإسكندر) و(ديسيوس) في الأوديسة).
فَكَيْفَ أنْتَقَلَ هذا الاسمُ ما لم يعنِ اللَّقَبَ لا الاسمَ. فالمشهورُ أنَّ الإسكندرَ لُقِّبَ بذي القرْنَينِ لا بجلجامشَ. وعلى ذلكَ فإنَّ هذا الذي يقولُهُ باقِرُ يؤكِّدُ وِحْدَةَ البَطَلَينِ في الأصْلِ، فإنَّ عياشَ (جلجامشَ) هو المُلَقَّبُ الأوَّلُ بذي القرْنَينِ، وهو نَفْسُهُ الذي يَذْكُرُهُ القرآنُ الكريمُ.
وَقَدْ أَكَّدَ نصٌّ آخَرٌ للإمامِ عليٍّ (ع) إنَّهُ أوَّلُ وليٍّ يكونُ من الملوكِ، وأوَّلُ مؤمِنٌ مَكَّنَ اللهُ لَهُ في الأرضِ.
إنَّ مَعْنَى أسمِهِ يَدِلُّ من جِهَةٍ أُخرى على ما ذَكَرْنَاهُ من حَتْمِيَّةِ عداءِهِ لعشتارَ، فإنَّ (العيّاشَ) هو الشديدُ الرَّغْبَةِ في البَقَاءِ على الحياةِ، وعشتارُ هي حياةٌ مُنْقَطِعَةٌ. فالعَدَاءُ بينَهُما مُسْتَحْكِمٌ تَفْرِضُهُ الأسماءُ مُنْذُ ولادةِ جلجامشَ:
مَنْ غَيْرُهُ سُمِّيَ جلجامشَ سَاعَةَ وِلادَتِهِ؟

صورة رمزية إفتراضية للعضو علي العذاري
علي العذاري
انتقل لرحمة الله
°°°
افتراضي
التاسِعُ: التشابِهُ في الملوكيَّةِ
لَقَدْ كانَ هذا التشابِهُ واضِحَاً بَعْدَ تأكيدِ النصوصِ على كونِ ذي القرْنَينِ قَدْ مَلَكَ فِعْلاً في الأرضِ وبَعْدَ التعبيرِ القرآنيِّ (إنَّا مكَّنَا لَهُ في الأرضِ) والذي يَدِلُّ في العادةِ على المُلْكِ.
أمَّا ملوكيةُ جلجامشَ فَقَدْ أَصْبَحَتْ أمْرَاً مفروغاً مِنْهُ، إذ الثابِتُ تاريخياً أنَّ جلجامشَ مَلَكَ في الوركاء وجاءَ اسمُهُ في ثَبْتِ الملوكِ السومريِّ من سُلالةِ الوركاءِ الأولى وهي ثاني سُلالةٍ تَحْكُمُ الوركاء بَعْدَ الطوفانِ، إذ حَكَمَتْ قَبْلَهَا سُلالةُ كيش الأولى.
ويأتي ترتيبُهُ الخامسَ من مِلوكِ تِلْكَ السُلالةِ.
وَقَدْ عَثَرْنَا على أمْرٍ آخَرٍ فيه شيءٌ من الطرافةِ عندما أرَدْنَا إثباتَ الوجْهَ الوحيدَ في الاختلافِ بينهُمَا وهو (مدَّةَ الحُكْمِ)، حيثُ نصَّ الإمامُ عليٌّ(ع) على أنَّ حُكْمَ ذي القرْنَينِ دامَ ثلاثين سنةً فَقَطْ، أمَّا حُكْمُ جلجامشَ فَقَدْ حَدَّدَهُ إثباتُ الملوكِ بمائٍة وستةٍ وعشرين سنةً. أقول حيثُ أوْرَدْنا ذِكْرَ هذا الاختلافِ الوحيدِ بينهُمَا وَجَدْنَا أنَّ إثباتَ الملوكِ حَدَّدَ فَتْرَةَ حُكْمٍ لأبنِ جلجامش المسمى (أور ـ لوكال) مقدارُها ثلاثون سنة.
فَهَلْ تَوَهَّمَ كاتبُ الملحمةِ فَحَسَبَ سِنِيَّ جلجامشَ لولدِهِ لوكال أم أنَّ ذا القرْنَينِ هو أبنُ جلجامشَ لا جلجامشُ ذاتَهُ؟
فلماذا لم يَبْحَثْ ابنُ جلجامشَ عن (عين الحياة) ويُعِدْ ما قَامَ به أبوه من قَبْلُ؟
ولماذا لم يَصِلْ إلينا من هذا الابنِ ما وَصَلَ عن جلجامشَ؟
إنِّي أُرَجِّحُ أنَّ شيئاً من هذا لم يحدثْ. ولكنْ من المُحْتَمَلِ جداً أنْ يكونَ ناسِخُ ثَبْتِ الملوكِ قَدْ أستقلَّ ُمَّدَة حُكْمِ جلجامشَ الشهيرَ وأستَكْثَرَ مُدَّةَ حُكْمِ ابنِهِ الغيرِ مشهورٍ فَحَسَبَ أنَّ الكاتبَ السومريَّ قَدْ أخْطَأَ فقام هو بالتصحيحِ خاصَّةً وأنَّهُ قَدْ نَقَلَ الثَبْتَ عن ألواحٍ أقْدَمَ كانتْ مهشَّمَةً كَمَا ذَكَرَ ذلكَ الناسخُ نَفْسُهُ في التذييلِ. فراجِعْ الأمْرَ في ثَبْتِ الملوكِ من كتابِ طه باقر (مقدِّمةٌ في تأريخِ الحضاراتِ).
ومِثْلُ هذا الأمرِ كثيراً ما يَحْدِثُ، فَقَدْ عانى التُراثُ الإسلاميُّ القريبُ تاريخياً من مِثْلِ هذِهِ (التصحيحاتِ) المزعجَةِ من النُّسَاخِ.
أمَّا إذا كانت كِسَرُ الألواحِ لم تتفقْ عِنْدَهُ أصلاً فإنَّ تقديرَهُ هذا مَعَ اعتقادِهِ بضرورةِ فَتْرَةِ حُكْمٍ أكثرَ لِمَنْ هو أشْهَرُ ستكونُ واقعةً حتماً لوجودِ عاملين يساعدان على مِثْلِ هذا التصوّرِ.



التَّغيُّرَاتُ النِسْبِيَّةُ فِي الزَّمَنِ علَى جِلْجَامِشَ

إنَّ هذِهِ المقطوعَةَ من المَلْحَمَةِ هامَّةٌ جداً، فَقَدْ نَقَلَ لنا الكاتِبُ البابليٌّ التَغَيُّرَ النسبيَّ للزَّمَنِ من خلالِهَا بلباقَة وذكاءٍ ورَبَطَ بَيْنَ هذا التغيُّرِ وبَيْنَ قانونِ المَوْتِ والحياةِ.
وهذه المقطوعَةُ تُذَكِّرُنا بطرائقِ المدرِّسينَ في شَرْحِ نسبيَّةِ اينشتاين حيثُ ذَكَروا أنَّ الطالِبَ عندَما يَسْأَلُ الأستاذَ: (ما هي النسبيَّةُ؟) فإنَّ الأستاذَ يقولُ: (هَلْ رَأيْتَ أمَّكَ وهي تَخْبِزُ الخُبْزَ؟). ويبدو السؤالَ الجديدَ لا علاقَةَ لَهُ بالنسبيَّةِ، ولكنَّ الطالِبَ يجيبُ: (نعم..)، فيقولُ الأستاذُ: (لِنَفْرِضَ أنَّكَ كُنْتَ تَنْظِرُ إليها وَقَدْ أَتَمَّتْ الرَّغيفَ الثالِثَ فأَعْجَبَكَ أن تَقومَ بجولَةٍ في الكونِ بسُرْعَةِ الضوءِ لِحينَ إتْمامِهَا العَمَلَ وتَعودَ مَعَ الغداءِ ولكنَّكَ زِدْتَ السرعَةَ إلى ما هو أكثرِ من سرعَةِ الضوءِ، وحينما رَجَعْتَ فوجئْتَ عندَما وَجَدْتَ العَجينَ مُغَطَّى، وحينما سألْتَهَا "أينَ الخُبْزُ؟" قَالَت "أي خبز؟ إنَّني لم أخبُزْ وأنتَظِرُ تَمَاسُكَ العجينَ؟!")
ويبرِّرُ الأستاذُ ذلكَ بقولِهِ: (لأنَّ زيادَةَ السرعةِ إلى ما فوقَ سرعة الضوءِ أدَّتْ إلى انعكاسٍ في حَرَكَةِ الزَّمَنِ).
لا تُوجَدُ في المَلْحَمَةِ سرَعٌ من هذا النوعِ. ولكنْ هناك تَغَيُّراً شاملاً في الموضِعِ بحيثًُ أدَّى إلى تغيُّرِ الشعورِ بالزَّمَنِ. فالشعورُ بالزَّمَنِ لا بُدَّ أنْ يتغيَّرَ بَيْنَ نظامينِ مختلفينِ. وهذا يؤكِّدُ لنا مرَّةً أخرى فضائيةَ الرحلةِ حيثُ استَعْمَلَ الكاتِبُ نَفْسَ الأسلوبَ وهو الأرغفَةَ التي تَخْرِجُ من التَّنورِ.
فَعَلَ ذلكَ أوتو ـ نوبشتم القاصي (نوحُ الطوفانِ) حينما أرادَ أنْ يُبَرْهِنَ لجلجامشَ أنَّ الخلودَ يحتاجُ إلى نظامٍ مُختلفٍ لا يلائمُ ذلكَ الجُزْءَ المتبقي مِنْهُ (الجُزْءَ البشريَّ).
فعليه أولاً التخلُّصَ من هذا البَدَنِ المرتَبِطِ بنظامٍ أرضيٍّ بكلِّ أبعادِهِ، وهو ما لا يَقْدِرُ على فِعْلِهِ جلجامشُ إلاَّ بالموتِ. وهنا يَظْهَرُ جَدَلُ التناقُضِ من حيثُ أَصْبَحَ الموتُ هو الطريقَ الوحيدَ للفرارِ من الموتِ!!، وبحيثُ يصبَحُ الخلاصُ هو في ما تريدُ التخلُّصَ مِنْهُ، ذلكَ لأنَّ حقيقةَ اللهِ مُطْلقَةٌ لا تَسْمَحُ بوجودِ آخَرٍ مَعَهَا يَتَّسِمُ بالديمومةِ والبقاءِ إلاَّ بمقدارِ إقرارِ هذا الوجودِ بفنائِهِ دوماً. فالموتُ ليس فناءً وإنَّمَا هو صورةٌ وهميَّةٌ لهذا الفناءِ موضوعةٌ للاختبارِ شأنُهُ شأنَ الحياةِ الدُّنيا التي هي عبارَةٌ عن صورةٍ وهميَّةٍ للحياةِ الفعليةِ. وإنَّ (آنو) قَدْ (خَلَقَ الموتَ والحياةَ من سِنْخٍ واحِدٍ ومن جَذْرٍ تكوينيٍّ مُشْتَرَكٍ) للإعلانِ عن تَفَرُّدِهِ. فالإقرارُ بكونِهِ مُتَسَلِّطٌ وقاهِرٌ من خِلالِ التلاحُمِ بَيْنَ الموتِ والحياةِ هو السبيلُ الوحيدُ لتحصيلِ البقاءِ مَعَهُ.
لَقَدْ بدا للبعضِ أنَّ هذِهِ القطعَةَ من المَلْحَمَةِ ليست سوى أوهاماً خرافيةً أضَافَهَا الكاتِبُ من خيالِهِ لأسبابٍ مجهولَةٍ. ولكنَّ حساباتِنَا أثْبَتَتْ على نَحْوٍ ما أنَّ أوتو ـ نوبشتم في كوكبِ زُحَلٍ أجرى هذا الاختبارَ على جلجامشَ وجَاءَ بفوارقٍ نسبيَّةٍ بَيْنَ النظامينِ تتطابَقُ مَعَ الفوارقِ الفعليَّةِ التي نَعْرِفُهَا الآنَ.
واستَخْدَمَتْ المَلْحَمَةُ ظاهِرَةَ النومِ لإيجادِ المُبَرِّرِ لتغييرِ الزَّمَنِ واختلافِ الشعورِ من جِهَةِ أنَّ الخالدينَ لا ينامونَ. ولكنَّ أوتو ـ نوبشتم لم يَكُنْ قاسياً إلى هذا الحَدِّ، فلم يَطْلُبْ مِنْهُ أنْ لا ينامَ مطلقاً، ولكنْ يتوجَّبُ عليه في الأَقَلِّ أن ينامَ وفقَ طبيعَةِ زُحَلٍ والذي هو الموضِعُ الذي وَصَلَهُ الآنَ وقَدَّمَ فيه مَطْلَبَهُ بالخلودِ.
قَالَ أوتو ـ نوبشتم لجلجامشَ أنَّ عليه أنْ لا يَنَامَ ستَّةَ أيَّامٍ فَقَطْ مَعَ لياليها.
فَكَيْفَ يكونُ الشعورُ بالزَّمَنِ؟ أهو شعورُنَا بالأيَّامِ أو هو شعورُنَا بالسنينِ أو هو حاصلُ جمعٍ لكلِّ تلكَ الأجزاءِ الزَّمنيَّةِ؟.
يبدوا أنَّ الشعورَ بالزَّمنِ هو شعورٌ مركَّبٌ، فهو شعورُنَا بالأيَّامِ والشهورِ والسنينِ وأجزائِهَا في مجموعٍ متَوَحِدٍّ مرتَبِطٍ بشعورِنَا بالعُمْرِ نَفْسِهِ ومُعَدَّلِهِ العامِّ، لأنَّ في الأرْضِ نَفْسِهَا كائناتٍ بأَعْمَارٍ مختلِفَةٍ، فهناك حَشَرَاتٌ عُمرُهَا (24) ساعةً فَقَطْ وهي لا تَشْعُرُ بالطبعِ أنَّ عُمرَهَا قصيرٌ إلى حَدٍّ مُسْتَغْرَبٍ وسيكونُ شعورُ من يتجاوَزُ هذا المُعَدَّلَ إلى (28) ساعةً مثلاً أنَّهُ أَصْبَحَ من المُعَمَّرينَ!!.
فلكي نَصِلَ إلى صياغةٍ رياضيَّةٍ للشعور بالزَّمَنِ نَفْتَرِضُ أنَّهُ يُنَاسِبُ عَدَدَ الأيَّامِ في السَّنَةِ، فالأيَّامُ تقسيمٌ صغرويٌّ والسنواتُ أجزاءٌ كُبْرَى.
وعَدَدُ أيَّامِ السَّنَةِ الأرضيَّةِ هو 360 يوماً. أما في زُحَلٍ فإنَّ سَنَتَهُ تُعَادِلُ (30) سنةً من سِنِيِّ الأرْضِ ويومَهُ يعادِلُ (10) ساعاتٍ من ساعاتِنَا.
وإذن.. فأيَّامُ زُحَلٍ في كلِّ سَنَةٍ من سِنِيِّهِ هي:
30 × 360 = 10800 يوماً من أيَّامِ الأرْضِ.
إذن.. فنِسْبَةُ أيَّامِ الأرْضِ إلى أيَّامِ زُحَلٍ تُمَثِّلُ الفارِقَ في الشعورِ الزَّمَنيِّ، وهي تساوي: 10800\360 = 30\1. فإذا نَامَ المرءُ ساعَةً واحِدَةً أرضيَّةً في نِظامِ زُحَلٍ فهذا يعني أنَّهُ نَامَ (30) ساعة في نظام زحل.
وهذا يعني أن نوم ساعتين أرضيتين يُعادلُ نوم (2 × 30/10) = 6 أيَّامٍ من أيَّامِ زُحَلٍ!!
فَهَلْ تعتقدُ أنَّ هذا التطابقَ في النِسَبِ المتغيِّرَةِ مُجَرَّدُ صِدْفَةٍ أو هذيانٍ جاء عفواً أمْ أنَّ الكاتِبَ َُدْرِكُ من طبائِعِ زُحَلٍ ما لا نَدْرِكُ بعضَهُ الآنَ إلا َّبأرْقَى الآلات؟. بالتأكيد إنَّهُ يَدْرِكُ ذلكَ كلَّهُ لأَنَّهُ ينتَقِلُ من شعورِهِ إلى شعورِ أوتو ـ نوبشتم ويضَعُ الفواصِلَ المناسِبَةَ بذكاءٍ مُدهشٍ ومحيِّرٍ!.
إنَّ 6 أيَّامٍ يعني ستَّةَ أيام وسَبْعَ ليالٍ بالضبط. فلنلاحِظ كيف جرى الاختبارُ:
قَالَ أوتو ـ نوبشتم لجلجامشَ
تُريدُ أنْ تَنَالَ الحياةَ التي تَبْغِي؟
تَعَالَ أختبِرُكَ
لا تَنَمْ ستَّةَ أيَّاٍم وسَبْعَ أمسياتٍ
ولكنْ وهو لا يَزالُ قاعِدَاً أَخَذَتْهُ غفوةً
وتَسَلَّطَتْ عليه كالضبابِ
فألتَفَتَ أوتو ـ نوبشتم إلى امرأتِهِ وخاطَبَهَا قائلاً:
تأمَّلي هذا الرَّجُلَ البَطَلَ الذي يَنْشِدُ الحَيَاةَ
لَقَدْ أَخَذَتْهُ سِنَةٌ من النَّوْمِ
وتسلَّطَتْ عليه كالضبابِ
فأجَابَتْ زوجُ أوتو ـ نوبشتم زوجَهَا قائِلَةً
الْمَسْ الرَّجُلَ كي يستيقظَ
ليعودَ أدْراجَهُ سَالِمَاً في الطريقِ الذي جَاءَ مِنْهُ
ليَعودَ إلى وطَنِهِ من البابِ الذي خَرَجَ مِنْهُ
حتَّى مخاوف المرأةِ لم يَهْمِلْهَا الكاتِبُ، فَقَدْ خَشِيَتْ أنْ يُصيبَهُ مكروهٌ من جراءِ تَغيُّراتِ النظامِ فعليهِ الإسراعُ بإرجاعِهِ من حيثُ جَاء!!.
فَقَدْ جَاءَ يَنْشِدُ الحياةَ الأبديَّةَ فإذا هو يحتاجُ لستَّةِ أيَّامٍ بلياليها من أَجْلِ أنْ ينامَ ساعةً واحدةً ببدَنِهِ الأرضيِّ.
ولكنَّ أوتو ـ نوبشتم يَعْلَمُ أنَّ الإنسانَ هو (أكثَرُ شيءٍ جَدَلاً)، فَهَلْ سَيَقْتَنِعُ جلجامشُ أنَّهُ رَدَّ مطلبَهُ لمُجَرَّدِ أنَّهُ نَامَ ساعَةً واحِدَةً؟
عليه إذن أنْ يُثْبِتَ بِبُرهانٍ قاطِعٍ أنَّهُ نَامَ ستَّةَ أيَّامٍ بلياليَهَا!
فَكيفَ يَفْعَلُ ذلكَ؟ هذا ما سَرَدَهُ النصُّ مواصلاً:
فَأَجَابَ أوتو ـ نوبشتم امرأتَهُ وقَالَ لَهَا
لَمَّا كانَ الخَداعُ من طبيعةِ الإنسانِ فإنَّهُ سيَخْدَعُكِ
فَهَلُمِّي اخبزي لَهُ أرغفَةً من الخُبْزِ
وضَعِيهَا عِنْدَ رأسِهِ
والأيَّامُ التي ينامُهَا أشِّريهَا في الجِدَار
فخَبَزَتْ لَهُ أرغفةً من الخُبْزِ ووَضَعَتْهَا عِنْدَ رأسِهِ
وأشَّرَتْ في الجِدَارِ الأيَّامَ التي نامَهَا
وهل تُعْتَبَرُ هذِهِ الطريقةَ فَذَّةً في إثباتِ عدَدِ الأيَّامِ؟.. بالتأكيد لأنَّ الخُبْزَليس خُبْزَ الأرضِ، إنَّهُ خُبْزُ زُحَلٍ وإنَّهُ يَتَأَثَّرُ بأيَّامِ زُحَلٍ لا بساعَتَيْ نَومِ جلجامشَ! وهذا ما كانَ بالفِعْلِ:
فَصَارَ الرغيفُ الأوَّلُ يابِسَاً
وتَلَفَ الرغيفُ الثاني
والثالثُ لم يزلْ فيه رطوبةٌ
وابيَضَّتْ قِشْرَةُ الرغيفِ الرابعِ
والخامسُ لم يزلْ طرياً
والسادسُ رغيفٌ تَمَّ خُبْزُهُ في الحالِ
ولَمَّا يزلْ الرغيفُ السابعُ على الجَمْرِ
لَمَسَ أوتو ـ نوبشتم جلجامشَ فاستيقظَ
لَقَدْ تَلَفَتْ الأرغفةُ الأولى وتَيَبَّسَتْ لأنَّها قَدْ مرَّتْ عليها الآن ستَّةُ أيَّامٍ وإنْ كانَ جلجامشَ قَدْ نَامَ ساعتينِ فقط في حساباتِهِ وشعورِهِ!
وصدَقَ تَنَبُّأُ نوبشتم فإنَّ جلجامشَ لم يكتف بإنكارِ هذِهِ المُدَّةِ من النَّومِ بنظامِ زُحَلِ، بل ألقى باللائمَةِ على نوبشتم لأَنَّهُ أيقظَهُ قَبْلَ أنْ يَشْبَعَ من النَّومِ!!.
فما عسى أنْ تفْعَلَهُ ساعتانِ أرضيتانِ لجَسَدِهِ المُنْهَكِ من الأسْفَارِ، وشكايتُهُ المستمرَّةُ هي في أنَّهُ لم يَذِقْ طَعْمَ النَّومِ حتَّى وَصَلَ إلى نوبشتم!.
فلماذا يعيدُ الكاتِبُ نَفْسَ الحكايَةِ عن الأرغفَةِ والذي عَدَّهُ الشُّراحُ تِكْرَارَاً مُمِلاً؟.
طَبْعاً لأَنَّهُ لا يكفي جَمْعُ أرغفةٍ ما لم يعطِهَا أرقامَهَا كونها أرغفَةً صُنِعَتْ لوجبةٍ واحدةٍ. ومعنى ذلكَ أنَّ على جلجامشَ أنْ يفهَمَ أنَّهما لم يصنعا الخبز رغيفاً رغيفاً في كلِّ يومٍ لهذا الإثباتِ، بل هي عادتُهُم في عَمَلِ وجْبَةٍ من سبعَةِ أرغفَةٍ!. وهذا يعني أنَّهُ لا يستطيعُ أنْ يأكُلَ معهم في نظامِهِم حتَّى لو قبلوه على علاَّتِهِ البشريَّةِ الأرضيَّةِ. فالخبزُ الذي يلائمُهُ صناعتُهُ مستحيلةٌ في كوكبِ زُحَلٍ!.
لَقَدْ فَهِمَ جلجامشُ الأمْرَ بصورةٍ شاملةٍ.. فَهِمَ النظامَ اللائِقَ بالخلودِ وفَهِمَ أيضاً فلسفَةَ الموتِ والخلودِ. فالخلودُ يَمُرُّ من طريقِ الموتِ، وأينَمَا يَضَعُ قَدَمَهُ ويوجِّهُ وجهَتَهُ فليس ثمَّةَ سوى الموت:
فقَالَ جلجامشُ لأوتو ـ نوبشتم
ماذا عسايَ أنْ أَفْعَلَ يا أوتو ـ نوبشتم
وإلى أينَ أوجِّهُ وَجْهِي؟
تَمَكَّنَ الموتُ من لُبِّي وجَوارِحِي
أَجَلْ.. في مَضْجَعِي يُقِيمُ الموتُ
وحيثُمَا أَضَعُ قَدَمِي يَرْبِضُ الموتُ.


أسطورَةُ الطوفانِ أمْ طوفانِ الأسطورَةِ
((قِرِاءَةٌ جَديدَةٌ في اللَّوْحِ الحادي عشر))

ينطوي التفسيرُ الجديدُ لِسَبَبِ الطوفانِ عَلَى ربْطِهِ بواقِعَةٍ ذاتِ صِلَةٍ بالقوى التي تتحكَّمُ بالمياهِ الجوفيَّةِ ومياهِ الأمطارِ ومناسيبِهَا.
ويتركَّزُ الافتراضُ عَلَى أنَّ السَّبَبَ الرئيسَ للطوفانِ من الناحيَةِ الطبيعيَّةِ هو حصولُ ثورةٍ لِبُرْكانٍ عظيمٍ في المنطقةِ.
ولكنْ قَبْلَ ذَلِكَ يتوجَّبُ علينا تصحيحُ المفاهيمِ الخاطئةِ التي جَمَدَ عليها الباحثونَ في الدِّين وفي المؤسَّسَةِ الثقافيَّةِ، والتي تتنافى مَعَ الدِّين ومع العِلْمِ الذي التَزَمَتْ بِهِ المؤسَّسَاتُ ظاهرياً.
فالخَطَأُ الذي يَرْتَكِبُهُ الباحثونَ في مَجَالِ الدِّين شبيهٌ إلى حَدِّ كبيرٍ بالخطأِ الذي يَرْتَكِبُهُ عُلماءُ الطبيعةِ.
فالمجموعةُ الأولى تَعْتَقِدُ غالباً أنَّ أنواعَ العذابِ الإلهيِّ الذي ذَكَرَتْهُ الكُتُبُ المُقَدَّسَةُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ البَحْث في العلَلِ الطبيعيَّةِ أو ضرورةَ تَجَاهُلِهَا، إذ لا معنى لَهُ عِنْدَهُم سوى أنَّ هناكَ يَدَاً خَفيَّةً هي يَدُ اللهِ التي فَعَلَتْ الظَّاهِرَةَ أو أَنْزَلَت العَذاَبَ.
بَيْنَمَا تَعْتَقِدُ المجموعةُ الثانيةُ نَفْس المسألةَ باختلافٍ في الترتيبِ فَقَطْ:
فالبَحْثُ العلميُّ المُجَرَّدُ يُوجِبُ عَلَى اعتِقَادِهِم استِبْعَادُ اليَدِ الإلهيَّةِِ…
ومِنْ هنا تَصْبحُ حادِثَةُ الطوفانِ قَدْ وَقَعَتْ بَيْنَ فئتينِ لا يَتَّصِفُ مَنْهِجُهُمَا بالصِّفَةِ العِلْمِيَّة كَمَا سنلاحِظُ قريباً.
إنَّ النصَّ الدِّينيَّ يَحتاجُ إلى مُراجعَةٍ من قِبَلِ جميعِ الأطرافِ بَعْدَ إجْرَاءِ تصحيحٍ للمفاهيمِ المتعلِّقَةِ بفلسفَةِ الدِّينِ نَفْسِهِ. ففي اعتقادِي أنَّ الدِّينَ لَمْ يُكْتَشَفْ إلى هذِهِ اللحظةِ لا مِنْ قِبَلِ العاملينَ في هذا المَجَالِ ولا مِنْ قِبَلِ خصومِهِم أدعياءِ الثقافَةِ العِلْمِيَّةِ.. فأَدْعِيَاءُ الدِّين لَمْ يُقَدِّمُوا لَنَا دِينَاً علميَّاً، وأَدْعِيَاءُ الثقافَةِ العِلْمِيَّة لَمْ يُقَدِّمُوا لنا تفسيراً ثقافيَّاً وعلميَّاً للدِّينِ.. والحقيقَةُ الوحيدةُ الصحيحَةُ هنا هي ما في قولِ صَاحِبِ رِسَالَةِ الدِّينِ نَفْسِهِ، أعني النبي (ص) حينَمَا قَالَ:
(وَلِدَ هذا الدِّينُ غَريبَاً ويَبْقَى غَريبَاً أو {ويَعُودُ غَريبَاً في نصٍّ آخَرٍ} فَطُوبَى للغُرَبَاءِ).

إذن.. فَهْوَ يَقولَ طُوبَى فَقَطْ لأولئِكَ الغُرَبَاءِ الذين يَبْقونَ غرباءَ في مجتمعاتِهِم. وبالتأكيدِ فإنَّ هؤلاء أعدادٌ قليلةٌ جداً جداً تعيشُ غُرْبَةَ الثقافَةِ في الدِّين وغُرْبَةَ الدِّينِ في عالَمِ الثقافَةِ في آنٍ واحدٍ. وبالتالي فهي قَطْعَاً لَيْسَتْ من رجالِ الدِّين ولا من رِجَالِ الثقافَةِ!.
وَهَلْ تَحْسَبُ أنَّ الجنَّةَ لغيرِ هؤلاءِ؟. بلى.. إنَّهَا لهؤلاءِ المعدودينَ فَقَطْ. فإنَّ طوبى وَهْوَ اسْمٌ للجنَّةِ هي لهؤلاءِ.. لأنَّنَا نَعْلَمُ أنَّ النصّ القرآنيَّ قَدْ أشارَ إلى أنَّ أهلَ الجنَّةِ هُمْ أقلِّيةٌ قليلةٌ جداً:
(ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِيْنَ. وثُلَّةٌ من الآخرين) (الواقعة:39 ـ 40)
أمَّا أهلُ النارِ فَهُم أُمَمٌ كامِلَةٌ:
(كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) (الأعراف:38)
فالنصُّ الدِّيني يُكَفِّرُ أولئكَ الذين يَنكرونَ ارْتِبَاطَ الظواهِرِ بِعِلَّتِهَا النهائيةِ من فوقٍ التي تَبَنَّاهَا أهلُ الثقافةِ مثلما يُكَفِّرُ أولئكَ الذين يَتَنَكَّرونَ لارتباطِهَا بِعِلَلِهَا الطبيعيةِ من الأسفلِ التي تَبَنَّاهَا أهلُ الأدْيانِ، لأَنَّ الدِّينَ في مضمونِهِ الحقيقيِّ عبارةٌ عَن توضيحٍ للعِلَلِ وعلاقَاتِهَا بعضِهَا بِبَعْضٍ.
فَمِنَ الأعلى ثَمَّةُ سلسلةٌ من العِلَلِ لا يمكنُ أنْ تَتَنَاهى ومعرفَتُهَا مفتوحةٌ بلا حدودٍ، وَمِنَ الأسفلِ حَيْثُ ترتبطُ بالإنسانِ فإنَّها عِلَلٌ معدودةٌ ومحدودةٌ بِحَسَبِ الظاهرَةِ وهي تُشيرُ إلى مسؤوليةِ الإنسانِ عَن النظامِ الطبيعيِّ ومجرياتِهِ.
إنَّ إنكارَ هذِهِ العِلَلِ من جِهَةِ الإنسانِ عِنْدَ رجالِ الدِّينِ هو إنكارٌ للتَرَابُطِ الغائيِّ بَيْنَ خَلْقِ العالَمِ وخَلْقِ الإنسانِ. وإنكارُ ارتباطِهَا العلويِّ لا يعني بالنتيجةِ إلاَّ الشيءَ نَفْسَهُ.
فَهَلْ تَْحَتاجُ تِلْكَ المعادلَةُ إلى أَدِلَّةٍ من النصّ الدِّيني والنصِّ الكونيِّ المفتوحِ؟.
إن الأدِلَّةَ كثيرةٌ لا حَصْرَ لها وقريبةٌ جداً. وَحينَمَا يَسْمَعُ المرءُ أخباراً عَن هَلاكِ الأُمَمِ كالذي يَذْكُرُهُ القرآنُ يَذْهَبُ بالُهُ دوماً إلى تَصَوّرٍ مُغايِرٍ لما يُريدُ إبْرَازُهُ النصُّ الدِّينيُّ. فَهْوَ يَظِنُّ أنَّ تِلْكَ الأقوامَ هَلَكَتْ مِنْ غيرِ عِلَلٍ طبيعيةٍ.
لَمْ يَحْدِثْ إنْ قَامَ أَحَدٌ في البَحْثِ الدِّيني بدراسةٍ للربطِ بَيْنَ سلوكِ الإنسانِ ونوعِ العذابِ الذي وَقَعَ عَلَى الأُمَمِ لاكتشافِ الرباطِ السببيِّ في علاقَةِ الإنسانِ بالطبيعةِ مثلما تَجَاهَلَهَا أَهْلُ الثقافَةِ وَهُم يَدرِسونَ حَرَكَةَ التاريخ ويكتشفون غوامِضَهَا!.
لَيْسَ إهْلاكُ قومِ عَادٍ بالرِّيحِ العاتيةِ اختياراً عشوائياً أَعْجَبَ جبريلُ أنْ يَفْعَلَهُ، بَيْنَمَا أَعْجَبَهُ أنْ يُهْلِكَ قومَ نوحٍ بالطوفانِ وقومَ لوطٍ بالحجارَةِ.
ونَحْنُ لا ندرِكُ العلاقَةَ العلويَّةَ لهذا الاختيارِ ولعلَّنَا ندرِكُهَا يوماً ما ولكنْ مِنَ المُؤَكَّدِ أنَّنَا لَنْ ندركَهَا قَطْ ونَحْنُ نَنْكِرُ ارتباطَنَا بِهَا من الأسفلِ.
وإذا نَظَرْنَا إلى الدِّينِ نَظْرَةً مُجَرَّدَةً عَن أي حُكْمٍ سابِقٍ فَلَنْ نَجِدَهُ في الواقِعِ سوى نصَّاً يوضِّحُ بشَكْلٍ مُعَمَّقٍ علاقاتِ الأشياءِ بعضِهَا بِبَعْضٍ!
أنَّهُ نصٌّ يوضِّحُ العلَلَ لا غير:
إذا فَعَلْتَ كذا وَقَعَ كذا وإذا فَعَلْتَ كذا أصَابَكَ كذا… وإذا لَمْ تَفْعَلْ كذا فانتظرْ وقوعَ كذا… إذا فَعَلْتُم كذا انفتَحَتْ أبوابُ جهنَّمَ.. وإذا فَعَلْتُم كذا انفَتَحَتْ أبوابُ الجنَّةِ. وبعد ذَلِكَ فأنْتُم وما تشاءون أنْ تَفْعَلوا: لَيْسَ ثمَّةُ إكراهٌ عَلَى فِعْلِ شيءٍ دُونَ شيءٍ آخَرٍ.. لأَنَّ الأصلَ في خَلْقِ الإنسانِ أنَّهُ خُلِقَ ليَخْتَارَ وإنَّ اللهَ لا يَفْعَلُ شيئاً ضِدَّ خِطَّتَهُ الأولى. فَلَو شَاءَ أنْ يَجْعَلَهُ مُكْرِهَاً لجَعَلَهُ مُكْرِهَاً مُنْذُ خَلَقَهُ وَلَمَا مَنَحَهُ قُدْرَةً عَلَى الاختيارِ. ولذَلِكَ أكَّدَ عَلَى تِلْكَ الحُرِّيَةِ فليعْمَلَ الإنسانُ ما يشاءُ بَيْدَ أنَّ رسالةَ الدِّين تَخْبِرُهُ عَمَّا يَنْتِجُ عَن كلِّ اختيارٍ من نتائجٍ:
(أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ)
(فصلت: من الآية40)
(فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) (الزمر: من الآية15)
حتَّى صاحب الرسالةِ نَفْسه لَيْسَ عليه من واجبٍ سوى إبلاغ هذِهِ المعلوماتِ، فلا يُكْرِهُ أَحَدَاً عَلَى شيءٍ مُطْلَقَاً، بَلْ واجِبُهُ التوضيحُ لا غير.. التوضيحُ الذي لا لَبْسَ فيه.
(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: من الآية99)
(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(النحل: من الآية35)
أنَّهُ أذن بلاغٌ مبينٌ واضِحٌ لا لَبْسَ فيه.
(أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (المائدة: من الآية92)
(وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (يّـس:17)
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النحل:82)
(إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغ) (الشورى: من الآية48)
والرسولُ نَفْسُهُ لا يختارُ بدلاً عَنْهُم ولا يكونُ وكيلاً عَنْهُم ولا حفيظاً عَلَى النَّاس:
(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ)
(الشورى: من الآية48)
وإذا كَذَّبوهُ فَهَلْ يُجبِرهُم عَلَى تصديقِهِ؟
هذا مُحالٌ لأَنَّ التكذيبَ والتصديقَ لا يمكنُ أن يَحْدِثَ بالإكراه أصْلاً. فالمرءُ قَدْ يُصَدِّقُ وَقَدْ يُكَذِّبُ بالشيءِ بِلِسانِهِ دونَ قَلْبِهِ، وغايَةُ الدِّينِ أصْلاً القَضَاءُ عَلَى هذِهِ الازدواجيةِ والنِفاقِ كي يتمكَّنَ كلُّ أمريءٍ من إظْهَارِ وإعْلانِ ما يَعْتَقِدُهُ. فالأفكارُ الخفيَّةُ غيرُ المُعْلَنَةِ لَيْسَتْ سوى أمراضاً نفسيَّةً:
(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (الأنعام:66)
فَلِيُكَذَِّبوا بِهِ فَهُمْ وما يشاءون لأنَّهُ قَالَ لهم (أعلموا ما شئتم).. والاعتقادُ أَوْلَى بالحرِّيَةِ من العَمَلِ.. لأَنَّ من ضلَّ فإنَّمَا يَضِلُّ عَلَى نَفْسِهِ ومن اهتدى اهتدى لنفسِهِ وهذا لا يصحُّ مُطْلَقَاً إلاَّ حينَمَا يكونُ ارتباطُ الإنسانِ بالنظامِ الطبيعيِّ محتوماً وغائياً ومُخَطَّطَاً لَهُ سَلَفَاً.
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)(يونس:108)
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (الإسراء: من الآية54)
فلماذا جَرَّدَ سَيْفَهُ وقَاتَلَ إذن؟
ذَلِكَ لأَنَّهُمْ جَرَّدوا سيوفَهُم لِيَمْنَعُوهُ من الكلامِ والإبلاغِ.
إذ لَمْ يكتفوا بتكذيبِهِ وَهْوَ يَقولُ لَهُم:
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (الكهف: من الآية29)
لم يكتفوا في أنْ يفعلوا ما يشاءون! بَلْ أرادوا أن يُجْبِروا الخَلْقَ كُلَّهُم لِيَكْفِروا ويستحْوِذوا عَلَى مشيئَةِ الآخرين ويُصَادِروا حرِّيتَهُم وتكونُ الساحَةُ لَهُم وَحْدهُم.. هُمْ يريدونَ أن يكونوا عَلَى النَّاس وكلاءً وحُفَّاظَاً.. أمَّا الرسولُ فَهْوَ يُريدُ أنْ تكونَ الساحةَ مُشْتَرَكَةً. فَلِيُبَلِّغُوا بالكُفْرِ كَمَا يُبَلِّغُ هو بالإيمانِ، وليختارَ النَّاس ما شاءوا.
ولذَلِكَ فالرسولُ هو الوحيدُ من خَلْقِ اللهِ قَاتَلَ دِفَاعَاً عَن الحُرِّيَة مُجَرَّدَةً عَن كلِّ هَدَفٍ آخَرٍ. أمَّا الذين تَقَاتَلوا فيما بَعْدُ أو قاتلوا فلا يمكنُنَا الدفاعَ عَنْهُم، لأَنَّهُمْ فعلوا ذَلِكَ لِهَدَفٍ هو عَكْسُ هَدَفِهِ تماماً.. كانَ هَدَفُهُم السلطانَ والحُكْمَ ليكونوا وكلاءَ عَلَى النَّاس وهذا يُمَثِّلُ اختيارَهُم الذاتيَّ لا اختيارَ السَّمَاء ولا علاقةَ لَهُ بالرسالةِ ومضمونِهَا مُطْلَقَاً.
أَلَمْ يَحْدِثْ بَعْدَ وفاتِهِ (ص) مباشرةً، بَلْ قَبْلَ دَفْنِ جثمانِهِ الطاهِر أَنْ جَرَّدوا السيوفَ وطَلَبُوا البَيعَةَ مِنَ النَّاس فَمَنْ لَمْ يبايعْ عَرَّضَ عُنُقُهُ للسيفِ؟.. وأستمَرَّ هذا المَشْهَدُ إلى هذا اليومِ!. فلا يمكنُ استثناء أَحَدٌ منهُم إلاَّ أنْ يكونَ قَدْ قَاتَلَ الذين يريدونَ مُصادَرَةَ الحُرِّيَةِ قِتَالاً مُجَرَّدَاً عَن أيِّ هَدَفٍ آخرٍ. ولكنْ ما أقَلَّ هؤلاء، بَلْ ما أَنْدَرَ ما نَعْثِرُ عليهم في طيَّاتِ التاريخِ.
لَقَدْ انْعَكَسَتْ جراءَ ذَلِكَ علاقَةُ الإنسانِ بالأشياءِ. فَأَهْلُ الأديانِ يزعمونَ أنَّ النظامَ الطبيعيَّ هو الذي يُؤَثِّرُ في الإنسانِ ، بَيْنَمَا حقيقةُ النصِّ الدِّينيِّ تُظْهِرُ العَكْسَ.
فالإنسانُ هو الذي يؤَثِّرُ في النظامِ الطبيعيِّ سلباً وإيجاباً وَهْوَ الذي يمكنُهُ الانتفاعَ مِنْهُ أو تحويلَهُ إلى مَصْدَرٍ للانتقامِ مِنْهُ.
ولقد أكَّدَ جميعُ الرُّسُل عَلَى العلاقَةِ بَيْنَ السلوكِ والنظامِ الطبيعيِّ، ولكنَّ اللهَ يَتَدَخَّلُ في كلِّ آنٍ لِهَيْمَنَتِهِ المُطْلَقَةِ عَلَى الموجوداتِ في الإبقاءِ عَلَى النظامِ الطبيعيِّ مِنْ مساوئِ ما يفعَلُهُ الإنسانُ حلْمَاً بالخَلْقِ وأناةً مَعَهُم ورحمَةً بِهِم كي يَصِلَ بِهِم إلى الغايةِ النهائيةِ، وهي اكتشافُهُم للعلاقَةِ بَيْنَ خَلْقِهِ وكلامِهِ باعتبارِهِمَا نظاماً واحداً لا يتجزَّأُ.
فحينما يَبْلُغُ الحالُ إلى (الحَدِّ الحَرِجِ) الذي لا يمكنُ فيه تغييرُ هذا النظامِ تَقَعُ الظواهِرُ المُشَارُ إليها في القرآِن عَن إهْلاكِ الأُمَمِ وفقَ قوانينٍ صارمةٍ.
لَقَدْ جَاءَ الملائكَةُ (الرُّسُل) إلى إبراهيمَ (ع) بالبُشْرَى تمهيداً لإخْبَارِهِ بِنَبَأ هَلاكِ قَومِ (لوطٍ) المُرْتَقَبِ.
لَقَدْ كانَ إبراهيمُ حَليماً يَعْرِفُ مشيئةَ اللهِ وقوانينَهُ في الخَلْقِ إلى حَدِّ أنَّ الله وَصَفَهُ بِهذِهِ الصِّفَةِ في هذا الموضِعِ بالذات. فَقَدْ جَادَلَ الملائكَةُ جِدالاً طويلاً وَهْوَ يُحَاولُ تأجيلَ العَذَابِ ويَعْرِضُ الصُّوَرَ المُحْتَمَلَةَ لإمكانيَّةِ التأجيلِ.
لكنَّ الملائكَةُ أجَابوهُ في النَّهايَةِ قائلين:
(يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)
(هود:76)
هَلْ تِلْكَ كلماتٌ مُجَرَّدَةٌ يَنْقِلُهَا لنا القرآنُ؟ أم أنَّ التركيبَ (غيرُ مردودٍ) هو صِفَةٌ للعذابِ كانَتْ مُرْتَبِطَةً بقانون الكونِ لا يمكنُ خرقُهَا إلى أبْعَدِ من تِلْكَ اللحظَةِ؟
بالطبعِ هو صِفةٌ.. وألاَّ فما كانَتْ هذِهِ العبارةُ لِتَثْنيهِ عَن عَزْمِهِ في تأجيلِ العَذَابِ. لَقَدْ كانَ إبراهيمُ يومئذٍ هو الفَرْدُ الوحيدُ في العَالَمِ الذي يَعيشُ غُرْبَتَهُ:
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:120)
وَكَانَ لا بُدَّ من إخبارِهِ بتفاصيلِ هذا الأمْرِ (أَمْرُ رَبِّكَ) وكيفيةِ مجيئِهِ وفق تِلْكَ السُّنَن بحيثُ أنَّ التأجيلَ بَلَغَ الحَدَّ الحَرِجَ ولا يمكنُ خَرْقُ تِلْكَ السُّنَن إلى أزْيَدِ من ذَلِكَ.
فَأَمْرُ اللهِ لَيْسَ كَأَمْرِ مَلِكٍ من الملوكِ في الأرْضِ يُعْجِبُهُ أنْ يَقْتُلَ القومَ الفلانيين بكذا قَتْلَةٍ ويُهْلِكَ الآخرين بكذا هلاكٍ. إنَّ أَمْرَ اللهِ مُرْتَبِطٌ باختيارِ الإنسانِ نَفْسِهِ. فالأُمَمُ الهالِكَةُ اختارَتْ وَقْتَ هلاكِهَا وطريقَتِهِ بِهذِهِ السُّنَن اختياراً أصبَحَتْ نتيجتُهُ محتومةً. ومن هنا أكَّدَ القرآنُ دوماً بَعْدَ هَلاكِ الأقوامِ نِسْبَةَ الهَلاكِ إليهِم والاختيارِ لهم:
(وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (آل عمران: من الآية117)
(فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (التوبة: من الآية70)
(وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل: من الآية33)
(وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (البقرة: من الآية57)
فلاحِظْ موضِعَ (باء الواسطة) في النصِّ الذي يُفَسِّرُ سَبَبَ الهَلاكِ:
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ) (لأعراف: من الآية162)
فالرِّجْزُ جَاءَ بواسِطَةِ الباءِ، والباءُ دخَلَتْ عَلَى التركيبِ (ما كانوا يظلمون)، وظُلْمُهُم هو وَحْدُهُ الذي جَاءَ بِرِجْزِ السَّمَاءِ.
ولا يمكنُنَا التوسُّعُ هنا فَقَدْ أوضَحْنَا الكثيرَ من تِلْكَ القواعِدِ والسُّنَنِ في مؤلفاتٍ أخرى تمكنُ مراجعَتُهَا.
ومن جِهَةٍ أخرى فإنَّ التأثيرَ الإيجابيَّ في الطبيعَةِ هو من فِِعْلِ الإنسانِ أيضاً. فَقَدْ جَرَى عَلَى يَدِ هؤلاءِ المُبَلَّغينَ بِهذِهِ القوانينِ من الرُّسُلِ تََغْييرٌ وتَحَكُُّمٌّ في الطبيعَةَ معلومَينِ، وَهْوَ ما سُمِّيَ بمعجزاتِ الأنبياءِ. ولَفْظُ (مُعْجِزَةٍ) هو من وَضْعِ رِجَالِ الدِّينِ ولا وجودَ لَهُ في النصِّ التوراتيِّ ولا في الإنجيلِ ولا في القرآنِ، فَهْوَ اصطلاحُهُم، ويُفْهَمُ مِنْهُ عَجْزُ الخَلْقِ عَن أنْ يأتوا بما جَاءَتْ بِهِ الرُّسُل وإنَّهُم جاءوا بتلكَ الآياتِ للدلالةِ عَلَى صِدْقِهِم.
بَيْدَ إنَّ الاقتصارَ عَلَى هذا التفسيرِ للمعجزاتِ فيه جِنايةٌ عَلَى الطَّرْحِ الدِّينيِّ. فالغايَةُ الأَهَمُّ لَيْسَتْ جَعْلَ النَّاس يصدقونَهُم، بَلْ يصدِّقونَهُم من خلالِ قدرتِهِم عَلَى التَّحَكُّمِ بالموجوداتِ وإذْعَانِ الطبيعَةِ لَهُم.
فالدِّينُ يَحْمِلُ هذِهِ الرسالَةَ المَوجَّهَةَ للخَلْقِ، ومفادُهَا إنَّ اختيارَهُم الذاتيَّ يَجْعَلُهُم عُرْضَةً للهَلاكِ، وإنَّ اختيارَ اللهِ يَجْعَلُهُم يَتَحَكَّمونَ بالموجوداتِ ويُحَرِّكونَهَا كيف شاءوا. وإنَّ الدليلَ عَلَى ذَلِكَ هو ما يمكنُ أن يقومَ بِهِ الرُّسُلُ. وكُلُّ مخلوقٍ غيرَهُم يَقْدِرُ عَلَى أن يَفْعَلَ فِعْلَهُم إذا كانَ ارتباطُهُ باللهِ كارتباطِهِم، ولذَلِكَ قَالَ المسيحُ (ع):
(مَنْ آمَنَ بي يَعْمَلُ هُوَ أيضاً الأعمالَ التي أعْمَلُهَا أنا، بَلْ يَعْمَلُ أعْظَمُ مِنْهَا) ـ يوحنا14/12

وَلَمْ يَكُنْ ارتباطُ الإنسانِ بالقوى الكونيَّةِ عِنْدَ الرُّسُل في النصِّ الدِّينيِّ خاصاً بِهذِهِ القوى، بَلْ رَبَطُوا الظواهِرَ الاجتماعيَّةِ بسلوكِ الإنسانِ واختيارِهِ. فالغَلاءُ وتَقَلُّبُ الأسْعَارِ والزواجِ والطَّلاقِ.. كلُّ هذِهِ وغيرُهَا قَدْ ارْتَبَطَ بالسلوكِ.
وفي المَرْحلةِ التاليةِ رَبَطوا السلوكَ بالنتائِجِ الكلِّيةِ كأنواعِ الزروعِ وجودَةِ الثِّمارِ والإنجابِ وظهورِ العاهاتِ المستديمَةِ والأمراضِ المُزْمِنَةِ.. كُلُّ ذَلِكَ رَبَطَهُ الرُّسُلُ بالسلوكِ عَلَى طريقَةِ: (إذا فَعَلْتُمْ كذا وَقَعَ كذا).
وفي المَرحلَةِ الثالثَةِ: رَبَطوا السلوكَ بالنظامَينِ السياسيِّ والاجتماعيِّ. فالفئاتُ والاختلافُ والحروبُ والفِتَنُ والمَظَالِمُ ونِسْبَةُ تَحْقيقِ العَدْلِ ومُعَدَّلُ الجريمةِ وظهورُ الطُغاةِ بِشَكْلٍ دوريٍّ.. كُلُّ ذَلِكَ رَبَطَهُ الرُّسُلُ وعلى نَفْسِ الطريقةِ: (إذا فَعَلْتُمْ كذا فَسَيَكونُ كذا).
وفي المَرْحَلَةِ العُلْيا قَاموا بِرَبْطِ السلوكِ بالنظامِ الكونيِّ نَفْسِهِ. فَعَدَدُ الخسوفاتِ القمريةِ ومُعدَّلاتُ كسوفِ الشَّمْسِ وكميَّةُ الأمطارِ والكسوفُ الكليُّ للشمسِ وظهورُ الأعاصيرِ وعذوبَةُ المياهِ الجوفيةِ وخصوبَةُ الأرضِ والفيضانُ والنيازِكُ وظهورُ المُذنَّباتِ وشِدَّةُ الحَرِّ والصَقيعِ ونمو مُعَدَّلِ الجراد الفاتِكِ بالمزروعاتِ.. كُلُّ ذَلِكَ رَبَطَهُ الرُّسُلُ بالسلوكِ وعلى نَفْسِ الطريقَةِ: (إذا فَعَلْتُمْ كذا فَتَوَقَّعُوا حِصولَ كذا).
هذِهِ النصوصُ الدينيةُ مُثَبَّتَةٌ بالمئاتِ في الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ وفي أَقْوَالِ الرُّسُلِ. فاخبُرْني مَنْ مِنَ النَّاسِ قَامَ بدراسَةِ تِلْكَ النصوصِ لاكتشافِ قوانينِ العلاقَةِ التي صمَّمَهَا اللهُ مُنْذُ بَدْءِ خَلْقِهِ الإنسانَ بَيْنَ الإنسانِ والطبيعةِ؟.
أَهُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ الذينَ لا يَمْنَحونَ إجازَةً إلاَّ لِمَنْ يَمُرُّ بِفَتْرَةِ غَسيلِ دِمَاغٍ لغويٍّ ونصَّيٍّ لنصوصِهِمْ وقواعدِهِم التي وَضَعُوهَا مَعَ حواشيها وشروحِهَا بحيثُ أنَّ النصَّ الرساليَّ أو المُنَزَّلَ لا يُؤْتَى بِهِ إلاَّ للاستشهادِ عَلَى صِحَّةِ أو خَطَأِ قواعدِهِم والبَحْثِ حولَهَا والجَدَلِ الذي لا ينتهي بشأنِهَا بحيثُ انْعَكَسَ الأَمْرُ تماماً فأَصْبَحَ النصُّ الإلهيُّ لخِدْمَةِ أفكارِهِم، بَيْنَمَا يَعْتَقِدُ العامَّةُ أنَّهُم قائِمونَ عَلَى خِدْمَتِهِ؟.
أَمْ هُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ الكِتَابِ الذين يَعْقِدُونَ الاجتماعاتِ مُنْذُ القرنِ الثاني أو الثالثِ الميلادي لإيضاحِ العِلاقَةِ الغامضَةِ بَيْنَ الأبِ والابنِ والرُّوحِ القُدْسِ لِيَسْتَمِرَّ استقلالُ الكنائسِ بعضِهَا عَن بعضٍ وانفصالِهَا بناءً عَلَى الاحتمالاتِ التي لا تنتهي عَن انبثاقِ الرُّوحِ عَن الابنِ أو الابنِ عَن الرُّوحِ أو الرُّوحِ عَن كليهِمَا أو عَدَمِ الانبثاِق أو الولادَةِ أو الصُّدورِ بحيثُ إذا ابْتَكَرَ أحَدُهُم أيَّ تغييرٍ جديدٍ للعلاقَةِ ظَهَرَتْ كنيسةٌ جديدةٌ؟!.
أَمْ هُمْ الذين اختصُّوا بالحقولِ العِلْمِيَّةِ التجريبيَّةِ وَمَنْ تَابَعَهُم في الاتِّجَاهَاتِ الثقافيَّةِ الذين عَامَلوا النصَّ الدِّينيَّ كَنِصٍّ غيبيٍّ ميتافيزيقيٍّ لا يمكنُ إخضاعُهُ للدراسَةِ والبَحْثِ العلميِّ المُجَرَّدِ مِنْ كلِّ غَرَضٍ ذاتيٍّ؟.
وَحينَمَا يَنْهَارُ هذا الحاجِزُ بَيْنَ الذاتيةِ والموضوعِ.. عِنْدَمَا يَنْكَشِفُ سِرُّ الأشياءِ وتُبْتَلَى سَرائِرُ الخَلْقِ فَلَنْ يكونَ يومُ الحسابِ يوماً يَجْري فيه أيُّ حِسابٍ يُذْكَرُ للاختصاصاتِ!. فالجميعُ سيحضِرونَ عُراة من كُلِّ لَبوسٍ، ويومئذ لَنْ يَنْفَعَ عُلمَاءَ الدِّينِ زَعْمُهُمْ أنَّهُم كانوا يَجْهَلونَ العِلَلَ الطبيعيَّةَ لأَنَّهُمْ لَمْ يكونوا علماءَ في الطبيعةِ، وَلَنْ يَنْفَعَ عُلماءُ الطبيعةِ زَعْمُهُمْ أنَّهُم لَمْ ينتبِهُوا للعلاقَةِ لِبُعْدِهِم عَن النصوصِ الدينيةِ إذ لَمْ يكونوا عُلَمَاءَ دِيْنٍ!!.
وستَكونُ الحِجَّةُ قائِمَةٌ عَلَى الجميعِ لِسَبَبٍ بسيطٍ وواضحٍ. فالنصُّ الدِّينيُّ المكتوبُ هو الوَجْهُ الآخَرُ للنصِّ الماديِّ المَخْلوقِ. فَيُقَالُ لهؤلاءِ: (هذا كتابُ اللهِ) وَيُقَالُ لهؤلاءِ: (هذا كتابُ الله)، هذا كتابُ كَلِمَاتٍ مبيَّناتٍ ومُفَصَّلاتٍ.. وهذا كتابُ مخلوقاتٍ مبيَّناتٍ ومُفَصَّلاتٍ.
لَقَدْ دَأَبَ الآثَاريونَ عَلَى تسميَةِ قصَّةِ الطوفانِ بالأسطورَةِ حتَّى باتَ ذَلِكَ جزءً من أسمِ الحَدَثَ (أسطورةُ الطوفانِ).
لَقَدْ ذَكَرَ هوك في كتابِهِ (أساطيرُ بلادِ ما بَيْنَ النَّهرينِ) أنَّ المعلوماتِ المتعلِّقَةَ بالحَدَثِ ضئيلةٌ جداً، بَلْ وعمومِ أساطيرِ السومريين حَيْثُ قَالَ: (وينبغي أنْ نَتَذَكَّرَ بأنَّ معلوماتِنَا عَن السومريينَ وأساطيرِهِم لَيْسَتْ تامَّةً، وأنَّ كثيراً من الكَلِمَاتِ في اللُّغَةِ السومريَّةِ ذاتُ مَعَانٍ غَيرِ مُتَحَقِّقَةٍ وإضافَةً إلى ذَلِكَ فإنَّ بَعْضَ الألواحِ مكسورةٌ وتَصْعُبُ جداً قراءَتُها)/ص20.
إنَّ لَفْظَ (أسطورة) يُنْبِئُ بوضوحٍ تامٍّ عَن لا واقعيةِ الحَدَثِ المَذكورِ فيها. والسؤالُ هو: (كيفَ يمكنُ الجَمْعُ بَيْنَ لَفْظِ "الأسطورةِ" وَبَيْنَ الاعترافِ بضآلَةِ المعلوماتِ عَن الحَدَثِ؟ فالذي يُسَمِّي حَدَثَاً ما أو أحْدَاثاً أنَّها أساطيرٌ لا بُدَّ أنْ تكونَ لَهُ معلوماتٌ كافيةٌ لإثباتِ لا واقعيتها… أَمْ أنَّ عَدَمَ تَوَفُّرِ المعلوماتِ الكافيةِ بشأنِ حَدَثٍ ما يَعني دوماً عَدَمَ صِحَّةِ الحَدَثِ؟).
من حُسْنِ الحَظِّ أنَّ هذِهِ الطريقَةَ لَمْ يستعمِلْهَا عُلماءُ الفيزياءِ والفَلَكِ والأحياءِ والكيمياءِ وألاَّ لَكاَنْت ضآلةُ المعلوماتِ ستَجَعْلُهُم ينكرونَ وجودَ شيءٍ أسمُهُ الجاذبيةُ أو الفيروسُ أو الجيناتُ أو البوزترونُ، وَلَكَانَتْ قَدْ تَوَقَّفَتْ تِلْكَ العلومُ، بَلْ لماتَتْ في مهدِهَا كَمَا هي مَيِّتَةٌ الآنَ العلومُ الإنسانيَّةُ بِفَضْلِ غَرَائِبِ الباحثينَ.
لكنَّ كلامَهُ مَعَ ذَلِكَ يناقضُهُ (يوسز) وَهْوَ يَقولُ: (إنَّ أسطورةَ هَلاكِ الجِنْسِ البَشَريِّ بالطوفانِ قَدْ وُجِدَتْ بمُختَلفَ الصورِ والأشكالِ في كُلِّ جزءٍ من أجزاءِ العالَمِ) /الأساطير في بلاد ما بين النهرين/ ص 18.
لا تَحْسِبُ أنَّ يوسز يخالفُهُ في كونِهَا أسطورةً، بَلْ سمَّاهَا أسطورةً أيضاً بالرُّغمِ من تَواتِرِ ورودِهَا بِمُخْتَلَفِ الصورِ والأَشْكَالِ، لأَنَّ للعُلَمَاءِ طريقتين في إنكارِ الوقائِعِ تُذْكَرانِ سويةً رَغْمَ تناقِضِهِما: الأولى قِلَّةُ المعلوماتِ والأُخْرى كِثْرَةُ القائلينَ بِهَا.
فكِثْرَةُ القائلينَ بواقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ لا يُبَرْهِنُ عِنْدَهُم عَلَى صِحَّتِهَا، بَلْ عَلَى العَكْسِ يَدِلُّ عَلَى وجودِ رَغْبَةٍ نفسيَّةٍ معيَّنَةٍ في تَصْديقِ قضيِّةٍ وهميَّةٍ لَدَى عمومِ النَّاسِ، وبالتالي تَظْهَرُ بتلكَ الأشكالِ والصُّورِ المُخْتَلِفَةِ.
فكيفَ إذنْ تَقومُ الأدلَّةُ عَلَى تَصديق ِواقِعَةٍ مُعيَّنَةٍ إذا كانَتْ الأخبارُ عَنْهَا مِنْ مؤرِّخٍ واحِدٍ لا تَفِي بالمطلوبِ وإجماعُ أَهْلِ الأرضِ عَلَى ذِكْرِ الواقِعَةِ هو الآخَرُ لا يَفِي بالمطلوب؟.
هَلْ المطلوبُ هو الأدلَّةُ الماديَّةُ العِلْمِيَّةُ مثلاً القَائِمَةُ والباقِيَةُ كآثَارٍ في الأرضِ؟.
لِنَقُلْ: نعم..
لكنَّ المؤرِّخَ القديمَ غيرُ مُطَالَبٍ علمياً ومنطقياً بغيرِ ذِكْرِ الخَبَرِ. فالأدلَّةُ الماديَّةُ الشاخِصَةُ هي من واجباتِ الباحِثِ المُعاصِرِ فَقَطْ. فالمؤرِّخُ القديمُ قَامَ بواجبِهِ تِجَاهِ الخَليقَةِ وَنَقَلَ الخَبَرَ وآثارَهُ وأَثْبَتَهُ في سِجِلاَّتِهِ وفَصَلَ بِهِ بَيْنَ مرحلتَينِ وتحدَّثَ عَنْهُ في قِصَصِهِ وملاحِمِهِ وأدَبِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ أيُّ تَقْصيرٍ في ذَلِكَ.
إذن.. فالأدلَّةُ الأُخرى التي تسانِدُ الواقِعَةَ أو تَنْفِيهَا كَقَرَائِنٍ للإثباتِ أو النفيِّ هي من واجباتِ الباحِثِ المُعاصِرِ.
فلماذا أطْلَقَ الباحِثُ المُعاصِرُ عليها اسم الأساطير قَبْلَ إتْمَامِ البَحْثِ وقَبْلَ اكتِمَالِ الأدلَّةِ؟ وَهَلْ يَدِلُّ ذَلِكَ عَلَى وفاءِهِ العلميِّ للمؤرِّخِ القديمِ؟.
بَلْ لماذا أسْتَهْجَنَ الباحِثُ المُعاصِرُ ما قَام بِهِ السير (وولي) عِنْدَمَا أَجْرَى حفرياتِهِ في بلادِ ما بَيْنَ النهرينِ في سبعِ مناطقٍ وَجَدَ فيها طَبَقَةً من الغرينِ تُثْبِتُ عَلَى نَحْوٍ ما حصولَ الطوفان وَرَفَض متابَعَةَ أبحاثِهِ الآخرون بعد إنْ عاجَلَتهُ المُنيَّةُ وبِسرعَةٍ بَعْدَ هذِهِ الحفرياتِ زاعمينَ أنَّ نتائِجَ السير (وولي) لا يَنْبَغِي الاهتمامَ بِهَا وَكَمَا سيأتيكَ قريباً؟.
هَلْ يَخْضَعُ الباحِثُ المعاصِرُ إلى مواقِفٍ مُسْبَقَةٍ تِجَاهَ قضيَّةِ الطوفانِ تَجْعَلُهُ يُطْلِقُ عليها لَفْظَ الأسطورة ويُصِرُّ عَلَى موقِفِهِ في عَدَمِ حاجَتِهِ للأدلَّةِ سواء تِلْكَ التي تُثْبِتُ أنَّهَا أسطورةٌ بالفِعْلِ أو تِلْكَ التي تُثْبِتُ وقوعَهَا؟!.
أميلُ إلى الاعتقادِ بأنَّ الجوابَ عَلَى هذا السؤالِ هو (نَعَمْ). وبالتالي فإنَّ الباحِثَ المُعاصِرَ يحْتَاجُ إلى تحليلٍ نفسيٍّ أَكْثَر من حَاجِةِ الأُمَمِ السالفَةِ التي ذَكَرَت الواقعَةَ.
فَحِينَمَا اكتُشِفَتْ رُموزُ الملحَمَةِ لأوَّلِ مَرَّةٍ وعُثِرَ فيها عَلَى قصَّةِ الطوفانِ أَحْدَثَتْ محاضرةُ الأستاذِ (جورج سمث) في اجتماعِ جمعيةِ آثارِ الكتابِ المقدَّسِ في سنة 1872.. أَحْدَثَتْ ضِجَّةً يمكنُ القولُ أنَّهَا انتَهَتْ بتأجيجِ الصراعِ بَيْنَ المؤسَّسَةِ الثقافيَّةِ العِلْمِيَّةِ والمؤسَّسَةِ الدينيَّةِ.
فالمؤسَّسَةُ الثقافيَّةُ لا تَعْتَبِرُ ورودَ القصَّةِ في الكُتُبِ المقدَّسَةِ قرينةً دالَّةً عَلَى صحَّتِهَا، بَلْ فَسَّرَتْهُ عَلَى العَكْسِ من ذَلِكَ، وهذا واضِحٌ. فإنَّ المؤسَّسَةَ الثقافيَّةَ تَمْتَلِك موقفاً سلبياً مُسبقاً من النصِّ الدِّينيِّ برُمَّتِهِ. وهنا تَكْمِنُ العُقْدَةُ النفسيَّةُ للباحثِ المُعاصِرِ، وهذا وحْدُهُ الذي يُفَسِّرُ لنا سَبَبَ تَجَاهُلِ الأدلَّةِ الكثيرةِ جداً عَن الواقِعَةِ، بحيثُ بَاتَ إطلاقُ لَفْظَ الأسطورةِ عليها قَبْلَ ذِكْرِ تِلْكَ الموارِدِ أشْبَهُ بالضرورَةِ التي لا بُدَّ منها لتقديمِ المعلوماتِ عَنْهَا للقارئِ الذي يُخْشَى عليه من تَصْديقِ تِلْكَ الأدلَّةِ.
يقول طه باقر:
(لَقَدْ كانَ حَدَثَاً بَلَغَ من عِظَمِ الأَثَرِ والجَسَامَةِ عِنْدَ سُكَّانِ وادي الرافدين بحيثُ أنَّ جامعي إثْبَاتِ السُلالاتِ ومؤلِّفي القِصَصِ والأساطيرِ جَعَلَوهُ حَدَّاً فاصِلاً بَيْنَ عَهْدَينِ متميِّزينِ في تاريخِ البِلادِ: عَهْدُ ما قَبْلَ الطوفان وعَهْدُ ما بَعْدَ الطوفانِ، وَهْوَ يُضَاهي ما تَواضَع عليه المؤرِّخونَ المُحْدِثونَ من تَقْسيمِ التاريخِ البشريِّ العامِّ إلى العصورِ القديمَةِ والعصورِ الحديثَةِ) ـ المقدمة 299/ط
إذن.. فالنصُّ الدِّينيُّ الذي أكَّدَ الواقِعَةَ يبدو وكأنَّهُ هو السَبَبُ النَفْسيُّ الوحيدُ الذي يَقِفُ حائِلاً دونَ تَصْدِيقِهَا، إذ أنَّ تَصْدِيقَهَا يعني تَصْدِيقَ ما جَاءَتْ بِهِ الكُتُبُ المُقَدَّسُةُ، ولذَلِكَ فَسَّروا ورودَهَا في الكِتَابِ المُقَدَّسِ بِنَقْلِ العبرانيينَ لها عَنْ أرض وادي الرافدين.
بَيْدَ إنَّ ذَلِكَ لا يُفَسِّرُ لنا ورودَهَا في القرآنِ الكريمِ إلاَّ بِتِلْكَ الدَّعْوَى القديمَةِ وهي أخْذُهَا عَنْ أهْلِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ.
لكنَّنَا نَتَسَاءَلُ: (ما هي المبرِّرَاتُ العِلْمِيَّةُ لتكذيبِ الكُتُبِ المنَزَّلَةِ؟)
الواقِعُ أنَّهُ لَيْسَ هناكَ من شيءٍ يَدْعُونَا لتَصْديقِ الباحثينَ وتكذيبِ النصِّ المُقَدَّسِ، ذَلِكَ لأَنَّ الباحثين لَمْ يَخْبِرونَا مُطْلَقَاً بشيءٍ جديدٍ. فَكُلُّ ما أَخْبَروَنا بِهِ مُطابِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ مَجْمَعُ مَكَّةَ بقيادَةِ أبي سفيان وعتبة وأمية بن خلف وأضرابِهِم حينَمَا قالوا للنبيِّ (ص) وَهْوَ يُخْبِرُهُم بوقائعٍ تاريخيَّةٍ:
(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان:5)

صورة رمزية إفتراضية للعضو علي العذاري
علي العذاري
انتقل لرحمة الله
°°°
افتراضي
فهذا القولُ قديمٌ، وهذا التفسيرُ للواقِعَةِ من أنَّهَا أسطورَةٌ هو قضيَّةٌ قديمَةٌ تساوى فيها للأَسَفِ مَنْطِقُ الباحِثِ المُعاصِرِ مَعَ مَنْطِقِ هؤلاءِ الجَهَلَةِ الذين يُمَثِّلُ تفسيرُهُم رأياً اعتباطياً وجواباً كيدياً مُنْتَزَعَاً من أهواءِهِم بغيرِ عِلْمٍ ولا أدِلَّةٍ ماديَّةٍ. فنَحْنُ لا نَسْمَعُ من الباحِثِ المُعاصِرِ غَيْرَ جُمَلٍ مُعَمَّمَةٍ هي تَرْديدٌ لِمَا قَالَهُ أميَّةُ بن خلف من قَبْلُ!!.
فَزَعْمُهُم القائِلُ: (أنَّ العبرانيين قَدْ استَعَاروا هذِهِ الأسطورَةَ التي كانَتْ تُشَكِّلُ تُرَاثَاً ثَابِتَاً لدى سُكَّانِ وادي الرافدين) عَلَى حَدِّ ما زَعَمَهُ (جورج رو) في كتابِهِ (العراق القديم) ـ ص/161 يناقِضُ قولَهُم السابِقَ في وجودِ هذِهِ الواقِعَةِ بمُخْتَلَفِ الصُّورِ والأَشْكَالِ في كُلِ بِقَاعِ الأرْضِ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ نَقْلِ بعضِهِم عَنْ بَعْضٍ. فالتركيزُ عَلَى نَقْلِ العبرانيينَ وحدَهُم دونَ سِواهُم يُظْهِرُ مَكْمَنَ العُقْدَةِ النفسيَّةِ للباحثينَ من النصِّ الدِّينيِّ خصوصاً.
وإذا كانَ (جورج رو) قَدْ تَنَاقَضَ هنا بِهذِهِ الصورةِ، فإنَّ تناقِضَهُ بِصَدَدِ الأدلَّةِ الماديَّةِ أكْثَرُ إمعاناً في ظهورِ عقدتِهِ النفسيَّةِ من الكِتابِ المُقَدَّسِ.
فَقَدْ ذَكَرَ أنَّ الكَشْفَ عَن طَبَقَاتِ الغرين الأحمر بِثخْنٍ بزهاءِ أَحَدَ عَشَرَ قَدَمَاً هو اكتشافُ (السير وولي) وحْدِهِ، وقَالَ:
(لَمْ يَأْخُذْ أَحَدٌ من العُلَمَاءِ بِجِدٍّ كبيرٍ هذا الاكتِشَافَ سوى وولي نَفْسِهِ) ـ ص162
وعَزَا سَبَبَ ذَلِكَ إلى أنَّ أحَدَاً ما لَمْ يُتَابِعْ أبْحَاثَهُ فَهْوَ (الوحيدُ الذي فَعَلَ ذَلِكَ) ـ ص162.
ولكِنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ صَفْحَةٍ واحِدَةٍ قائلاً:
(يمكنُ الاستنتاجُ بأنَّ الحفرياتِ لَمْ تُقَدِّمْ الدليلَ القاطِعَ عَلَى حصولِ الطوفانِ)
تُرَى مِنْ أينَ يأتي الدليلُ إذا كانَ البَحْثُ قَدْ تَوَقَّفَ عِنْدَ أَوَّلِ دليلٍ مُكْتَشَفٍ وتمَّ إهمالُهُ؟.
ولكِنْ لِنَفْتَرِضَ أنَّهُ يَقُولُ الحَقَّ.. فإذا كانَتْ الحفرياتُ لَمْ تُقَدِّمْ دليلاً قاطِعَاً عَلَى حصولِهِ فأنَّهَا بالتأكيدِ لَمْ تُقَدِّمْ دليلاً قاطِعَاً عَلَى عَدَمِ حصولِهِ!.
والمفروضُ في العِلْمِ أنْ تَبْقَى الاحتمالاتُ مفتوحةً للبَحْثِ، ووصْفُ الواقعَةِ بالأسطورَةِ وتكذيبِهَا قَبْلَ ظهورِ الأدلَّةِ النافيةِ هو عَمَلٌ لا يَتَّصِفُ بالصِفَةِ العِلْمِيَّة.
لكنَّ (رو) أَعْجَبَهُ أنْ يمضيَ قُدُمَا.ً فَهْوَ يُفَضِّلُ أنْ يُعطي لنا تَفسيراً خَالياً من أيِّ دليلٍ لأجلِ أنْ نختارَهُ بدلاً عَن التفسيرِ الذي يَحْمِلُ مبرَّراتِهُ. وهذا العَمَلُ لا يقومُ بِهِ إلاَّ مَنْ لا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إجْراءِ البَحْثِ بموضوعيَّةٍ ونزاهَةٍ. فَقَدْ زَعَمَ أنَّ:
(الطوفانَ مَحْضُ أسطورةٍ اخْتَرَعَتْهَا الشعوبُ البدائيَّةُ كي تمحو شريحَةً مجهولةً من الماضي) ـ ص163.
لكنَّ عبارَةَ (رو) هذِهِ حَسَبُ اعتقادي هي أكْثَرُ صعوبةً في قبولِهَا من الطوفانِ نَفْسِهِ!. وتحتاجُ إلى تفسيرٍ وأدلَّةٍ أزْيَدَ مما يحتاجُهُ الطوفانُ!!.
فلماذا اخْتَرَعَتْهَا جميعُ الشعوبِ؟ وكيفَ حَدَثَ هذا الاتِّفاقُ عَلَى هذا الاختراعِ العجيبِ؟ ولماذا أَرَادَت الشعوبُ مَحْوَ هذِهِ الشريحَةِ من الماضي؟ وما هي الكارِثَةُ الأخلاقيَّةُ أو العِلْمِيَّةُ التي اقْتَرَفَتْهَا الشعوبُ في الماضي السحيقِ بحيثُ أنَّهَا احتاجتْ إلى إسدالِ الستارِ عَلَى تاريخِهَا برُمَّتِهِ حَياءً من (جورج رو)؟‍..
وَذَلِكَ عدا السؤال الصعب: كيفَ أصبَحَتْ تِلْكَ الشريحةُ مجهولةً فِعْلاً إذا كانَ الطوفانُ أسطورةً؟
فإنَّنَا لا نَمْتَلِكُ بالفِعْلِ أيَّةَ وثائقٍ مُسَجَّلَةٍ إلاَّ تِلْكَ التي ذَكَرَ كِتَّابُهَا أنَّهُم كَتَبوهَا بَعْدَ الطوفانِ.
وبالطبعِ فإنَّ هذا هو أَهَمُّ الأدلَّةِ الماديةِ التي لَمْ يَنْتَبِهْ وَلَمْ يُنَبِّهْ عليها أحَدٌ من الباحثِينَ.
ولكن لو لَمْ يوجدْ أيُّ أثَرٍ مُطْلَقَاً يَدِلُّ عَلَى الطوفانِ وأيُّ سَبَبٍ آخَرٍ يَدْعونَا للاعتقادِ بوقوعِهِ سوى إخبارِ النبي (ص) بِهِ، فَهَلْ نُكَذِّبُهُ وفْقَ مَنْطِقِ العِلْمِ؟
كلاَّ.. بَلْ نُصَدِّقَهُ.. والسَّبَبُ واضِحٌ وبسيطٌ ولا يَحتاجُ إلى معجزاتٍ. فإنَّ عتبةَ بن ربيعة وأمية بن خلف قالوا إنَّهَا أسطورةٌ، والنبيُّ (ص) قَالَ إنَّهَا واقِعَةٌ حقيقيَّةٌ. ولذَلِكَ فَنَحْنُ نُصَدِّقُهُ ونُكَذِّبُهُم لأَنَّهُمْ شَهِدوا لَهُ بالصِّدْقِ وشَهِدَ عليهم بالكَذِبِ والتكذيبِ.
لَقَدْ أطلقوا عليه صِفَةَ الصدقِ حتَّى بَعْدَ إعلانِهِ عَن دينِهِ الجديدِ، بَلْ وخافوا من صِدْقِهِ. أمَّا هو (ص) فأطْلَقَ عليهم صِفَةَ الكَذِبِ وسمَّاهم الكاذبينَ والمُكَذّبينَ، وَقَدْ أثْبَتَ كِذْبَهُم في استقراءٍ علميٍّ للحوادِثِ المُتَكَرِّرَةِ مِثْلَمَا أَثْبَتَ صِدْقَهُ بهذا الاستقراءِ المُسْتَمِرِّ للحوادِثِ.
لَقَدْ أقَرَّوا بصِدْقِهِ إلى درجَةِ أنَّ أحدَهُم هَدَّدَهُ قائلاً: (لأقْتُلَنَّكَ يا مُحَمَّدُ!)، فأجَابَهُ قَائِلاً: (بَلْ أنا الذي سَأَقْتُلُكَ إنْ شاءَ اللهُ!)، وَحينَمَا حَانَتْ فُرصَةٌ لانفرادِهِ في المعركَةِ ـ معركة أحد فيما بعد ـ إذ أنْسَحَبَ إلى سَفْحِ الجَّبَلِ جريحاً عِنْدَ هزيمَةِ المُسلمينَ أَرادَ الرَّجُلُ تنفيذَ وعدِهِ فَلاحَقَ محمداً إلى سَفْحِ الجَّبَلِ.
وَحينَمَا رآه النبيُّ مُقْدِمَاً عليه أستلَّ عليه حُرْبَةً من أَقْرَبِ رَجُلٍ انْسَحَبَ مَعَهُ وَكَرَّ راجعاً إليه فالتقيا، وقَبْلَ أنْ يُحَاولَ الوصولَ إلى النبيِّ أستثنى وتَرَاجَعَ مُولِّيَاً في اللحظَةِ التي هوى فيها النبيُّ بالحُرْبَةِ عليه فَلَمْ يُصِبْهُ إلاَّ بِخَدَشٍ يسيرٍ.
بَيْدَ أنَّ الرَّجُلَ أصبَحَ مَسْخَرَةً لأبي سفيانٍ وقومِهِ حينَمَا تَحَرَّكَ الجيشُ بَعْدَ ساعات راجِعَاً إلى ديارِهِم في مكَّةَ.
فَقَدْ كانَ الرَّجُلُ يَدَّعي أنَّهُ مقتولٌ لا مَحالةَ ويُقْسِمُ بالأيمانِ المغلظَةِ أنَّهُ مَيِّتٌ عَن قريبٍ!، وَكَانَ أبو سفيان والقومُ يتضاحكون ويسخرون من عَقْلِهِ قائلين: (جُنَّ الرَّجُلُ والله.. يا هذا واللهِ ما أصَابَكَ مُحَمَّدٌ في بَدَنِكَ ولكِنْ في عَقْلِكَ فَهَلْ سَمِعْتَ أنَّ رجلاً ماتَ من خَدَشٍ؟)، فقَالَ الرَّجُلُ: (لَقَدْ قَالَ لي في مكَّةَ أنا الذي أقْتُلُكَ واللهِ ما أَرَاهُ إلاَّ قَاتلي فإنَّهُ إذا قَالَ صَدَقَ)!!. وفي نصٍّ آخَرٍ أنَّهُ قَالَ: (لو قَالَ لي أَقْتُلُكَ ثُمَّ بَصَقَ عليَّ لقَتَلَني فإنَّهُ ما قَالَ شيئاً إلاَّ صَدَقَ فيه)، ثُمَّ مات الرَّجُلُ عَلَى بُعْدِ فرسخين.
سيقولُ البَعْضُ إنَّ الرَّجُلَ ماتَ موتاً نفسياً وَلَمْ يَمُتْ من الخَدَشِ لاعتقادِهِ أنَّ مُحَمَّدَاً ما قَالَ شيئاً إلاَّ صَدَقَ.
وأَنَا أَشْهَدُ أيضاً أنَّهُ لَمْ يَمُتْ من الخَدَشِ وأَنَّهُ ماتَ موتاً نفسياً مِنْ صِدْقِ مُحَمَّدٍ (ص)، فأتوني بِرَجُلٍ يَقْتُلُ النَّاسَ بصِدْقِهِ لا بالسيوفِ ولا بالقَنَابُلِ.!
فأيُّ صِدْقٍ إذن هذا الذي يَقْتِلُ الخَلْقَ بِهِ؟ وأنَّى لي تكذيب الصادِقِ الذي يُقِرُّ خُصْمُهُ بصِدْقِهِ؟.
هذا هو موقِفُ الذين أنكروا الواقعَةَ، فماذا كانَتْ مواقِفُ الآخرين؟
لَقَدْ وَجَدَ بَعْض الباحثينَ أنَّ تكذيبَ قصَّةِ الطوفانِ لَيْسَ من الحِكْمَةِ بَعْدَ اكتشافِ (وولي) لطَبَقَةِ الغرينِ السميكَةِ جداً. فادَّعَى بَعْضُهُم أنَّ الطوفانَ قَدْ وَقَعَ فِعْلاً ولكنْ ما هو إلاَّ فَيَضَانٌ أكبَرُ وأشَدُّ من الفيضاناتِ المعتادَةِ.
لكنَّ هذا التفسيرَ مخالِفٌ للنصوصِ التي أرَادوا تصديقَهَا عَلَى نَحْوٍ ما، وكذلِكَ هو مخالِفٌ للأدلَّةِ التي لَمْ يرغبوا في إهمالِهَا. فالنصوصُ لَمْ تَقُلْ أنَّهُ فَيَضَانٌ مُدَمِرٌ لا عَهْدَ لهم بِهِ بَلْ قالَتْ هو طوفانٌ، وَهْوَ اسمٌ مُختَلِفٌ لَمْ يُطْلقْ إلاَّ عَلَى تِلْكَ الواقِعَةِ، ويعنونَ بِهِ ذَلِكَ الحادِثَ الذي بَلَغَ بِهِ ارتفاعُ الماءِ قُمَمَ بَعْضِ جِبَالِ العِراقَ.
واعْتَقَدَ باقِرُ أنَّ تفسيرَ الطوفانِ لَمْ يَعُدْ عَسَيراً حينَمَا قَالَ:
(أمَّا سَبَبُ الطوفانِ فلا يَعْسِرُ عَلَى المرءِ إدراكُهُ في أرضٍ مِثْلِ السَّهْلِ الرسوبيِّ من العراقَ الذي كانَ مُعَرَّضَاً في جميعِ عُهودِ التاريخِ إلى خَطَرِ الفيضاناتِ) ـ الملحمة ص47.
صحيحٌ أنَّ طه باقر أَقَرَّ بحدوثِ طوفانِ وأنَّهُ كانَ حقيقياً وأنَّهُ كانَ طوفاناً واحداً عظيمَ الأَثَرِ في ذاكرَةِ الأجيالِ كَمَا في قَالَ المقدِّمَةِ من تاريخِ الحضاراتِ ص300، ولكنَّ تفسيرَهُ بالفيضانِ لَيْسَ كَمَا قَالَ (لا يَعْسِرُ عَلَى المرءِ)، بَلْ يَعْسِرُ جداًٍ ِحينَمَا نُريدُ أن نأخُذَ بالمُسَلَّمَاتِ الثابتَةِ عِنْدَ الباحثينَ ومنهم (باقِرُ) نَفْسُهُ والتي يَظْهَرُ منها النَفيُ القاطِعُ لإمكانيةِ حدوثِ فَيَضَانٍ من هذا النوعِ، بسببٍ من الثباتِ النسبيِّ للمناخِ بكلِّ تفاصيلِهِ.
ذَلِكَ أنَّهُم أكَّدوا وبشَكْلٍ مسُتَمِّرٍ ومُكَرَّرٍ في المؤلَّفِ الواحِدِ أنَّ مناخَ العراقَ لَمْ يتغيَّرْ بصورةٍ جذريَّةٍ مُنْذُ فترةٍ لا تَقِلُّ في كُلِّ الأحوالِ عَنْ ثمانيةِ آلافِ سنةً. وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُم أشبَهَ بالبديهيةِ التي أكَّدَتْهَا الأبحاثُ الطبوغرافيَّةُ والجيولوجيَّةُ دوماً حتَّى اعتبروا مناخَ العراقَ الحاليَّ، بَلْ تضاريسَهُ وكائناتهُ الحيَّةَ صالحَةً جداً لدراسةِ العراقَ القديمِ.
قَالَ (جورج رو) وَهْوَ في بدايةِ وَصْفِ طبيعَةِ العِراقَ:
(إنَّ الوَصْفَ التاليَ سيتركَّزُ عَلَى عِراقَ اليومِ حَيْثُ يمكنُنَا طبعاً استخدامُهُ في وَصْفَ العراقَ القديمِ).
وعزا سَبَبُ هذِهِ الإمكانيَّةِ إلى ما نصِّهِ:
(في الوقْتِ الذي نلاحِظُ فيه أنَّ الأنهارَ في أقْسَامٍ من البلادِ لَمْ تَعُدْ تسيرُ في نَفْسِ الاتِّجاهِ القديمِ ممَّا أدَّى إلى تَحَوّلِ مناطقٍ تتميَّزُ بالخصوبةِ إلى بوارٍ، والعكْسُ صحيحٌ، إلاَّ أننا نلاحِظُ أنَّ الهيئةَ العامَّةَ للجبالِ والسهولِ والوديانِ بَقيَتْ كَمَا هي دونَ أنْ يَطْرَأَ عليها تَغَيُّرٌ واضِحٌ ولو قارَنَّا النباتات والحيوانات المعاصرةَ والقديمةَ إضافةً إلى الشواهِدِ الجيولوجيَّةِ والأرصاديةِ لَوَجَدْنَا تقلُّباتِ المناخِ عِبْرَ الستَّةِ أو الثمانيةِ آلاف سنةً الماضيةِ كانَتْ طفيفةً بحيثُ يمكنُ تجاهِلُهَا عَمَلِيَّاً) ـ
العراق القديم. ص20.
وإذا كانَ الأمْرُ كذلكَ فما أَشَدُّ التناقض إذن بَيْنَ فرضيَّةِ حدوثِ فَيَضَان مُرْعِبٍ كهذا وَبَيْنَ الثَبَاتِ النسبيِّ للجِبَالِ والمناخِ والكائناتِ.
وبالطبعِ.. يحاول الباحثون إيجادَ مَخْرِجٍ لحَلٍّ وسَطٍ يُؤَمِّنُ الاعترافَ بوقوعِ الحادثَةِ مَعَ عَدَمِ الاعترافِ بصدْقِ الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ.. وهيهات يَتِمُّ لَهُم ذلك!!.
فهذا هو المُحَالُ بعينِهِ لأَنَّ كتابَ اللهِ في خَلْقِهِ وفي كلامِهِ إنَّمَا هو كتابٌ واحِدٌ.
ولذَلِكَ كانَتْ فرضيَّةُ الفَيَضَانِ الكبيرِ متناقضةً مَعَ مُسلَّمَاتِ أخرى أُثْبِتَتْ كبديهياتٍ تاريخيةٍ مِنْها شِحَّةُ مناسيبِ الأمطارِ والسيطرَةُ التي سمَّاهَا بالمُدهشَةِ للعراقيينَ عَلَى الفَيَضَانِ، ومنها ثُبوتُ مواعيدِ الفَيَضَانِ ومنها فترَةُ الجَّفَافِ.
وفي كلِّ واحدةٍ من هذِهِ المُسَلَّمَاتِ تَنَاقِضٌ واضِحٌ مَعَ افتراضٍ ما لتفسيرِ الطوفانِ.
فَقَدْ ذَهَبَ آخرونَ إلى أنَّ الطوفانَ المذكورَ هو خليطٌ من الأمطارِ والفَيَضَانِ.
ومن الواضِحِ أنَّهُم غَصَبوا أنْفُسَهُم عَلَى هذا التفسيرِ الذي يَذْكِرُ الأمطارَ لأنَّهُ سيكونُ تَصْديقَاً لجزءٍ من مَصْدَرِ مياهِ الواقِعَةِ في النصِّ القرآنيِّ، وهي المياهُ المؤلَّفَةُ من شطرينِ: مياهُ الأرْضِ الجوفيَّةِ والأمطارُ الغزيرَةُ، حيثُ يقولُ النصُّ القرآنيُّ:
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) (القمر:11ـ13)
لكنَّ هطولَ الأمطارِ بِهذِهِ الغزارَةِ هو شيءٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ وفقَ المعلوماتِ العامَّة عن مناخِ العراقَ الذي لَمْ يَتَغَيَّرْ مُنْذُ آلافِ السِّنينَ. فَقَدْ ذَكَرَ (جورج رو) شِحَّةَ الأمطارِ في العِراقَ مُنْذُ أَقْدَمِ العصورِ.
قَالَ:
(يَتَّسِمُ مناخُ العِراقَ بكونِهِ شُبْهَ استوائيٍّ تَصِلُ درجاتُ الحرارةِ فيه إلى (120 فهرنهايت ـ 50مْ) صيفاً، ويَقِلُّ مُعَدَّلُ سقوطِ المَطَرِ فيه عَنِ العَشْرِ بوصاتٍ في الشِّتَاءِ، لذَلِكَ تَعْتَمِدُ الزراعَةُ اعتماداً كُلِّياً عَلَى الري خاصَّةً في الوَسَطِ والجنوب) العراق القديم ـ ص26.
فَمِنْ أينَ تأتي الأمْطَارُ الغزيرَةُ مَعَ شِحَّةِ الأمْطارِ كَقَانونٍ إذا كانَ المناخُ لا يَتَغَيَّرُ خلالَ ثمانيةِ آلافِ سَنَة؟.
أمَّا الفَيَضَانُ فَلَمْ يَكُنْ أمراً غريباً عَلَى العراقيِّ ليكونَ بِهذِهِ الضخامةِ التي صوَّرَتْهَا النصوصُ القديمةُ!، بَلْ عَلاوَةً عَلَى ذَلِكَ كانَ العراقيُّ يُعِدُّهُ مصدرَ خيرٍ، إذ يَجْلِبُ الطُمَى والخَصْبَ للأرْضِ، واعتَمَدَ عَلَى نَفْسِهِ في مواجهَتِهِ والانتفاعِ مِنْهُ في آنٍ واحدٍ… وَكَانَ ثباتُهُ الزمنيُّ عامِلاً مُهِمَّاً لكي يتهيَّأَ لَهُ كُلَّ عامٍ.
قَالَ:
(تَنْحَصِرُ فَتْرَةُ فَيَضَانِ النهرينِ مُجتمعَيْنِ في وقتٍ يَقَعُ بَيْنَ شَهْري نيسانَ وحزيرانَ. ومنَ المُدْهِشِ أنْ تَجِدَ سُكَّانَ وادي الرافدين القُدَمَاءَ قَدْ استطاعوا إخضاعَ أنهارِهِم لسيطرةٍ مستديمةٍ، خصوصاً إذا عَرَفْنَا أنَّ الفُراتَ ظَلًَّ مُحْتَفِظَاً بِنَفْسِ مَسَارِهِ تقريباً ثلاثةَ آلافِ سَنَةً متواصِلَةً ـ أيْ في ذَلِكَ العَهْدِ ـ مارَّاً بسبارَ وبابِلَ وشروباكَ وأروك ولارسا وأُوْرَ) العراق القديم ص25.
لَقَدْ رَأَيْنَا فيما سبقَ أنَّ طه باقر فَسَّرَهُ بالفَيَضَانِ، ولكنَّهُ عَادَ في موضِعٍ آخَرٍ فَفَسَّرَ الطوفانَ بالأمطارِ الغزيرةِ. واعتبَرَ هذا التفسيرَ معقولاً خاصَّةً:
(مَعَ حدوثِ عَصْرٍ مُمْطِرٍ في الشرْقِ الأدنى في عصورِ ما قَبْلِ التأريخِ) ـ ص301/ المقدِّمَة.
والظاهرُ أنَّهُ نَسِيَ أنَّهُ وَصَفَ هذِهِ العصورَ نَفْسَهَا بالجَّفافِ في نَفْسِ الكتابِ ص15، حَيْثُ شَرَحَ مُشْكِلَةَ الاستيطانِ فَقَالَ:
(أمَّا بالنِّسبَةِ للنتائِجِ الحضاريَّةِ فإنَّ حلولَ فَتْرَةِ الجَّفافِ في الشرقِ الأدنى جَعَلَتْ من المُتَعَذِّرِ اعتمادَ الإنسانِ في قوَّتِهِ عَلَى صيدِ الحيوانِ كَمَا كانَ سائِداً في العصرِ الحجريِّ القديمِ فاهْتَدَى في بُقْعَةٍ ما من الشرقِ إلى إنتاجِ الزراعةِ وتدجينِ الحيوانِ خاصَّةً في شمالِ العراقِ في العصرِ الحجريِّ الحديثِ) ـ ص15.
وذَكَرَ وَصْفَاً مشَابِهَاً لِنَفْسِ الفترةِ في موضِعٍ أسْبَق ـ ص14حَيْثُ قَالَ:
(كانَ يَحْدِثُ أبانَ العصورِ الجليديةِ الأوربيِة فترةَ أمطارٍ غزيرةٍ، ويقابِلُ هذِهِ الفتراتِ في أنحاءِ الشرقِ الأدنى فتراتٌ يسودُهَا الجَّفافُ ونحنُ الآنَ في عصْرِ جفافٍ أي الفتْرَةِ الجليديةِ الأخيرةِ التي أَعْقَبَتْ العصرَ الجليديَّ الرابِعَ) ـ ص/14 ـ المقدِّمَة.
ومعلومٌ أنَّ العَصْرَ الجليديَّ الرابِعَ ودورَهُ الأخيرَ المسمى (بلايستوسين) هو العصْرُ الذي تميَّزَ بكثْرَةِ الطمى الذي كوَّنَ الدلتا في السَّهْلِ الرسوبيِّ، وأوائلُهُ متقدَّمَةٌ جداً عَلَى نَفْسِ عمليةِ الاستيطانِ بحيثُ امتدَّتْ فترةُ الجفافِ لتَشْمِلَ كُلَّ الاحتمالاتِ المُمْكنَةِ لحادِثَةِ الطوفانِ حَسَبَ هذا التقسيمِ.
فالطوفانُ المذكورُ حَسَبَ النصوصِ القديمةِ يَقَعُ بحدودِ 4000 سنة ق.م، أيْ في دوْرِ العَبيدِ، وَهْوَ ما ذَكَرَهُ باقِرُ عَن تقديراتِ (وولي) في المنطقَةِ ـ ص300.
وَذَكَرَ آخرونَ منهم د. سامي الأحمد في ترجُمَتِهِ للنصِّ الأكديِّ من الملحمةِ أنَّ الطوفانَ:
(إمَّا أسطورَةٌ مُبْتَدَعَةٌ صِرْفَةٌ أو ذكرياتٌ عَن طوفانٍ حَدَثَ في العهودِ الماضيةِ ما قَبْلَ التاريخيَّةِ نَتَجَ عَن ذوبانِ الثلوجِ في العصرِ الجليديِّ) ـملحمة جلجامش/سامي سعيد الأحمد ـ ص22.
وَذَكَرَ أنَّ الدليلَ عَلَى ذَلِكَ هو ارتفاعُ مناسيبِ مياهِ البحرِ إلى ما يَقْرُبُ من خمسين متراً فوقَ المستوى الحالي. وأشارَ إلى أنَّهُ أخَذَ هذِهِ المعلوماتِ عَن كتابٍ لمؤلِّفٍ اسمه (جورج روكس) المسمَّى (Ancient Iraq) لسنة 1964. وَهْوَ نَفْسُهُ (جورج رو).
فيا للعجب!!
إمَّا أسطورَةٌ مَحْضَةٌ أو صِرْفَةٌ وإمَّا مياهُ الثلوجِ!.
وَقَدْ يَحْسِبُ أنَّهُ هنا أَدْلَى برأيٍّ ذي حُسْبَانٍ!
بالطبعِ فنحنُ مختلفونَ في ذَلِكَ.. فهي أمَّا أسطورَةٌ صِرْفَةٌ أو هي حقيقَةٌ. ولكنَّهَا إنْ كانَتْ حقيقَةً فستكونُ بعيدَةً كلَّ البُعْدِ عَن مياهِ الثلوجِ، لأَنَّ مياهَ الثلوجِ وهي عَلَى الجبالِ التركيَّةِ والعراقيَّةِ لَنْ يكونَ لَهَا معنى سوى الفَيَضَان!.
فَيَحْسِبُ أنَّهُ إذا غَيَّرَ العبارَةَ من (فَيَضَانٍ) إلى (مياهِ ثلوجٍ) فَقَدْ حُلَّتِ المشكلَةُ إلى الأبَدِ مَعَ بقاءِ الاحتمالِ في كونِها أسطورَةً!!.
لكنِّي أتساءَلُ: (لماذا دوماً إمَّا أسطورةٌ أو فَيَضَانٌ، ولا يمكنُ أبَدَاً أنْ يكونَ هو الطوفانُ؟
إنِّي لأَرَى ما لا تَرون.. إنِّي لأَرَى طَيْفَ مُحَمَّدٍ (ص) في لَفْظِ الطوفانِ وشَبْحَ أُميَّةَ بن خلف في لَفْظِ الفَيَضَانِ!.
وألاَّ فما هذا الهوسُ الجنونيُّ بأميَّةَ بن خلف وروكس؟، وما هذا الفِرارُ والذعْرُ من لَفْظِ الطوفانِ؟.
فَتَعَالَ نُفَكِّرُ بنظريةِ (روكس) العجيبَةِ عَن زيادةِ ماءِ البَحْرِ خمسين متراً فوق مستواه العاديِّ من جِراءِ مياهِ الثلوجِ!.
فَمِنْ أينَ تجيءُ الثلوجُ؟، أَلَيْسَتْ تأتي من مياهِ البَحْرِ؟
فَمِنْ أينَ جَاءَت الزيادَةُ؟ أَمِنْ خارِجِ الغلافِ الغازيِّ للكُرةِ الأرضيَّةِ؟ أمْ مِنْ باطِنِ الأرْضِ مِنَ المياهِ الجوفيَّةِ التي يستحيلُ خروجُهَا إلاَّ بانخفاضٍ مفاجئٍ ومُهَوَّلٍ للضغْطِ الجويِّ في المنطقَةِ، فإذا عَادَ الضَّغْطُ عَادَت المياهُ إلى باطنِ الأرْضِ.
إنَّ العِلْمَ يقرَّرُ أنَّ المياهَ في الطبيعةِ هي بنسبَةٍ ثابتَةٍ دوماً!.
إنَّ الماءَ ثابِتُ النسبةِ مِثْلُ الهواءِ ومكوَّناتِهِ. كُلُّ ما في الأمْرِ أنَّهُ يَتَحَوَّلُ من حالةٍ إلى حالَةٍ ومِنْ موضِعٍ إلى موضِعٍ في دورةٍ مُستمرَّةٍ.. وهذا هو من أبجديَّةِ علومِ الطبيعةِ. والتوازنُ الموجودُ في الماءِ لا يَخْتَلِفُ عَن حالَةِ التوازنِ لجميعِ أنواعِ المادَّةِ والطاقَةِ، بَلْ قانونُ النسبةُ الثابتَةُ يَحْكُمُ المادَّةَ كلَّهَا والطاقَةَ كلَّهَا بقانونٍ يدرِسُهُ الطلابُ في المراحلِ الأولى. ذَلِكَ هو (قانونُ حفظِ المادَّةِ والطاقَةِ) الذي مَنْ جَهِلَهُ فكأنَّهُ لا يَعْلَمُ شيئاً عَنْ علومِ الطبيعةِ عَلَى الإطلاقِ.
مِنْ جهةٍ أخرى افْتَرَضَ الأحمَدُ أنْ يكونَ الطوفانُ المذكورُ هو أحَدُ عِدَّةِ فَيَضَانَاتٍ مسجَّلَةٍ تاريخياً.
ولكنَّهُ لَمْ يُسَمِّهَا فَيَضَانَاتٍ، وإنَّمَا طوفانات حَيْثُ وَرَدَتْ في بَعْضِ الوثائقِ، والتي ارتفاعاتُها حَسَبَ التسلسلِ: كيش الأول وكيش الثاني بارتفاع (40) سم، وشروباك بارتفاع (60) سم، وأور بارتفاع (72) سم وجمدة نصر بارتفاع غير مسجل ـ ترجمة الملحمة ـ ص23.
لكنَّ هذِهِ التي ذَكَرَهَا ما هي إلاَّ الفَيَضَانَ الموسميَّ للنهرَينِ والذي لا بُدَّ للمرءِ من أنْ يَجِدَ لَهُ ذِكْرَاً في وَثائِقِ الدولِ، بما في ذَلِكَ العَصر ِالحالي حَيْثُ تَجِدُ مكاتباتِ الدولةِ العراقيَّةِ بشأنِ الفَيَضَانِ الموسميِّ في الأعوامِ القليلةِ السابقَةِ. فما هي علاقتُهُ بالطوفانِ السابِقِ عَلَى دولِ المُدُنِ وعصرِ فَجْرِ السُّلالاتِ؟.
أَمْ يحسُبَ أنَّ تسميةَ الفَيَضَانِ بالطوفانِ ستَحِلُّ المُشكلَةَ تماماً مثل المُقْتَرَحِ الأوَّلِ الذي سَمَّى فيه الطوفانَ فَيَضَانَاً؟.
وَهَلْ تُفَسِّرُ تِلْكَ الفَيَضَاناتُ الطوفانَ المذكورَ؟.
وَهَلْ يَعْتَقِدُ أنَّ السُّكانَ هَلَكوا في مستوىً من الماءِ يبلغُ 60سم؟
وَهَلْ كانَ قَولُ الباحثينَ بسيطَرَةِ العراقيينَ القُدَماء عَلَى الفَيَضَانِ السنويِّ مُجَرَّدَ أكذوبةٍ؟.
لَقَدْ قَالَ باقِرُ:
(إنَّ "وولي" عَثَرَ في حُفرياتِهِ عَلَى طَبَقَة غرين بثخن يبلغ زهاء 11 قدماً في كيش ـ شروباك ـ لجش وهي تفصل ما بَيْنَ دَورِ جمدة نصر وعصرِ السُّلالات الأوَّلِ ولذَلِكَ ذَهَبَ المرحوم "وولي" إلى أنَّ الطوفانَ المذكورَ وَقَعَ في دَورِ العبيدِ بحدودِ 4000 سنة ق.م) ـ تاريخ الحضارات ـ ص300.
والمطلوبُ هو تفسيرُ الطوفانِ المذكور وطبقةِ الغرين تِلْكَ وبقيَّةِ الآثار عَنْهُ، وليس المطلوبُ الإشارةَ إلى الفَيَضَانِ العاديِّ الموسميِّ المعلومِ لجميعِ الباحثينَ والمُسَجَّلِ تاريخياً.
لَمْ يَكْتَف الأحمدُ بمصائبِ تفسيراتِ القومِ الغرباءِ حتَّى جَاءَنَا باحتمالاتٍ أغْرَب وأعْجَب.
فما عَسَى أنْ يكونَ مقدارُ ما يُرَسِّبُهُ (72) سم من الماءِ الأحْمَرِ حتَّى لو أستمرَّ عِدَّةَ أسابيعٍ؟.
إنَّنَا نَعْلَمُ أنَّ المَتْرَ المُكَعَّبَ من ماءِ الفُراتِ ودجلةَ الشديدِ الحُمرَةِ لَنْ يُرَسِّبَ أكْثَرَ من نِصْفِ مليمترٍ عِنْدَ الركودِ. وباستمرارِ تَدَفُّقِ المياهِ عِدَةَ أسابيعٍ ستَبْلُغُ طبَقَةَ الغرين عِدَّةَ سنتمتراتٍ أو إنجاتٍ مهما بَالَغَ المرءُ في وَصْفِ الفَيَضَانِ، وَلَنْ تَصِلَ في كُلِّ الأحوالِ إلى أَحَدَ عَشَرَ قَدَمَاً!.
إنَّ هذا السُمْكَ يَحتاجُ إلى ارتفاعٍ للماءِ لا يَقِلُّ عَن ألفي مترٍ لا كمُجرَّدِ كميَةٍ فَقَطْ، بَلْ لا بُدَّ أنْ يكونَ الماءُ ثَجَّاجَاً يَنْصَبُّ انصباباً شديداً أو متفجِّرَاً من باطِنِ الأرْضِ ويقومُ بإذابَةِ التُرْبَةِ لتكوينِ طبقةٍ بهذا السُمْكِ، وَهْوَ أَمْرٌ سيكونُ مُرَوِّعَاً ومُهْلِكَاً للكائناتِ بِكُلِّ تأكيدٍ.
لَقَدْ كَذَّبَت الملحمَةُ بنَفْسِهَا جميعَ تِلْكَ الاحتمالاتِ حينَمَا أعْتَذَرَ (أيا) عَنْ فِعْلِ الطوفانِ وألْقَى باللائِمَةِ عَلَى (أنْليْل)!.‍
وَقَدْ رَأَيْنَا تِلْكَ الرموزَ الدالَّةَ دلالَةً واضحَةً عَلَى أنَّ الطوفانَ الذي ذكَرَتْهْ الملحمَةُ لَمْ يَكُنْ شيئاً مَعْهوداً ولا فَيَضَانَاً عَظيماً عَارِمَاً. فالعِرَاقيُّ يُفَرِّقُ جَيِّداً بَيْنَ ما يَفْعَلُهُ (أَيا) وما يَفْعَلُهُ (أنْليْلُ)!.
أنْليْلُ الذي إذا فَعَلَ شيئاً فَلَنْ تكونَ هناك أيَّةُ قوَّةٍ لِصَدِّهِ، وَلَنْ يكونَ هناك أيُّ إجراءِ يمكنُ أنْ يُتَّخَذَ لِتَخفيفِ الصَّدْمَةِ ما لَمْ يَكُنْ سابقاً عَلَى المَوعِدِ المُقَرَّرِ بإشارَةٍ من (أيا) كَمَا رَأَيْنَا في الرموزِ، وَكَمَا رَأَيْنَا فَعُلَهُ في (أور) حَيْثُ أستمَرَّ الشَّعْبُ ينوحُ نَوَاحَاً مُسْتَمِرَّاً.
إنَّنَا لا نَشكُّ بوقوعِ الطوفانِ ولا نَطْلِبُ من الباحثِينَ تأويلاً لَهُ بِقَدْرِ ما نَطْلِبُ أنْ يَتَعَامَلوا بموضوعيَّةٍ تامَّةٍ مَعَ مُعطياتِ اختصاصاتِهِم. فَعَليهِم أنْ يَرْسوا عَلَى حَلِّ واحِدٍ وفِكْرَةٍ محدَّدَةٍ بِشَأْنِ المُعْطياتِ نَفْسِهَا!.
هَلْ كانَ عَصْرَ جَفافٍِ أم عَصْرَ أمْطَارٍ؟
عَلَيهِم أنْ يَعْلَموا أنَّ القارِئَ ذكيٌّ أكْثَرُ ممَّا كانوا يَتَصَوَّرونَ. فَهْوَ لا يَقْبَلُ أنْ يكونَ عَصْرَ جَفافٍ لتفسيرِ الاستيطانِ ويكونَ عَصْراً مُمْطِراً لتفسيرِ الطوفانِ وإنَّ المُتَلقّي يَحْفِظُ عَلَيهِم ما يقولونَ.
نَحْنُ لا نشكُّ بوقوع ِالطوفانِ لأَنَّ النصَّ الدِّينيَّ أَخْبَرَنَا بالقضيَّتينِ في آنٍ واحِدٍ: قضيَّةُ الطوفانِ وقَضيَّةُ تَكْذيبِ الأكثريَّةِ بِهَا… فتكذيبُهُم للقصَّةِ القرآنيةِ ـ التوراتية لا يَدْفَعُنَا للتشكيكِ بِهَا كَمَا ظَنُّوا، بَلْ عَلَى العَكْسِ. فَهذا التكذيبُ هو بالنسبَةِ للمُتَلَقِّي النَّزيهِ دليلٌ عَلَى صِدْقِ القضيَّةِ الثانيَّةِ (أي الطوفان)، لأنَّهُ ذَكَرَ تكذيبَ الأكثريَّةِ للقصَّةِ عُقَيبَ سَرْدِهَا كَمَا في مَورِدِ سورةِ (الشُّعَراءِ) من القرآنِ الكريمِ:
(قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ. قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء: 116ـ122)
وَحينَمَا نُريدُ تفسيرَ الطوفانِ باكتِشَافِ عِلَّتِهِ الطبيعيَّةِ الأولى فإنَّ النصَّ القرآنيَّ يُسَاعدُنَا عَلَى هذا الكَشْفِ وإنْ قَلَّتْ المُعطياتُ الماديَّةُ والأدلَّةُ الأَثَريِّةُ المتوفِّرَةُ أو انْعَدَمَتْ.
فَقَدْ رَبَطَ النصُّ أَمْرَ الطوفانِ بواقِعَةٍ أخرى سَابِقَةٍ عَلَى الطوفانِ نَفْسِهِ وهي فَوَرَان التَّنُورِ.
(فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ )
(المؤمنون: من الآية27)
صحيحٌ أنَّ التفسيرَ القائم للآيةِ لا يُعطي إضَافَةً جديدَةً، إذ يزْعَمُ أنَّهُ تَنُّورُ الخُبْزِ إذا خَرَجَ مِنْهُ الماءُ، فَهْوَ عَلامَةٌ عَلَى حدوثِ الطوفانِالعضو العزيز...شكر صاحب الموضوع للجهد الذي يقوم به لخدمة اهل العلم يشجعه لإعطاء عطاء أكبر . ضع رد لرؤية الرابط..، بَيْدَ إنَّنا لا نَلْتَزِمُ بهذا التفسيرِ ولا نَجِدُ مُبَرِّرَاً عَقْليَّاً ولا شَرْعيَّاً ولا لغويَّاً للالتزامِ بِهِ بَعْدَ إنْ أَمَرَ النصُّ القرآنيُّ بضرورَةِ التَدَبُّرِ في النصِّ وَوَصَفَ الذين لا يَتَدَبَّرونَ بالعَمَى والضَّلالِ، ونَبَّهَ إلى وجودِ من يُحاوِلُ تأويلَهُ ابتغاءَ الفتْنَةِ ولتضليلِ الخَلْقِ عَن المعلوماتِ التي يَذْكِرُهَا اللهُ تعالى في عِلاقَةِ الإنسانِ بالطبيعةِ.
إنَّ القبولَ بالتفسيرِ القائِمِ والمتداوَلِ هو تسليمٌ بالأَمْرِ الواقِعِ وقبولٌ للانقيادِ إذا كانَ من المُتَدَيِّنِ. فإنَ اللهَ لا يُحبُّ المُتَدَيِّنَ الأعْمَى، فَهْوَ والضَّاُل عِنْدَهُ تعالى سَوَاء بسواءٍ لأنَّهُ يَعْبِدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ حَسَبَ مَا وَصَفَهُ النصُّ القرآنيُّ:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11)
هذا القبولُ ونتائجُهُ حينَمَا يكونُ من المُتَدَيِّنِ. أَمَّا من غَيْرِهِ فليس سوى إعْرَاضٍ وصدودٍ يَتَّسِمُ بالأنانيَّةِ والصَّدِّ عَن الحقائق. فَهْوَ يَخْتَارُ بعضَهَا دونَ بَعْضٍ ويَذْعِنُ لِبَعْضِ المُعطياتِ الماديَّةِ دونَ المعطياتِ المَذكورَةِ في كلامِ اللهِ… وَكأنَّ السمواتِ والأرْضَ وما فيهما لَيْسَتْ هي الأُخْرَى من مُعطياتِ اللهِ.. فَهْوَ (أي غيرُ المُتَدَيِّنِ) مَثَارٌ لسُخْريَةِ العَارِفِينَ بعلاقَاتِ الأشياءِ بعضِهَا ببعْضٍ..
لَيْسَ من الضروريِّ إذن أنْ أكونَ مُلتزِمَاً بتأويلٍ اجتهاديٍّ للنِّصِ من غَيْرِ تَمْحيصٍ وتَحليلٍ وبُرهانٍ. فالنصُّ القرآنيُّ لا يمكنُ أنْ يُعْطي إشارَةً لنُوْحٍ (ع) عَلَى بِدْءِ الطوفانِ من هذا النَّوعِ. فإنَّ هطولَ المَطَرِ وتَفَجُّرَ أوَّلُ ينبوعٍ من أيِّ موضِعٍ هو بِنَفْسِهِ علامةٌ عَلَى بِدْءِ الطوفانِ. فلماذا يُحَدِّدُهُ بتنُّورِ الخُبْزِ؟، ولماذا لا يُحَدِّدُ لَهُ علامَةً أُخْرَى غَيْرَ هذِهِ، بَلْ لماذا لا يُحَدِّدُ لَهُ الوَقْتَ: ساعَةَ كذا من يومِ كذا؟، فَهَلْ يَجْلِسُ نُوحُ ليلَ نَهَارَ يُراقِبُ تنُّورَ الخُبْزِ؟.
فَمَنْ ذا الذي يَقْبَلُ بهذا التأويلِ الساذِجِ الذي لا يتناسَبُ مَعَ بلاغَةِ هذِهِ العِبارَةِ القرآنيَّةِ وقوَّتِهَا اللغويَّةِ وشِدَّةِ وَقْعِ جَرَسِهَا؟
وعدا ذَلِكَ فإنَّهَا تُخَالِفُ لَغَةَ القرآنِ وأسلوبَهُ ونظامَهُ، بَلْ تُخَالفُ الاستعمالَ العربيَّ للفَوَرَانِ. فالعَرَبُ لا تَطْلِقُ هذا اللَّفْظَ عَلَى الماءِ قديماً، وإنَّمَا تَطْلِقُ مُفردَةَ الغليانِ والإنبجاس والتَّفَجُّرِ وما شَابَهَ. ولَفْظُ (فَارَ) ومشتقَّاتِهِ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى ما هو مُتَأَجِّجٌ بالحَرَارَةِ كالنَّارِ والغَضَبِ وما شَابَهَ.
وَقَدْ استعْمَلَهُ القرآنُ في ثلاثَةِ مواضِعٍ فَقَطْ. اثنانِ منها لفَوَرَان التّنُُورِ (موضوع البَحْثِ)، والآخَرُ الواضِحُ جداً استعْمَلَهُ لِوَصْفِ جَهَنَّم من حَيْثُ هي نَارٌ. وإذا استُعْمِلَ مَعَ الماءِ فإنَّهُ يدلُّ (وإنْ لَمْ أَجِدْ لَهُ شاهداً واحِداً غَيْرَ الاستعمالِ العاميِّ العراقيِّ المُعاصِرِ).. يدِلُّ عَلَى بلوغِ الماءِ دَرَجَةَ الغَلَيَانِ. بَيْدَ أنَّ النصَّ لا يقولُ: (فَارَ الماءُ من التَّنُور)، وإنَّمَا يقولُ: (فَارَ التَّنُورُ نَفْسُهُ) من حَيْثُ هو تَنُّورٌ مُشْتَقٌّ من النَارِ. ولذَلِكَ فإنَّ هذا التَّنُورَ هو السَّبَبُ المباشِرُ لحدوثِ الطوفانِ من الناحيَّةِ الطبيعيَّةِ. فَهْوَ إذن بُرْكَانٌ كَبيرٌ يَفورُ تلقائياً، إذ نَسَبَ الفَوَرَانَ لَهُ (فَارَ التَّنُورُ).
وتَدْعِمُ هذا التفسيرَ عِدَّةُ مُؤَيدَاتٍ:
الأوَّلُ
: استعمالُ القرآنِ الكريمِ لَهُ لِوَصْفِ النارِ كَمَا ذَكَرْنَا:
(إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) (الملك:7)
ومعلومٌ أنَّ إرْجَاعَ اللَّفْظِ إلى استعمالِهِ النصيِّ (في النصِّ نَفْسِهِ) أَصَحُّ من إرْجَاعِهِ إلى أيِّ مَصْدَرٍ آخرٍ مَعَ وجودِ مَوردٍ واضِحٍ للاستعمالِ. بَلْ أَكَّدوا بأنْفُسِهِم أنَّ مَنْهَجَ تفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ هو أَفْضَلُ المَنَاهِجِ.
الثاني
: تؤكِّدُ هذا المعنى حَرَكَاتُ الأصواتِ في مَنْهَجِنَا. وليس هذا هو موضِعُ إيضاحِ اللفظِ فليُراجع القارئُ الفاضِلُ التعاقب (فور) من موجز كتاب (اللغة الموحدة)العضو العزيز...شكر صاحب الموضوع للجهد الذي يقوم به لخدمة اهل العلم يشجعه لإعطاء عطاء أكبر . ضع رد لرؤية الرابط...
الثالث
ُ: ارتباطُ اللَّفظِ بالأمْرِ الصادِرِ بالبدءِ بالطوفانِ. فمَجيءُ الأوَّلُ يُحَتِّمُ أوَّلاً فَوَرَانَ التَّنُورِ. بَيْنَمَا إذا كانَ المقصودُ خروجَ الماء أَصْبَحَت العبارَةُ (جَاءَ أمرُنَا) زائِدَةً، لأنَّهَا تَصبَحُ نَفْسَ خروجِ المِاء، لأَنَّ الأمْرَ هو أمْرُ الطوفانِ، وخروجُ الماءِ لا يعني شيئاً سوى البدءِ بالطوفانِ.
بَيْنَمَا الأمرُ يختلفُ إذا كانَ التَّنُورُ بُرْكَانَاً. فالأمرُ بحدوثِ الطوفانِ يَسْتَلْزِمُ البِدْءَ بفَوَرَانِ بُرْكَانٍ يَتْبَعُهُ تَحَقُّقُ وقوعِ الأمرِ بالطوفانِ.
الرابع
ُ: يحتاجُ نُوحٌ (ع) إلى وَقْتٍ لإرْكَابِ الأزواجِ مُجْتَمِعَةً لديه من الكائناتِ وجماعَتِهِ من المؤمنين. والبِدْءُ بخروجِ الماءِ مَعَ الأمْرِ (أسْلُكْ فيها من كُلِّ زوجين) لا يعطيهِ الوقتَ الكافيَّ لذَلِكَ، بَيْنَمَا تَفَجُّرُ البُرْكَانِ يعطيهِ وقتاً واسِعَاً لتنفيذِ الأمْرِ الآخر (اسلك)؟.
حَدَّدَت الملحمَةُ هذا الوقتَ من الغروبِ إلى الفَجْرِ كَمَا سَيَأتي قريباً. كَمَا حَدَّدَهُ نصٌّ للإمامِ عليٍّ (ع) من الليلِ إلى مَطْلَعِ الشَّمْسِ.
الخامس
ُ: إنَّ هذا الافتراضَ هو الوحيدُ الذي يُفَسِّرُ لنا حدوثَ الطوفانِ علميَّاً إذا أرَدْنَا مَعْرِفَةَ السَّبَبَ المُشْتَرَكَ للمَطَرِ المُنْهَمِرِ ولِتَفَجُّرِ الأرْضِ بالعيونِ في آنٍ واحِدٍ، وَهْوَ ما تَذْكُرُهُ سورَةُ القَمَرِ:
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)
(القمر: 11ـ12)
ذَلِكَ أنَّنَا نَحتاجُ من الناحيَةِ العِلْمِيَّةِ إلى التسليمِ بحصولِ انخفاضٍ في الضَّغْطِ الجويِّ بدرجَةٍ كبيرَةٍ غَيْرِ معهودَةٍ في المنطقَةِ. فهذا الانخفاضُ في الضَّغْطِ هو الذي يَجْعَلُ السُّحُبَ في السَّمَاءِ تَجْتَمِعُ بالرياحِ المتوجِّهَةِ إلى المنطقةِ لمُعادَلَةِ الضَّغْطِ الجويِّ.
وَهْوَ أمرٌ معهودٌ سابقاً لكنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُفَسَّرَاً علميَّاً. فالناسُ يُلاحظون دوماً دِفءَ الطَّقْسِ قَبْلَ هطولِ الأمطارِ.
وتعليلُهُ فيزيائياً معلومٌ فإنَّ الحرارَةَ تُوَسِّعُ المسافَةَ بَيْنَ جُزيئاتِ الهواءِ فيصبحُ أقَلَّ كثافةً ممَّا هو عليه فَيَقِلُّ الضَّغْطُ، وعِنْدَهَا تتحرَّكُ الرياحُ باتِّجَاهِ المنطقَةِ الأكثَرِ انخفاضَاً في الضَّغْطِ.
وفي نَفْسِ الوقْتِ لا بُدَّ من هذا الانخفاضِ الكبيرِ جداً لكي تَتَفَجَّرَ الينابيعُ من الأرْضِ حَيْثُ يصبَحُ الضَّغْطُ الداخليُّ للمياهِ الجوفيَّةِ أكْبَرَ من الضَّغْطِ الجويِّ الخارجيِّ.
أَلا تَرَى أنَّ النزيفَ من الأنفِ يَحْدِثُ في حالتينِ: حالَةُ ارتفاعِ ضَغْطِ الدمِ أو عِنْدَ الطيارينَ في الأجْواءِ العاليةِ جداً بِسَبَبِ انخفاضِ الضَّغْطِ الجويِّ كُلَّمَا ازدَادَ الارتفاعُ؟.
لكنَّ السّبَبَ في الحالتين هو نَفْسُ السَّبَبِ. فَهْوَ في الأصْلِ واحدٌ وَهْوَ زيادةُ الضَّغْطِ الداخليِّ للدمِ عَلَى الضَّغْطِ الخارجيِّ الجويِّ.
السادس
ًُ: ذَكَرَ القرآنُ أنَّ قَومَ نوحٍ (ع) كانوا يَسْخَرونَ مِنْهُ. وهذا اللَّفظُ (أي السُّخريَةِ) استعْمَلَهُ القرآنُ بشكلٍ عامٍّ عَنْ مجموعِ الرُّسُلِ، ولكنَّهُ ذَكَرَهُ مَعَ نوحٍ وحْدَهُ بشَكْلٍ ملفتٍٍ للنَّظَرِ، حَيْثُ تَكَرَّرَ أربعَ مرَّاتٍ في آيَةٍ واحدةٍ، فَلَمْ يُذْكَرْ رسولٌ مُعيَّنٌ بالاسمِ سَخَرَ مِنْهُ قومُهُ سوى نوحٍ.
نعم.. ذَكَرَ القرآنُ بالاسمِ رُسُلاً آخرينَ مَعَ لَفْظِ الاستهزاءِ وهْوَ مُختَلِفٌ عن لفظِ السُّخريَةِ.
وَقَدْ دلَّ التفريقُ بين اللفظينِ على أنَّ الاستهزاءَ إذا بَلَغَ أن يكون عَلَى صاحِبِ الموضوعِ نَفْسِهِ لا الموضوعِ وحدِهِ تَحَوَّلَ إلى سُخْريَةٍ مِنْهُ، وإذا بَقيَ متعلِّقاً بالموضوع فَقَطْ دون صاحبِهِ فَهْوَ استهزاءٌ.
وَكَانَ نوح قَدْ أجابهم قائلا:
(قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) (هود: من الآية38)
لَقَدْ كانَ يَعِدُهُم بالطوفانِ، وَكَانَ يَصْنَعُ الفُلْكَ أمَامَ أعيُنِهِم وكانوا يَسْخَرونَ مِنْهُ. ولكنَّ سُخْريَتُه مِنْهُم بالمُقابلِ لا تَتَحَّقُق إلاَّ بِفِعْلٍ معيَّنٍ يفعلونَهُ كَمَا يَفْعَلُ هو صناعَةَ الفُلْكِ. وذلك لأَنَّ السُّخريَةَ كَمَا قُلْنَا لَيْسَتْ استهزاءً بالموضوعِ من حَيْثُ هو فكْرِةٌ، وإنَّمَا هي استهزاءٌ بصاحبِهَا من حَيْثُ يأتي أفْعالاً مُعَيَّنَةً.
ولذَلِكَ لَمْ تَرِدْ السُّخريَةُ في القرآنِ إلاَّ مَعَ الأشخاصِ عِنْدَ قيامِهِم بأفعالٍ مُعَيَّنَةٍ. أمَّا الاستهزاءُ فَيَحْدِثُ من الأشياءِ كالدِّينِ والأفْكَارِ والعَقَائِدِ. وتمكنُ مراجعَةُ هذِهِ التفاصيلُ في سلسلةِ النظامِ القرآنيِّ.
إذن.. لا بُدَّ أن قومَ نوحٍ سيقومون فيما بَعْدُ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ يصبحون مَعَهُ مَثَارَاً للسَّخريَةِ المذكورةِ في الآيةِ السابقةِ. وهذا الفِعْلُ يتحقَّقُ عِنْدَ هروبِهِم من البُرْكَانِ حَيْثُ يَتَأَكَّدُ لديهِم أنَّ نوحاً كانَ كاذباً من حَيْثُ وَعَدَهُم بالغَرَقِ بالماءِ بَيْنَمَا الذي وَقَعَ هو نقيضُهُ تماماً وَهْوَ ظهورُ نارٍ.. وهُنَا تتحقَّقُ السُّخْريَةُ بصورتِهَا الكاملةِ من حَيْثُ أنَّهُم لا يعلمونَ أنَّ هذِهِ النارَ ستكونُ هي السَّبَبَ الطبيعيَّ المَبَاشِرَ لحدوثِ الطوفانِ.
السابع
ُ: عثورُنَا عَلَى بَعْضِ النصوصِ الحديثيةِ الشريفةِ التي تُؤَكِّدُ هذا الفَرْضِ. ومن تِلْكَ النصوصِ ما ينفي أن تكونَ عبارَةُ (فَارَ التَّنُورُ) خاصَّةً بتنُّورِ الخُبْزِ. ومنها ما في الملحَمَةِ البابليَّةِ.
فَمِنَ النصوصِ الدالَّةِ عَلَى ذَلِكَ هذان الحديثان:
الحديثُ الأوَّلُ
: بحَذْفِ الإسناد الأعمش عن علي بن أبي طالب(ع) في معنى (وفَارَ التَّنُورُ) قَالَ:
(أَمَا واللهِ ما هو تَنُّورُ خُبْزٍ، ثُمَّ أومَأَ بِيَدِهِ إلى الشَّمْسِ فقالَ "طلوعُها")
فَلَكَ أنْ تَُعْجِبَ من إصْرارِ المفسِّرينَ وإجماعِهِم عَلَى تفسيرِ الفَوَرَانِ بخُروجِ الماءِ من التَّنُورِ مَعَ قَسَمِ الإمامِ عليٍّ (ع) أنَّهُ لَيْسَ تنُّورُ الخُبْزِ، ومَعَ نَفْيهِ لَهُ ورَبْطِهِ بالشَّمْسِ وطلوعِهَ. وَمَنْ يَدْري لَعَلَّهُ أشَارَ إلى الشَّمْسِ في مُحَاولَةٍ لإفهامِهِم أنَّهُ تَنُّورٌ.. مُشْتَقٌ منَ النَّارِ ذاتيُّ الاتِّقَادِ كالشَّمْسِ. وَرَدَ هذا الحديثُ في كتاب السمرقندي/7، والعياشي/147، والبحار ج5/93.
لكنَّ ارتباطَ الواقعَةِ بالشَّمْسِ واضحٌ جداً في النصِّ البابليِّ وذلك عِنْدَ قولِ (أوتوـ نوبشتم) وَهْوَ يقصُّ لجلجامشَ حديثَ الطوفانِ:
(وَجَعَلَ الرَّبُّ "شَمْش" لي وقتاً "موعِدَاً" مُحَدَّدَاً)
فوَلَجْتُ السَّفينةَ وأَغْلَقْتُ بَابِي
وسَلَّمْتُ القَيادَ للملاَّحِ (بوزر أُموري)
أعْطَيْتُهُ الهَيكَلَ ومَا يحويهِ من مَتَاعٍ
ولَمَّا ظَهَرَتْ أنوْاَرُ السَّحْرِ
عَلَتْ من الأُفْقِ غمامَةٌ ظَلْمَاءٌ
وبهذا تَتَّفِقُ الملحمَةُ مَعَ الحديثِ السابقِ ومَعَ النصِّ القرآنيِّ في كونِ الوقتِ موسَّعَاً مُنْذُ دخولِ السَّفينةِ لحينَ البِدْءِ بالطوفانِ. فالموعِدُ المحَدَّدُ في السَّطْرِ الأوَّلِ عادَ ذِكْرُهُ في قولِهِ (أنْوارُ السَّحْرِ) التي عَلَتِ الأُفْقَ في السَّطْرِ الأخيرِ. وعلى ذَلِكَ فإنَّ طلوعَ الشَّمْسِ كانَ هو الموعِدَ المُحدَّدَ.
إذن.. فنَحْنُ نقرأُ هذا السَّطْرَ بالمقلوبِ، إذ لَيْسَ هو الرَّبَّ الذي اسمُهُ (شمش)، بَلْ الموعِدُ مُرْتَبِطٌ بـ (شمش) الذي هو الشَّمْسُ.
والسَّطْرُ الأصليُّ هو (جَعَلَ الرَّبُّ لي الشَّمْسَ موعِدَاً) وليسَ هو (جَعَلَ الرَّبُ "شمشُ" لي موعداً).
وأمَّا حَرْفيَّاً حَسَبَ النصِّ فالجُمْلَةُ هي:
أداننا ايلو أوتو ايشكونا ممّا
موعد الرَّبّ الشمس جعلها لي
إنَّ لَفْظَ (أداننا) هو صِفَةٌ بمعنى مُحَدَّد. وأوتو: الشمس. وأيشكونام: جعل وما: ضمير المتكلم المفرد.
ولا يَنْتِجُ من الجُمْلَةِ إلاَّ ما ذَكَرْنَاهُ. فإنَّ لفظ (موعد) لا وجود لَهُ في النصِّ. وإنَّمَا الفِعْلُ وَقَعَ عليه وعلى الشَّمْسِ. والناتِجُ أنَّ الرَّبَّ جَعَلَ الشَّمْسَ حَدَّاً لَهُ وَهْوَ مطلعُ الشَّمْسِ. بَيْنَمَا عَلَى ترجمَتِهِم لا يَظْهَرُ الموعِدُ المُحَدَّدُ أصْلاً.
وسَبَبُ ذَلِكَ هو في أنَّهُم اعتقدوا بترادُفِ (أوتو) مَعَ (شمش) الرَّبِّ، مَعَ أنِّي أشِكُّ في ربوبيتِهِ أيضاً، إذ كثيراً ما حَدَثَتْ إضافَةُ لَفْظِ (رَبِّ) إلى الأشياءِ، فَظَنَّ المترجمونَ أنَّها (أربابٌ) كَمَا يحدِثُ في العربيَّةِ عندما تقول: (رَبّ البيتِ، ورَبّ السَّمَاءِ، ورَبّ الأرْضِ… الخ). فَحَسِبَ المترجمونَ أنَّ هذِهِ أسماءٌ للأربابِ المُتَعَدِّدينَ. والدليلُ المؤكد عَلَى خطأ هذِهِ الترجُمَةِ من جِهَةٍ أخرى هو اختلالُ السياقِ بالكامِلِ.
لَقَدْ كانَ الذي يُكَلِّمُ نوحاً في تِلْكَ اللحظَةِ هو (أيا) الذي لاحَظْنَا رمزيَّتَهُ سابقاً. فَكَيْفَ تَغَيَّرَ الحديثُ ليكونَ عَلَى لسانِ (شمش)؟.
لَقَدْ أنْتَبَهَ طه باقر إلى هذا التَحَوُّلِ المفاجئِ في الحديثِ، ولذَلِكَ قَالَ:
(هَلْ يعني إدخالُ "شمش" في هذا السَّطْرِ (بدلاً من "أيا") وجودَ نصٍّ ثَانٍ للملحَمَةِ؟).
أقولُ: بَلْ يعني وجودَ ترتيبٍ آخرٍ وترجُمَةٍ أخرى للجُملةَ ِالتي تُرْجِمَتْ بصورَةٍ غيرِ دقيقَةٍ.
فالبيتُ تَقَعُ قراءَتُهُ صحيحَةً إذا كانَتْ لَفْظَةُ (شمش) مفعولاً ثانياً لـ (جَعَلَ) الذي لا بُدَّ أنْ يأخذَ مفعولين وليْسَتْ اسماً للرَّبِّ!.
الحديثُ الثاني:
ومن المروياتِ المؤكِّدَةِ عَلَى أنَّ التَّنُورَ هو شيءٌ مُرْتَبِطٌ بالنَّارِ ما ذَكَرَهُ صاحِبُ كتابِ البرهانِ عَن علي بن أبي طالب(ع) أيضاً. ونصُّهُ مشابِهٌ لِمَا مضى مَعَ اختلافِ آخرٍ هو ( وأومَأَ إلى الشَّمْسِ فقَالَ: " الصبح") ـ نَفْسُ المصادِرِ السابقَةِ.
وهذا دليلٌ آخرٌ أكثَرُ وضوحَاً عَلَى أنَّ الموعِدَ هو ظهورُ الشَّمْسِ عِنْدَ الصَّبَاحِ. ولذَلِكَ أَكَّدَهُ (أوتونوبشتم) في الملحمَةِ بقولِهِ لجلجامشَ:
ولَمَّا ظَهَرَتْ أنوْاَرُ السَّحْرِ
عَلَتْ من الأُفْقِ غمامَةٌ ظَلْمَاءٌ
فالغَمَامَةُ أوَّلُ ما ظَهَرَتْ عِنْدَ الفَجْرِ وبَعْدَ مُدَّةٍ يسيرَةٍ بالطبعِ بَدَأَ هطولُ المَاءِ. فهذِهِ العبارَةُ تُفَسِّرُ البيتَ المذكورَ أيضاً بِنَفْسِ الطريقَةِ.
الثامن
ُ: إنَّ العبارَةَ القرآنيَّةَ تبدو وكأنَّهَا بَقِيَتْ بِنَفْسِهَا كاسْمٍ يُطْلَقُ عَلَى منطقَةِ (أوتو ـ نوبشتم). فإنَّ مَوقِعَ البَطَلِ هو (تل فارة)، ولا يَحْتَاجُ هذا الاسمُ إلاَّ إلى تَغْييرٍ عَلَى عادَةِ البابليينَ في تقديمِ المُضافِ إليه أو الصفَةِ، أي أنَّ (فار التَّنُور) هو مقلوبُ (تنَّور فَارَ) بالتحريكِ عَلَى بِناءِ الفِعْلِ عَلَى الفَتْحِ فأضافوا الهاءَ لاعتقادِهِم أنَّهَا (فاره) بالهاءِ، بَيْنَمَا هو (فَارَ) الفِعْلُ الماضيُّ.
ذَلِكَ أنَّ العراقيَّ القديمَ كانَ غالباً ما يُقَدِّمُ الاسْمَ عَلَى الفِعْلِ. فَنَحْنُ اليومَ نُتَرْجِمُ عبارتَهُ الأصليَّةَ مثل (جلجامشُ قَالَ) إلى العبارَةِ العربيَّةِ (قَالَ جلجامشُ).
وعليهِ فَمِنَ المُحْتَمَلِ جداً أنْ تكونَ (تل فاره) عبارَةٌ أو أسمٌ مُشْتَقٌّ أصلاً ممَّا ذَكَرَهُ القرآنُ (فَارَ التَّنُورُ).
وَيَبْقَى أنَّ ما يُؤَكِّدُ هذِهِ الفرضيَّةُ هو العثورُ عَلَى أحْجَارٍ بُرْكانيَّةٍ في المنطقَةِ. وَقَدْ أَخْبَرَني أَحَدُ الأصدقاءِ بعثورِ الجيولوجيينَ عَلَى أحْجَارٍ بُركانيَّةٍ في المنطقَةِ (تل فاره)، ولكنَّنَي لَمْ أستطِعْ التأكُّدَ من ذَلِكَ من مصدَرٍ علميٍّ مُسَجَّلٍ، إذ لَمْ نُحاوِلْ أصْلاً مِثْلَ هذِهِ المُحاولَةِ ولَعَلَّ ذَلِكَ الدليلَ موجودٌ لديهِم.
التاسعُ
: وَقَدْ يَدِلُّ عَلَى حدوثِ البُركانِ من جهةٍ أخرى ما ذَكَرَتْهُ الملحمَةُ عَن حصولِ مَطَرٍ غريبِ النَّوعِ قَبْلَ البِدْءِ بالطوفانِ (لا علاقَةَ لَهُ بالماءِ). فَقَدْ تُرْجِمَ هذا المَطَرُ المُتَساقِطُ إلى لفظي (حمص وحنطة) وإلى لفظِ (حنطة) فَقَطْ في بعضِ التراجُمِ. كَمَا وَرَدَ تساقِطُ الطيورُ والأسماكُ!.
وَقَدْ تكونُ هذِهِ الألفاظُ (بَعْدَ إنْ وَضَعَ عليها الشُّراحُ علاماتِ الاستفهامِ للإشارَةِ إلى مجهوليَّتِهَا).. قَدْ تكونُ دالَّةً عَلَى تساقُطِ حبَّاتِ الرَّمَادِ وقِطَعِ الخبْثِ والحديدِ المُحْتَرِقِ من البُركانِ والتي يَرمي بِهَا البُركانُ عادَةً إلى مسافاتٍ بعيدةٍ.
والذي يُقَوِّي هذا الاحتمالُ أنَّ اللفظَ المُستعمَلَ لهذِهِ الأشياءِ يُفيدُ من وجهٍ آخرٍ في معنى الهلاكِ، فَقَدْ قَالَ باقِرُ:
(استعمَلَ الكاتِبُ هنا التوريَةَ من كلمتَينِ بابليتَينِ هما كاباتي kabati وكوكي kukku واللتَينِ تعنيانِ معنىً مُزدَوَجَاً إمَّا الطعامَ أو الهلاكَ)/152.
وَكَانَ باقِرُ قَدْ تَرْجَمَ هذا السَّطْرَ إلى:


صورة رمزية إفتراضية للعضو علي العذاري
علي العذاري
انتقل لرحمة الله
°°°
افتراضي
وَكَانَ باقِرُ قَدْ تَرْجَمَ هذا السَّطْرَ إلى:
في المَسَاءِ سيمطرُكُم المُوَكَّلُ بالزوابِعِ بمَطَرٍ من (قَمْحٍ)
أمَّا الأحْمَدُ فَقَدْ أضَافَ الحنطةَ إلى الحُمُّص في التَرجُمَةِ فقَالَ:
43. سوف يَسْقِطُ عليكم مَطَرَاً كَثيراً
44. طيوراً متخفِّيَةً وأسْماكَاً

45. حَصَاداً وافِراً

46. حمصاً عِنْدَ الفَجْرِ

ولكنَّ البيتَ (44) والذي يُحَدِّدُ خصائِصَ هذا المَطَرِ الغريبِ مخرومٌ وفيه مفرداتٌ مفقودَةٌ. وَقَدْ أَعادَ (سبايزر) المفرداتِ وأَعادَ الترجُمَةَ عَلَى النحوِ الآتي:
44. أحسنُ أنواعِ الطيورِ وأكثرُ الأسْماكِ ندرَةً /473

وهذا يعني أنَّ هناك تَشْبيهاً للأجسامِ المتساقِطَةِ بحبَّاتِ الحنطةِ والحمُّصِ والطيورِ والأسْماكِ، لأَنَّ أشكالَهَا مختلفةٌ وهي داكنةُ اللونِ سوداءٌ قاتمَةٌ. فالأبياتُ من كلامِ نوحٍ وَهْوَ (يَسْخَرُ منهم كَمَا يسخرون).
مِنَ المُحْتَمَلِ أن تكونَ (الغمامَةُ السوداءُ المُظلمَةُ) التي عِنْدَ السَّحْرِ هي غمامَةُ دُخانِ البُركانِ وهي قُبيلَ الموعِدِ النهائيِّ للبِدْءِ بالطوفانِ المُحَدَّدِ بطلوعِ الشَّمْسِ.
ومن جُمْلَةِ السطورِ التي فيها توريَةٌ وغَرَضُهَا السُّخْريَةُ منهُم البيتُ رقم (45) والذي أَعادَهُ (سبايزر) بِدِقَّةٍ حينَمَا قَالَ في ترجمَتِهِ:
45. وسوفَ تَمْتَلِئُ الأرْضُ مِنْ وَفْرَةِ الحَصَادِ!

أنَّهُ بالطبعِ حصادُ موتى الكائناتِ والنَّاسِ..
لكنَّ البيتَ رقم (46) أختَلَفَ كُلِّيَاً عِنْدَ الباحِثِ (هايدل)، فَقَدْ تَرْجَمَهُ إلى عبارَةِ:
46. في المَسَاءِ قائِدُ العاصِفَةِ

ولكنَّ لفظَ هذا البيتِ هو:
46. (أيناشير) ـ كواكوكي.

وعندئذ لَنْ يكونَ لفظُ (كوكي) بمعنى حمصٍ أو حنطةٍ أو هلاكٍ كَمَا هو عِنْدَ باقِرَ ولا حمصٍ أو ظُلْمٍ كَمَا هو عِنْدَ الأحمَد، بَلْ طلائِعُ العاصفَةِ أو الزوبعَةِ.
وهكذا نَرَى أنَّ المترجمينَ يَتَصَرَّفونَ بالألفاظِ ومعانيها بِحَسَبِ ما يَرونَهُ مُناسِبَاً لتكوينِ عبارَةٍ منسجِمَةٍ مَعَ النصِّ بكامِلِهِ، وبالتالي لا تُعْتَبَرُ ترجمَتُهُم ترجمَةً بمعنى المُفردَةِ، بَلْ تُعْتَبَرُ أيضاً قراءَةً للنصِّ تُغَيِّرُ دلالتَهُ تَغْييراً كامِلاً.
ونأمَلُ بَعْدَ هذا التوضيحِ أنْ يقومَ الباحثونَ بإعادَةِ النَّظَرِ في مُجْمَلِ ألفاظِ الملحمَةِ آخذينَ بنظَرِ الاعتبارِ هذِهِ الرؤيا وبقيَّةَ النصوصَ الدينيَّةِ باعتبارِهَا جزءً من المُعطياتِ الهامَّةِ عَن القصَّةِ، وأنْ لا تكونَ نظرَتُهُم المُسبقَةُ للعراقَ القديمِ عامِلاً مؤثِّراً في قراءَةٍ موضوعيَّةٍ للنصوصِ خاصَّةً في هذا الزَّمَنِ الذي لا نعيشُ فيه أسطورَةَ الطوفانِ ولكنْ من المؤكَّدِ أنَّنَا نعيشُ فيه طوفانَ الأسطورَةِ!.
****************
ملاحق الصور التوضيحية
حسب التسلسل
الأولى: مجموعة الكواكب السيارة في المجموعة الشمسية
الثانية: منظر لكوكب زحل من قمره (ميماس)
الثالثة: جبل الفيض المغناطيسي ويظهر فيه خطوط الفيض والتوائم
الرابعة: نظرية تكون الفيض المغناطيسي الأرضي
الخامسة: حلقات زحل
السادسة: منظر لكوكب زحل وصخور القمر تيتان


المــلاحــق

مُلْحَقُ رقْمُ (1)

أوَّلاً: الرَّدُ عَلَى المَزَاعِمِ القائِلَةِ بوجودِ عِلاقَةٍ جنسيَّةٍ بَيْنَ جلجامِشَ وأنْكيدو

لا نَحتاجُ إلى الرَّدِّ عَلَى هذا الزَعْمِ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ أنَّ قراءَةَ النصِّ كانَتْ خاطئةً أو مُغرِضَةً. فالتِّهَمُ المذكورَةُ عَن المطالِبِ الجنسيَّةِ التي اقْتَضَاهَا جلجامشُ كانَتْ من فتياتِ أوروكَ لا من الفتيان كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ (ف. هايلد) في مَقَاٍل عَن العلاقَةِ بَيْنَ ملحمَةِ جلجامشَ ومأدبَةِ أفلاطونالعضو العزيز...شكر صاحب الموضوع للجهد الذي يقوم به لخدمة اهل العلم يشجعه لإعطاء عطاء أكبر . ضع رد لرؤية الرابط... وَكَانَ أوَّلُ من أشارَ إلى ذَلِكَ هو (جاكوبسن)، وأعتَبَرَ (هايلد) هذا الرأيَ من أقوالِهِ المبكِّرَةِ التي أَعْرَضَ عَنْهَا فيما بَعْدُ حَيْثُ قَالَ: (ففي أحَدِ بحوثِهِ عَن الملحمَةِ وأكثرُهَا استفاضَةً لا يشيرُ "جاكوبسن" إلى وجودِ علاقَةٍ جنسيَّةٍ بينَهُمَا، بَلْ يَتَحَدَّثُ عَن أنكيدوا بوصفِهِ (أخاً) لجلجامشَ)العضو العزيز...شكر صاحب الموضوع للجهد الذي يقوم به لخدمة اهل العلم يشجعه لإعطاء عطاء أكبر . ضع رد لرؤية الرابط..
وَقَدْ تَكَفَّلَ (هايلد) بالرَّدِّ عليه بِشَأْنِ الأحلامِ حَيْثُ ذَكَرَ أنَّ الصورَ الجنسيَّةَ في الحُلْمينِ أَشَدُّ وضوحاً ممَّا أدْرَكَ (جاكوبسن)، ولكنَّهُ قَالَ: (إنَّ الصورَ الجنسيَّةَ تُعَبِّرُ في الشعورِ القديمِ ولا زالتْ في الشعرِ الحديثِ عَن علاقاتٍ لاجنسيَّةٍ كَمَا في نشيدِ الإنشادِ وأَشْعَارِ القدِّيس يوحنا في الشعر العربي، ولذَلِكَ يُعَدُّ (جاكوبسن) مُبالِغَاً.
أقولُ: هذا كلُّهُ مَعَ سوءِ الترجُمَةِ وسوءِ النَّوايا أحياناً وسوءِ فَهْمِ القصَّةِ كلِّهَا وسوءِ تقديرِ الأجزاءِ المخْرومَةِ!. فَكَيْفَ وَقَدْ لاحَظْنَا أنَّ التِّهَمَ الموجَّهَةَ إليهِ (أي إلى جلجامشَ) أَتَتْ من الخصومِ ولَيسَتْ هي من مَقولِ كاتِبِ الملحَمَةِ. فَهْوَ مُسْتَمِرُّ في مديحِهِ، وإنَّ الشَّكْوَى كانَتْ من المتآمرينَ حَيْثُ جَاءوا بالرَّجُلِ الغريبِ. وإنَّمَا أرَادَ الكاتِبُ إظْهَارَ دَنَسِ أعداءِهِ وأنَّهُم لا يبالونَ بِرَميِهِ بشتَّى التِّهَمِ بطريقَةِ (الإسْقَاطِ) فكأنَّهُ يقولُ من ناحيَةٍ أخرى إنَّ هذِهِ التِّهَمَ هي من مواصَفاتِ الأعداءِ.
وَعَدَا ذَلِكَ فَهُنَاكَ مبالَغَةٌ، بَلْ أكاذيبٌ بشأْنِ الرُّموزِ الجنسيَّةِ بِحُجَّةِ أنَّ (خصينو) هي فأسٌ تَرْمِزُ إلى (أسيتو)، أي عاهر و(كصرو) هي شِهابٌ مقابلُ (كزرتو) بمعنى عاهر!!.
فهنا جَهْلٌ شديدٌ بموضوعِ مخارِجِ الأصواتِ لأهْلِ منطقَةِ الشَّرْقِ. فإنَّ الصوتَ الواحِدَ إذا تغيَّرَ في اللفظِ أخرجوه مخرِجَاً واضحاً جداً ولا علاقةَ لَهُ بالمفردَةِ الأخرى مُطْلقاً. وهذا مَعَ صحَّةِ الترجمةِ فكيفَ مَعَ الخطأ في الترجمةِ. فإنَّ (كزرتو) لَيْسَ بمعنى (عاهر)، وإنَّمَا أعزب… فإذا أرَادوا التسامحَ مَعَ الموصوفِ بالكبتِ الجنسيِّ قالوا (كزرتو)، وليس المقصودُ الذَّمُ لأنَّهُ لا يعني العهر، بَلْ يعني المحرومَ من الجِنْسِ!!.
ومشكلةُ هؤلاء هي أنَّهُم يجهلونَ طبائِعَ وعاداتِ أهْلِ المنطقَةِ ومخارِجِ الأصواتِ عندهم، إذ المعلومُ أنَّ مضغَ الحروفِ هو من عاداتِ ألسُنِ الأعاجِمِ والأوربيينَ خصوصاً، بَيْنَمَا هو عَيْبٌ جسيمٌ عِنْدَ العَرَبِ وأهْلِ المَشْرِقِ.
قَالَ أبو الطيب:
أفدي ظباءَ فلاةٍ ما عَرَفْن بِهَا

مَضْغَ الكلامِ ولا صُبْغَ الحواجيبِ

وهذا عدا جهلهم بتعدُّدِ مواردِ إطلاقِ اللفظِ والكناياتِ المستخدَمَةِ عِنْدَ أَهْلِ المَشْرِقِ، ولو سَارَ المرءُ عَلَى هذِهِ الطَّريقَةِ لأَصْبَحَ من النادِرِ خلوَّ جملةٍ من الإشارَةِ الجنسيَّةِ حَسَبَ هذا المُدَّعَى!!.
فإنَّ هناك تطابقَاً وليس تشابهاً بَيْنَ الكثيرِ من المفرداتِ مثل: (الفَرَجُ والفَرَجُ! والعُورَةَ: الخطأ ـ والعورة: الثغرة، والعورة:الجهاز التناسلي، والجماع: الكُلّ ـ والجماع:الفعل الجنسي، والجمعة: يوم في الأسبوع، والجامعة: مكان العلم، والجمعية: مثل النقابة، والجامع: موضع العبادة).
وأمَّا تَغَيُّرُ حَرْفٍ وحرفينِ فأمثِلَتُهُ بالمئات في كلِّ اللغات وليس قَصْرَا عَلَى العرَبِ والمشْرِقِ. ففي العربية مثل: (مهبول: مجنون، ومهبل: مدخل الرحم, والذكر: عكس الأنثى، والذكر: العضو الذكري، والذِكر بالكسر من التذكُّر والحَقِّ أو الهداية) وغيرها بالعشراتِ، وألاَّ كيف يكونُ المعجمُ الإنكليزيُّ مُرتَبَاً؟ أليس مرتَّبَاً عَلَى الحروف؟. وهناك عشراتُ المفرداتِ المتَّفِقَةِ في الأصواتِ أمَّا بنفس الترتيبِ أو بالمقلوبِ، فَهَلْ يُقَالُ أنَّ هذِهِ كلَّها مرموزاتٌ لبعضِهَا البعضِ أمْ أنَّ الباحثينَ في الحضاراتِ القديمَةِ لا شأنَ لهم باللغاتِ الحديثَةِ لفَهْمِ الدلالَةِ اللفظيَّةِ؟.
وفي كلِّ الأحوالِ فإنَّ هذِهِ الإشارَةَ من (جاكوبسن) ساقِطَةٌ عَن الاعتبارِ وليست لها أيَّةُ قيمَةٍ علميَّةٍ سواء عَدَلَ عَنْهَا كَمَا قَالَ (هايلد) أو لَمْ يَعْدِلْ.


ثانيا: ملاحظاتٌ حَوْلَ كِتَابِ (شخصيَّةُ ذي القرنين) لأبي الكلام آزاد

تَسَائلَ البَعْضُ عَن موقِفِنَا من الدَّعوى القائِلَةِ بأنَّ (ذا القرنين) هو المَلِكُ الفارسيُّ (كورش) والتي ظَهَرَتْ في كتابِ (شخصيَّةُ ذي القرنين) الذي أَلَّفَهُ وزيرُ المَعَارِفِ في الهِنْدِ (أبو الكلام آزاد)، وعن مَدَى صِحَّةِ ما وَرَدَ فيه من أَدلَّةٍ لإثباتِ وحْدَةِ الشخصيتينِ. وَقَدْ طُبِعَ هذا الكتابُ المُكَوَّنُ من مائةِ صفحةٍ في مكتبةِ البصري ـ بغداد بدونَ تاريخٍ.
أقولُ: إنَّ هذِهِ الأدلَّةَ لا تَثْبِتُ لا من الناحيَةِ التاريخيَّةِ ولا اللغويَّةِ ولا العِلْمِيَّةِ.
وهذه بعضُ الملاحَظاتِ حول هذا الكتابِ:
أولاً:
إنَّ الكتابَ يعتَمِدُ عَلَى رؤيا دانيال في الكبش وتفسير الوحي لهذه الرؤيا وقوله: (إنَّ الكبْشَ ذا القرنين يُمَثِّلُ اتِّحادَ المملكتينِ مادي وفارس…الخ). والوصفُ (ذا القرنين) هنا يعودُ إلى الكَبْشِ كَمَا هو واضِحٌ، أي في الرؤيا التي رآها دانيال، ولا علاقَةَ لَهُ بذي القرنين الذي هو لَقَبُ أَحَدِ الملوكِ. فالأحلامُ رموزٌ وَقَدْ يكونُ للرَّمزِ قرنان دونَ المرموزِ، وهذا أمْرٌ واضِحٌ.
ثانياً:
أنَّهُ يعتَمِدُ أيضاً عَلَى رؤيا أشعيا وكيفيَّةِ تفسيرِهَا. وهذا كُلُّهُ إذا صَحَّ إنَّمَا يصِحُّ بشأنِ اليهودِ الذين أنْقَذَهُم كورشُ من حُكْمِ بابلَ وفق هذِهِ الرؤيا، ولا توجَدُ أيَّةُ علاقَةٍ بَيْنَ كورش والشخصيَّةِ المسئولِ عَنْهَا في القرآنِ الكريمِ (ويسألونك عَن ذي القرنين) سوى أنَّ بعضَ الرواياتِ ذَكَرَتْ أنَّ السائلينَ هم من اليهودِ.
ولكنَّ هذا يُثْبِتُ خلافَ ما قَالَهُ المؤلِّفُ لأَنَّ اليهودَ يعلمونَ من هو كورش بشكْلٍ جيِّدٍ، وكورش نَفْسُهُ قَدْ سَمَعَ بالنبوءاتِ والرؤى وتَأثَّرَ بِهَا، ولذَلِكَ قَامَ بحمايَةِ اليهودِ وتجديدِ بناءِ الهيكَلِ. وَقَدْ لُقِّبَ كورش بذي القرنين فعلاً شأنه في ذلكَ شأنُ كلِّ الذين تلقَّبوا بهذا اللقَبِ مِثلِ الاسكندر وهرقل وغيرهما.
إذن.. فالمقصود من سؤالِ اليهود: (من هو ذو القرنين الذي لا يفتَأُ الملوكُ يتلقَّبونَ بلقْبِهِ دوما؟) فإنَّ التراثَ الشعبيَّ الروائيَّ يَذْكِرُ الكثيرَ عَن شخصيَّةٍ أسطوريَّةٍ أقدَمُ عَهْدَاً هو صاحبُ اللَّقبِ الأصليِّ. وإنَّما يسألونَ عَن هذا الشخصِ وأفعالِهِ، فَذَكَرَ لهم القرآنُ أعمالاً لا يَقْدِرُ عليها الملوكُ، لأنَّهُ نَسَبَ التمكينَ للهِ تعالى فقَالَ:
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً) (الكهف: 84ـ85)
وهذه الإمكاناتُ لا تنطبِقُ إلاَّ عَلَى جلجامشَ.
ثالثاً:
إَّن تفسيرَهُ للرَّحلاتِ مُخَالِفٌ لأبْسَطِ قواعِدِ الفَهْمِ اللغويِّ للنصِّ!. فَهْوَ يَزْعَمُ بشأنِ قولِهِ تعالى:
(وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) (الكهف: من الآية86)
أنَّ كورشَ وخلال حملاتِهِ العسكريَّةِ وَقَفَ عَلَى بُحَيرَةٍ ولاحَظَ غروبَ الشَّمْسِ منعكِسَاً عَلَى ماءِ البُحيرَةِ، ولذَلِكَ قَالَ الله عَنْهُ هذا الكلامَ، والمعنى (كأنَّهَا) تَغْرِبُ وليسَتْ تَغرِبُ فعلاً!!.
والغريبُ في هذا الشَّرْحِ أنَّهُ لَمْ ينتَبِهْ إلى أنَّ كلَّ الملوكِ الغازينَ للأراضي المجاورَةِ يُحْتَمَلُ منهم أنْ يَقِفُوا مِثْلَ هذا الموقِفِ الذي لَيْسَ فيه قيمَةٌ علميَّةٌ أو خبريَّةٌ حتَّى يَذْكُرَهُ القرآنُ!. علاوةً عَلَى أنَّهُ أضافَ مفردَةَ (كأنَّهَا) من عِنْدِهِ لإخراجِ دلالةِ النصِّ عَن حقيقَتِهِ وَفَعَلَ الشيءَ نَفْسَهُ عِنْدَ طلوعِ الشَّمْسِ، فَزَعَمَ أنَّهَا لا تَطْلَعُ وإنَّما وَقَفَ المَلِكُ أيضاً من الجِهَةِ الأخرى حينَمَا هَجَمَ عَلَى بلادِ ما وراءَ النَّهْرِ عَلَى بُحيرةٍ!!.
أقول: إنَّ النصَّ واضِحٌ جداً. فالشَّمْسُ هي التي تَغْرِبُ وتَطْلَعُ فعلاً وأنَّهُ رآها خِلافَ ما يَرَاهَا النَّاسُ، والفِكْرَةُ هي:
إنَّ الطلوعَ والمَغيبَ مُرْتَبِطان بالأُفُقِ فَقَطْ. فَهْوَ الحَدُّ الفاصِلُ والخَطُّ الذي مِنء خلالِهِ نَتَحَدَّثُ عَن مَطْلعِ ومغرِبِ الشَّمْسِ، ويستحيلُ عَلَى المرءِ رؤيَةِ الشَّمْسِ بطلوعٍ مُعايَنٍ أو غروبٍ مُعايَنٍ بصورَتِهِ الحقيقيَّةِ إلاَّ بالخروجِ عَنْ حدودِ الأُفُقِ ولا يَحْدِثُ هذا إلاَّ بالسَّفَرِ الفضائيِّ.
رابعاً:
الاعتمادُ عَلَى سيرَةِ كورش في المناطقِ المحتلَّةِ حَيْثُ بَسَطَ العَدْلَ وأَمَرَ بالإصلاحِ لإثباتِ كونِهِ من المؤمنين باللهِ. وهذا وَحْدُهُ لا يكفي للإثباتِ. فإنَّ كافَّةَ الملوكِ القُدامى يبسطونَ العَدْلَ ويأمرونَ بالإصلاحِ في المناطقِ التي غَزَوها. وَهْوَ ما فَعَلَهُ الإسكندرُ في المنطقَةِ حَيْثُ عَيَّنَ من أهلِهَا ولاةَ أَمْرٍ عليها، وحَمَلَهُم عَلَى العَدْلِ والأنصافِ وحاولَ جاهداً إصلاحَ شؤونِ المجتمعِ.
لَقَدْ كانَتْ تِلْكَ سياسَةُ كلِّ المُحتلِّينَ بلا استثناءٍ، وليستْ مقصورَةً عَلَى كورشَ وحْدِهِ, واستمرَّتْ هذِهِ السياسَةُ في الحَمَلاتِ الحديثَةِ لأوربا وألاَّ كيفَ سَمُّوها بالاستعمارِ؟.
فإنَّهُ لفظٌ مُشتقٌ من الإعمارِ، وَهْوَ عَمَلٌ إصلاحيٌّ. ولكنَّ هذِهِ مُجرَّدُ سياسَةٍ. فإنَّ المناطقَ المحتلَّةَ ومن تجارِبٍ كثيرةٍ قديمَةٍ جداً تخْلَعُ طاعتَهَا عَن المحتلِّ وتحاولُ الاستقلالَ بأقرَبِ فرصَةٍ. وكانَتْ طريقَتُهُم الوحيدَةُ هي إرضاءُ الأهالي بالإصلاحاتِ حتَّى لا يفكِّروا بالانفصالِ، إذ لا يُعْقَلُ، بَلْ لا يمكنُ أنْ يملئوا الأرْضَ عساكِرَ عَلَى أُهبَةِ الاستعدادِ دوماً.
إذن.. فهذا الأمْرُ لَيْسَ مقصوراً عَلَى كورشَ. ومن جهة ٍأخرى فإنَّ إحسانَهُ إلى اليهودَ قَدْ لا يكونُ بسَبَبِ أيمانِهِ بكتابِ موسى (ع) ودخوله الإسلام! فإنَّه فَعَلَ ذَلِكَ بَعدَ إنْ ذكروا لَهُ رؤيا دانيال وأشعيا!. وهذا أَمْرٌ تكرَّرَ مَعَ الملوكِ حتَّى أنَّ بعضَ الحُكَماءِ أنقذوا شعوبَهُم من سطوَةِ المحتلِّ باللينِ والطاعَةِ والادِّعَاءِ بأنَّهُم كانوا ينتظرونَهُ عَلَى أحَرِّ من الجَمْرِ لأَنَّ كُتُبَهُم أنبأتْ بِهِ!. والطغاةُ دوماً مرعوبون من شيءٍ ومن لا شيءٍ. فإذا سَمَعوا شيئاً من النبوءاتِ يؤكِّدُ استمرارَ مُلْكِهِم كانَ ذَلِكَ عندهُم من أحسنِ الأخبارِ والآتي بِهِ من خيارِ الخَلْقِ!، وهُمْ يحاولونَ تصديقَهُ ولو كانَ ما جاءَ بِهِ هو مجرّدَ قصَّةٍ لا أساسَ لها من الصحَّةِ. وإنَّ أشرافَ النَّاسِ يفعلون ذَلِكَ دوماً مَعَ المحتلِّ حينَمَا لا يجدونَ القوَّةَ القادرَةَ عَلَى الدَّفعِ. ويعلمونَ أنَّهُم في كلِّ الأحوالِ سيطيعونَ المحتلَّ كُرهاً أو طوعاً فيحاولونَ جاهدينَ إرضاءَهُ بشتَّى السُّبلِ حتَّى يترِكَ لَهُم الأسرى ويتوَقَّفَ عَن القَتْلِ.
وَقَدْ وَجَدْتُ في بعضِ الكُتُبِ أنَّ أحَدَ علماءِ الدِّينِ الكِبارِ في بغدادَ أنقَذَ أهاليَ الكرْخَ بعدما تفشَّى قَتْلُ النَّاسِ عَلَى يَدِ هولاكو في رصافَةِ بغدادَ حَيْثُ التقى بالمَلِكِ وأخبرَهُ أنَّ الكُتُبَ التي عندَهُ أخبرَتْهُ بقدومِهِ وأنَّهُ موصوفٌ بحُسْنِ السيرَةِ والعَدْلِ، فأمَرَ هولاكو قطعاتِهِ العسكريَّةَ بالكفِّ عَن النَّاس وسُرَّ سروراً كبيراً بهذا الخَبَرِ!!.
خامساً:
إنَّ الكاتِبَ لَمْ يتمكَّنْ من تفسيرِ قصَّةِ يأجوج ومأجوج وبناءِ السَّد. فَقَدْ ادَّعَى أنَّ هؤلاءِ الأقوامَ هُم سكَّانُ مناطِقَ موسكو وبلادِ ما وراءَ النَّهْرِ، لأَنَّ التوراةَ ذَكَرَتْ منطقَةَ (مسك) أرضاَ لمَلِكِ جوج. والنصُّ عَلَى لسانِ (حزقيل) في زمانِ أسرِ اليهود في بابل وَهْوَ: (وصَلَني كلامُ الرَّبِّ قائلا: يا بن آدم ولِّ وجهَكَ شطرَ جوج الذي هو رئيسُ أرضِ مأجوج ومشك وتوبال) ـ حزقيال 38\39. فاللَّفْظُ هو (مشك وتوبال) وليس (مسك). وفي النسخةِ الأصليَّةِ من الإصحاح 38\1: (أرض مأجوج رئيس روش ما شك وتوبال) ص 1327 ـ ط دار الكتاب المقدس.
والكاتِبُ لَمْ ينتبِهْ إلى هذِهِ التنبؤاتِ، فإنَّ هذِهِ الأسماءَ مكرَّرَةٌ في الإصحاحِ، وهي متَّفقَةٌ مَعَ كافَّةِ النبوءاتِ الأخرى في حزقيال. وهي تتَحَدَّثُ عَن الوَعْدِ الإلهيِّ ونزولِ يأجوجَ ومأجوجَ ثُمَّ إحراقهم بالنَّارِ سبعَ سنينٍ، وهذا يَحْدِثُ حَسَبَ القرآنِ والمأثورِ الإسلاميِّ عِنْدَ نزولِ المسيحِ (ع) والذي لَمْ يَقَعْ بَعْدُ، وليس كَمَا ادَعَاهُ أنَّهُ وَقَعَ عَلَى يَدِ كورش في الدانوب حَيْثُ تَرَكَ جُثَثَهُم في العراء. ـ ص80.
والدليلُ عَلَى ذَلِكَ اختلافُ الموضِعِ. فأينَ الدانوبُ من فلسطينَ؟. فإنَّ النصَّ التوراتيَّ يَذْكِرُ الموضِعَ في الإصحاحِ اللاحِقِ وَهْوَ الإصحاحُ 39 ـ الفقرة 12 حَيْثُ يَقولُ: ( ويكونُ في ذَلِكَ اليوم أنِّي أُعطي جوجاً موضعاً هناك للقَبْرِ في إسرائيل ووادي عباريم بشرقي البحر فَيَسَدُّ نَفْسَ العابرين وهناك يدفنون جوجاً وجمهورُهُ كلُّهُ ويسمُّونَهُ وادي جمهور جوج ويقبرهم بيت إسرائيل ليطهروا الأرْضَ سبعةَ أشهرٍ) حزقيال/39 ـ 12.
وهذا مُتَّفِقٌ مَعَ النصِّ القرآنيِّ وتفسيرِ الأصحابِ تماماً، فإنَّ نزولَهُم سيكونُ عِنْدَ بحيرةِ طبرية ويهلكُهُم المسيحُ (ع) بشعاعٍ من (نورٍ)، والمُعتقَدُ المعاصِرُ للواقِعَةِ أنَّهُ غَزْوٌ فضائيٌّ لقوله تعالى:
(حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ)
(الأنبياء:96ـ97)
وَذَكَرَ الإصحاحُ قُبيلَ هذا بالضبطِ انتهاءَ كافَّةِ الحروبِ بَعْدَ هذِهِ الواقِعَةِ حيثُ قَالَ: (هو هذا اليومُ الذي تكلَّمْتُ عَنْهُ يخرِجُ سكَّانُ مُدُنِ إسرائيلَ ويشعلونَ ويحرقونَ السِّلاحَ والمجانَ والأتراسَ والقسي والسهامَ والحراب َوالرماحَ ويوقدون بِهَا النَّارَ سَبْعَ سنين).
والاتِّفاقُ في هذا النصِّ مَعَ النصِّ الإسلاميِّ واضِحٌ فإنَّ قوله تعالى: (حتى تضع الأرض أوزارها) في النصِّ الآية:
(فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:4)
رُوِيَ عَن الباقر (ع): (لا تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا حتَّى يَخْرُجُ السفيانيُّ). والمعلومُ أنَّ خروجَهُ مُقْتَرِنٌ مَعَ نزولِ المسيحِ (ع) وظهورِ المهدي (عج) وغزوِ يأجوجَ ومأجوجَ، ولذَلِكَ ينتهي دَورُ السِّلاحِ.
فَلَمْ يَحْدِثْ أنْ هَلَكَ شعْبٌ بكامِلِهِ في أرْضِ فلسطينَ ولا علاقَةَ للملِكِ كورش بنبوءاتِ حزقيال التي يَتَحَدَّثُ فيها عَن الوَعْدِ الإلهيِّ في آخرِ الزَّمانِ.
إذ كَيْفَ تَصْدُقُ النبوءةُ في جهَةٍ واحِدَةٍ دونَ سائِرِ القضايا الأخرى؟. فإنَّ إسرائيلَ بَعْدَ الحَدَثِ يَجِبُ أنْ لا تكونَ لديها أسلِحَةٌ وُفْقَ هذِهِ النبوءَةِ بَيْنَمَا واقِعُ الحالِ أنَّهَا أكْثَرُ دولِ العالَمِ جنوناً بالتَّسَلُّحِ.
أمَّا أنْ يكونَ تفسيرَ اليهودِ للتوراةِ بخلافِ هذا.. فإنَّ هذا لَيْسَ بجديدٍ، إذ يقومونَ دوماً بتحريفِ المعاني وتفسيرِ النصوصِ بما يلائِمُ أغراضَهُم.. عَلَى أنَّ إنهاءِ دَورِ السِّلاحِ لا يَحْدِثُ عِنْدَهُم طوعاً كَمَا تَحْسَبُ، بَلْ النصُّ الإسلاميُّ يَقولُ أنَّهُم يُرغَمُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَهْوَ واضح من خلالِ قراءتِكَ كامِلَ نبوءَةِ حزقيال.
سادساً:
إنَّ الكاتِبَ لَمْ يوفِّقْ مطلقاً في تفسيرِ بناءِ السَّدِّ.. فعلاوةً عَلَى تجاهُلِهِ كافَّةِ النصوصِ التي تُفَسِّرُ النصَّ القرآنيَّ من المروياتِ فَقَدْ أعتَمَدَ عَلَى أقْوالِ (أبي الريان) فَقَطْ، وتجاهَلَ ألفاظَ القصَّةِ القرآنيَّةِ وطبيعَةَ يأجوج ومأجوج، ورَاحَ يَبْحَثُ عَن تحديدِ موضِعِ السَّدِّ بَيْنَ جبالِ إيرانَ وأرمينيا والقوقاز. بَيْنَمَا النصُّ القرآنيُّ لا يذْكِرُ الجبالَ، وإنَّمَا يَذْكِرُ أنَّهُ (سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) (الكهف: من الآية96). ولا يَذْكِرُ أنَّ الَّسَّد من حَجَرٍ أصلاً، بَلْ من حَديدٍ محروقٍ ونحاسٍ مصهورٍ. ولكنَّ الكاتِبَ أفترَضَ أنَّهُ جِدَارُ (دربند)، وَلَمَّا وَجَدَهُ من حَجَرٍ فَقَطْ تَرَكَ هذا الفَرْضَ إلى جِدارِ (قوقاز) والمُكوَّنِ من حَجَرٍ مَعَ أعْمِدَةٍ حديديَّةٍ.
وهذا أيضاً خِلافُ النصِّ القرآنيِّ، إذ لَيْسَ فيه حَجَرٌ وفقَ النصِّ. وعدا ذَلِكَ ادَّعَى أنَّ عبارَةَ (بَيْنَ السَّدَّينِ) القرآنيَّةِ هي أسمُ منطقَةٍ للتخلُّصِ من التثنيَةِ في الاسْمِ.
عَلَى أنَّ سَدَّ (داريال) أو القوقاز لو صَحَّ فإنه لَمْ يترِكْ تِلْكَ الشعوبَ تموجُ بعضُهَا في بعضٍ كَمَا نَصَّ القرآنُ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ بِناءِ السَّدِّ:
(وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً)
(الكهف:99)
وهي آيَةٌ لَمْ يأتِ بِهَا مِثْلَمَا لَمْ يأتِ بأيِّ وَصْفِ للقومِ من المأثورِ النبويِّ، لأنَّهُ لا يَتَّفِقُ مَعَ وَصْفِ النَّاس عَلَى الأرْضِ و لا يَخْدُمُ فرضيَّةَ آزاد.
وبِصِفَةٍ عامَّةٍ فإنَّ التوفيقَ بَيْنَ حَمَلاتِ كورش ورحلات ذي القرنين في القرآنِ هي محاوَلَةٌ فاشلَةٌ عَلَى كافَّةِ المستوياتِ، حالُهَا حَالَ أيَّةِ محاولَةٍ لتفسيرِ قصَّةِ ذي القرنين عَلَى مستوى الأرْضِ.. والمُتَّفِقُ مَعَ هذِهِ القصَّةِ لَفْظَاً و دلالَةً من كُلِّ التاريخِ هو ملحمَةُ جلجامشَ كَمَا رَأيْتَ. فَقَدْ تَضَمَّنَتْ كافَّةَ التفاصيلِ المذكورَةِ في المرويِّاتِ إضافَةً إلى أكْثَرِ ما ندركُهُ من النصِّ القرآنيِّ بشرْطِ أنْ نَلْتَزِمَ بقراءَةٍ قصديَّةٍ للنصوصِ وأنْ نَتْرِكَ الطرائِقَ الاعتباطيَّةَ في التفسيرِ من تقديرٍ وحذفٍ ومجازٍ.


المصادِرُ الإضافيةُ الخاصّةِ بهذا المُلْحَقِ
:
(1) (2) (3) (2) الثقافة العالمية؟ع.45/1989 ص10,11,13-16.



العضو العزيز...شكر صاحب الموضوع للجهد الذي يقوم به لخدمة اهل العلم يشجعه لإعطاء عطاء أكبر . ضع رد لرؤية الرابط..
من مقال جورج- ف. هايلد: سمات متشابهة بَيْنَ ملحمة كلكامش ومأدبة أفلاطون.

العضو العزيز...شكر صاحب الموضوع للجهد الذي يقوم به لخدمة اهل العلم يشجعه لإعطاء عطاء أكبر . ضع رد لرؤية الرابط..
نفس المصدر أعلاه.


مواقع النشر (المفضلة)
ملحمة جلجامش والنّص القرآني

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
الانتقال السريع
المواضيع المتشابهه
الموضوع
استنزال لنجمة بنت ملك احمر واعوانها
بخور للجلب وتيسير الأمور
للجلب والارسال
ملحمة جلجامش
للجلب والدفع

الساعة الآن 02:06 PM.