المشاركات الجديدة
تواريخ وحوادث : لتكوين قاعدة بيانات بتواريخ الاحداث والمواليد

الكيمياء عند العرب

Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
افتراضي الكيمياء عند العرب
الكيمياء عند العرب
تأليف
روحي الخالدي


العضو العزيز...شكر صاحب الموضوع للجهد الذي يقوم به لخدمة اهل العلم يشجعه لإعطاء عطاء أكبر . ضع رد لرؤية الرابط..



علم جابر
تمهيد
ِّ الأمة الحية التي تحس بكيانها وتشعر بوجودها هي التي تعنى بعلمائها، وتقدر أعاظم
رجالها حق قدرهم. فإن الأمة لا تستحكم في ربوعها الحضارة والعمران، ولا تكمل لها
الدولة والسلطان، إلا بعناية أولئك الرجال الذين حبسوا أنفسهم على خدمة العلم، وتفانوا
َّ في كشف الحقيقة، وتجش ِّ موا في البحث عنها املتاعب والأخطار، وقطعوا في تحريها الأمصار
والبحار، وبذلوا دونها النفس والنفيس، وأذهبوا أعمارهم في التدبري والتفكري والتجارب
والتحرير، كل ذلك للوقوف على غوامض أسرارها واجتناء يانع ثمارها.
إذا صح ما قيل إن العلم له غايتان: إحداهما عقلية، وهي التحري عن الحقيقة
ِه هذا العالم، ومعرفة سر هذا الوجود، ونظام هذا الكون،
ُ لذاتها، ومحاولة الوصول إلى كنْ
والأخرى إنسانية، وهي خري البشر، واستحكام الحضارة — فما أجدرنا أن نحاول في هذا
البحث معرفة ما وصل إليه العرب في إدراك هاتني الغايتني، وما كان لهم من أثر حقيقي
في خدمة العلم، وكشف الحقائق، للوصول بالبشر إلى درجة الكمال، والسري بهم في معارج
السعادة.
قال ويلز الكاتب الإنجليزي املشهور في كتابه «تجربة في التاريخ العام»: «إنه في
القرون التي سبقت ظهور محمد، كان الفكر العربي أشبه بالنار تحت الرماد، فلما
انكشف عنه الرماد بالفتح الإسلامي، ملع ملعانًا لم يعهد أن فاقه فيه إلا الفكر اليوناني.
ً وهذا في أسنى أدواره. فجاء الفكر العربي بشكل جديد، وبقوة جديدة، وعالج علاجا
شريفً ا. تنمية العلوم الصحيحة نظري ما عالج اليونانيون. ولقد كان اليوناني أبًا للعلم،
فجاء العربي وحل محله في هذه الأبوة. وكانت طريقة العربي هي أن ينشد الحقيقة بكل استقامة وبكل بساطة، وأن يجليها بكل وضوح وبكل تدقيق، غري تارك منها شيئً
في ظل الإبهام. فهذه الخاصة التي جاءتنا — نحن الأوروبيني — من اليونانيني، وهي
نشدان النور، إنما جاءتنا عن طريق العرب، ولم تسقط إلى أهل العصر الحاضر من طريق
اللاتني.»
وقال درابر: «ومن عادة العرب أن يراقبوا، ويمتحنوا، وقد حسبوا الهندسة والعلوم
الرياضية وسائط للقياس. ومما تجدر ملاحظته أنهم لم يستندوا — فيما كتبوه
في امليكانيكيات والسائلات والبصريات — على مجرد النظر، بل اعتمدوا على املراقبة
والامتحان، بما كان لديهم من الآلات، وذلك ما هيأ لهم سبيل ابتداع الكيمياء وقادهم
لاختراع أدوات التصفية والتبخري ورفع الأثقال، ودعاهم إلى استعمال الريع والإصطرلاب
في علم الهيئة، واستخدام املوازنة في الكيمياء، مما خصوا به دون سواهم ... وهم الذين
أنشئوا في العلوم العملية علم الكيمياء، وكشفوا بعض أجزائها املهمة، كحامض الكبريتيك
وحامض الفضة (النتريك) والكئول، وهم الذين استخدموا ذلك العلم في املعالجات الطبية،
فكانوا أول من نشر تركيب الأدوية واملستحضرات املعدنية.» وملا كان البحث في أثر العرب
في نواحي العلم املختلفة، يستوعب مجلدات ضخمة، ويحتاج إلى زمن طويل للتدقيق
والتمحيص، رأينا أن نقصر بحثنا هذا، على ما قاموا به من التجارب في علم الكيمياء، التي
لولاها ملا وصل إلى ما هو عليه في هذا العصر من الرقي.
وجاء في التاريخ العام: «وكان الرازي وجابر أول من وضعا أساس الكيمياء
الحديثة، وحاولا كشف الإكسري الذي يهب الحياة، ويعيد الشباب. وكانا يذهبان إلى
ِّ معرفة حجر الفلاسفة الذي يحول املعادن إلى الذهب. ولم تذهب هذه الأبحاث الوهمية
سدى؛ لأنهم عرفوا بها التقطري والتصعيد والتجميد والحل، وكشفوا الكئول من املواد
السكرية والنشوية الخاثرة.»
وضع جابر والرازي وابن سينا ومسلمة والكندي وعشرات غريهم من العلماء أصول
الكيمياء الحديثة، وساعدهم على ذلك روجر باكون، والبابا سلفستر الثاني، وألبري الكبري،
وجمهرة كبرية من علماء أوروبا في القرون الوسطى. وظل الأمر كذلك حتى جاء لافوازيه،
َّ فصحح مذهب املتقدمني من الكيميائيني، املؤسس على وجود العناصر الأربعة، ووضع
في هذا العلم القواعد الصحيحة، والنظريات املبرهنة، فأوجد بذلك علم الكيمياء الحديث.
قال هذا العالم الفرنسي الشهري: «موضوع علم الكيمياء هو تحليل الجسم بالعمليات
الكيميائية إلى العناصر التي يتألف منها، ثم فحص كل عنصر من تلك العناصر على حدته. فغاية علم الكيمياء، هي تجزئة الأجسام. ولا يزال هذا العلم يسري إلى هذه الغاية
حتى يبلغ درجة الكمال بتجزئة الأجسام املختلفة، التي في الطبيعة، ثم بتجزئة تلك الأجزاء
ٍّ ا وهلم جرا ... فالكيمياء هي علم التحليل.»
ثانيًا وثالثً
ً وقال برتلو: «الكيمياء تكون موضوعها، وهذه الخاصة املكونة تميز هذا العلم تمييزا
ذاتيٍّا عن العلوم الطبيعية والتاريخية؛ لأن موضوع كل من العلمني الأخريين سابق عليهما،
وخارج عن إرادة العالم بهما وعن عمله. فالكيمياء تخلق موضوعها، ولها قدرة على إعادة
ما هدمته وإحياء ما أماتته. فالكيمياء هي علم التحليل والتركيب، وهذا التركيب يعم
العناصر واملركبات، وليس له حد محدود.»
وقال جريار: «إن الكيميائي يعمل بعكس ما تعمل الطبيعة الحية؛ لأن الكيميائي
يحرق الأجسام، ويهدم تركيبها، ويجري جميع أعماله فيها بالتحليل. بيد أن الطبيعة
الحية، أو القوة الحيوية، تجرى أعمالها بالتركيب، فهي تعيد بناء الهياكل التي هدمتها
القوى الكيميائية.»
َّ وقد خالف رجال الكيمياء الحديثة هذا القول، وكونوا من الأجسام ما في وسع
الطبيعة الحية والقوة الحيوية وحدهما تكوينه، وأعادوا بناء الهياكل التي هدمتها القوى
الكيميائية. حكموا على املادة، وزادوا في املوجود، وجرت من أعماق أخيلتهم عوالم جديدة،
وبرهنوا على أن املادة املعدنية واملادة العضوية تابعتان لقاعدة واحدة، ووضعوا النظريات
التي يقوم عليها ذلك البحر الزاخر من الاختراعات والاكتشافات التي أوجدها لنا علم
الكيمياء الحديث.
ً فالعلم الذي كان أساسا ملا نراه في هذا العصر، من الأدوية واملركبات واملواد الكيميائية
ً الحديثة — عضوية كانت أم غري عضوية — لم يكن علما مبنيٍّا على الأوهام والأباطيل.
وبالرغم من وجود بعض الدجالني واملشعوذين، الذين لا يخلو منهم مكان أو زمان، فقد
كانت للكيمياء الإسلامية نظريات صحيحة وقواعد ثابتة. وقد نعجب في بعض الأحيان
ملا نجده في كتبهم من التصورات والآراء، التي كنا نظنها عصرية، فإذا بهم قد سبقوا
إليها، وذلك كمذهب النشوء والارتقاء في الكائنات العضوية. فقد كان هذا املذهب يعلَّم
في مدارسهم، وكانوا يذهبون فيه إلى أبعد مما نذهب اليوم، بإطلاقه على الجواهر غري
العضوية. وكان مبدأ الكيمياء الأساسي عندهم هو التركيب التدريجي في الأجسام املعدنية.
قال الخازن: «إن الجهلة حينما يسمعون بتحول بعض الأجسام بطريق التكامل إلى ذهب،
ً يفهمون أنه مر بصور الأجسام املعدنية الأخرى؛ أي إنه كان رصاص ً ا، ثم صار قصديرا،

ثم صار من نوع سكب الرمل ثم فضة إلى أن انتهى ذهبًا. ولا يدركون أن الفلاسفة
ً يريدون بما يقولونه الإنسان أيضا.»
فإذا كان الأمر كذلك فإلى أي مدى وصل العرب في وضع قواعد هذا العلم؟ ذلك ما
نحاول الإجابة عنه في هذا البحث.
علم جابر
علم جابر هو الكيمياء، خصها علماؤنا املتقدمون بجابر بن حيان الصوفي؛ لأنه إمام
املدونني فيها، فاخترنا هذا الاسم لإطلاقه على الكيمياء القديمة؛ لأن علماء الإفرنج في
ِّ عصرنا، يفرقون بني الكيمياء املعرفة بأل التعريف العربية، وبني كيمياء بغري أداة
التعريف، فيقولون: الكيمياء Alchemy وكيمياء Chemistry .ويطلقون الاسم الأول
على علم الكيمياء القديم، املنقول عن جابر واملتداول بني الناس في القرون الوسطى،
ويطلقون الاسم الثاني على علم الكيمياء الحديث، الذي هذبه وأحكم قواعده العلامة
الفرنسي لافوازيه، (١٧٤٣–١٧٩٤ (في النصف الأخري من القرن الثامن عشر للميلاد.
كان الجمهور من علماء الإفرنج، يذهب قبل اليوم إلى أن علم جابر — أي الكيمياء
القديمة — من الأباطيل التي دانت لها علماء الإسلام والنصارى في القرون الوسطى،
ً حتى خيلت للمسلمني منهم استحضار «الإكسري» الذي يسمونه أيضا «الحجر الكريم»،
أو «الحجر املكرم»، «الحجر الأصفر»، ويزعمون بأنه تراب أو ماء، إذا رش أو صب
َّ منه على املادة القابلة للاستحالة، صريها ذهبًا أو فضة. ووسوست للمسيحيني الذين
ً أخذوا الكيمياء عن املسلمني بأن في «الإكسري» الذي سموه أيضا «حجر الفلاسفة» منافع
أخرى، كخاصة الدواء الشافي لكل داء، واملاء الذي فيه الحياة وطول العمر، وغري ذلك
من الخواص الكاذبة، التي أوهمت علماء الإفرنج بأن الكيمياء القديمة حديث خرافة من
خرافات القرون الوسطى. غري أن كثريًا من علماء هذا العصر، دحضوا آراء القائلني ببطلان
الكيمياء القديمة، ومهدوا السبل للسالكني طريقة جابر، باكتشافهم التركيب الكيميائي،
واصطناعهم املركبات العضوية، مما كانت الطبيعة متفردة بتكوينه قبل اليوم. وأثبتوا
بأن علم الكيمياء الحديث والاكتشافات التي اكتشفت فيه لغاية هذا العصر لم يهدما
أساس الكيمياء القديمة، املبنية على حقائق فلسفية، يقبلها العقل، ويؤيدها البرهان،
وأفسدوا الاعتقاد ببطلان علم جابر. ￾ي ك￾￾ل ج￾￾ي￾￾ل أب￾￾اط￾￾ي￾￾ل ي￾￾دان ب￾￾ه￾ ً ￾ا ف￾￾ه￾￾ل ت￾￾ف￾￾رد ي￾￾وم￾￾ا ب￾￾ال￾￾ه￾￾دى ج￾￾ي￾￾ل؟
فالكيمياء لغة مثل السيمياء — اسم صنعة — وهو عربي كما ذكر في مختار
الصحاح، من كمي بمعنى استتر. ووجه التسمية ظاهر؛ لأن الكيمياء القديمة من
الصناعات السرية املستترة، وكان منتحلو هذه الصناعة يراعون فيها قاعدة الستر
والإخفاء. أما علماء الإفرنج فلم يتفقوا على أصل كلمة كيمياء Alchemy ،فقد جاء في
معجم لاروس الفرنساوي أن كيمياء لفظ يوناني مشتق من كيموس بمعنى العصارة.
وقال بعضهم: إنه مشتق من اللاتينية، وجميعهم متفقون على أن أل املوجودة في كلمة
الكيمياء هي أل التعريف العربية. هذا معنى الكيمياء في اللغة. وأما في اصطلاح جابر
وشيعته، فهي علم يبحث فيه عن املادة، التي يتم بها كون الذهب والفضة بالصناعة. فهذه
املادة يسمونها الإكسري، ويزعمون أنه يلقى منها على الجسم املعدني مثل الرصاص
والقصدير والنحاس بعد أن يحمى بالنار، فيعود ذهبً ً ا إبريز َّ ا، ويدعون بأن الإكسري
موجود بالقوة في جميع الأجسام، سواء أكانت معدنية أم نباتية أم حيوانية. غري أنه
يسهل استخراجه بالفعل من بعضها فقط، وفي الغالب من الجسم الحيواني؛ ولذلك نراهم
يفحصون جميع املكونات من املعادن والنباتات والفضلات الحيوانية كالريش والعظام
والبيض والدم وغريها، ويعينون خواص جميع ذلك وأمزجتها وقواها، لعلهم يعثرون
فيها على الإكسري. أما الأعمال التي يجرونها في فحص املكونات وتعيني خواصها، فهي
كثرية، منها حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية، بالتصعيد أو التقطري، وتجميد الذائب
منها بالتكليس، وتركيب الأجسام بالتزويج والتعفني. والتزويج باصطلاحهم، هو اختلاط
الجسم اللطيف بالغليظ، والتعفني هو التمشية والسحق، حتى يختلط بعض الأجسام
ً ا واحدا، لا اختلاف فيه ولا نقصان، بمنزلة الامتزاج باملاء، وهذا
ببعض، وتصري شيئً
هو املعبر عنه في الكيمياء الحديثة بالامتزاج الكيميائي، للتفريق بينه وبني الاختلاط
ً العادي، ومن تلك الأعمال أيضا الغسل والتنقية والتنشيف، وغري ذلك مما هو معروف.
ويستعينون على هذه الأعمال بآلات كثرية، أهمها الإناء والقرن والقارورة والقرعة والفرن
وغري ذلك.
فموضوع الكيمياء القديمة هو تحول املعادن، بل انقلاب جميع املواد املستعدة
لقبول التحول من نوعها إلى نوع آخر. وهذا هو الغرض الذي يجري وراءه اليوم علم
التركيب الكيميائي، الذي هو باب عظيم من أبواب الكيمياء الحديثة. وغاية الكيمياء القديمة تحويل املعادن الخسيسة املبتذلة — كالرصاص والقصدير والنحاس والحديد
والخارصني — إلى املعدنني الشريفني النادرين، وهما الذهب والفضة، فهذه الغاية هي
التي أطمعت الناس في هذا العلم من قديم الزمان، واستهوت الكثريين حتى استهلكوا في
طلبها.
اختلفوا فيمن وضع علم جابر، وفي الزمان الذي وضع فيه. فزعم القدماء بأنه
صنعة إلهية وفرع من فروع العلوم الروحانية، وقالوا بأن هذا العلم هو باصطلاحهم
أحد العلوم امللهمة السرية — كالسيمياء والسحر والتنجيم والطلسمات — وجد في النوع
الإنساني منذ كان عمران الخليقة، وإن سندهم فيه يتصل إلى هرمس الأعظم الذي
يحسبونه كبري فراعنة مصر، أو أعلم علمائها، وينسبون إليه جميع العلوم والحكمة،
ويعتبرونه في مصاف الآلهة. غري أن علماء الآثار لم يقفوا في أبحاثهم وتحرياتهم على أثر
لهرمس هذا. وقيل: كان هرمس الأعظم في بابل، ولعل مرادهم به حينئذ إدريس عليه
السلام، حيث ورد بأنه من السريانيني أخوات الكلدانيني، وبأنه أول من أعطي النبوة
وخط بالقلم، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وغريهما من العلوم، وأول من فصل
الثياب وخاطها. وقال علماء العصر بأن هذا العلم لم يوضع إلا بعد القرن الثاني، بل
الثالث للميلاد، وأن واضعيه علماء الروم في بيزانس أي القسطنطينية، وإنما عزوها إلى
علماء مصر لأنها كانت بالنسبة إليهم ينبوع العلم ومهد الحضارة. واستدلوا على قولهم
هذا بتدقيق الرسائل القديمة املدونة في الكيمياء، وهي لم تزل محفوظة بالخط اليوناني
القديم في مكتبات أوروبا. ويظهر من ورقها وخطها اليوناني القديم وأسلوب إنشائها
بأنها من مؤلفات القرن السابع للميلاد، ومؤلفها وإن كان من علماء القسطنطينية، إلا
أنه عزاها إلى علماء مصر، وادعى باتصال سندها إلى هرمس الأعظم.
والذي يطمئن له القلب في تحقيق هذا البحث، أن الكيمياء على الإطلاق من
قديمة وحديثة، تشتمل على أمرين؛ أحدهما القواعد النظرية، والآخر الصناعات العملية،
فصناعة الكيمياء العملية وجدت في الأمم الخالية من قديم الزمان، ووجودها ملازم
لوجود العمران. وقد تولدت من صناعات مصر وبابل ومن اشتغال الأمم السالفة في
إذابة املعادن، وتخليطها واصطناع البلور وأحجار الفسيفساء وغريهما، وصبغ الأقمشة
وتلوينها؛ وقد ثبت في يومنا أن الصينيني صنعوا البارود والحبر والزجاج، وطلوا الفخار،
وأذابوا املعادن قبل امليلاد بقرون كثرية، وأن املصريني تقدموا في الصناعات العملية،
ْوَها،
فاستخرجوا شذور الذهب وأحجار الفضة، وغريهما من املعادن، وأذابوها، وصفوها وخلطوها بعضها ببعض، وكان فيهم الفر ِّ ان والزجاج واملصور والنقَّ اش والصبَّاغ.
وجميع هذه الصناعات من تطبيقات علم الكيمياء، ولا بد فيها من معرفة هذا العلم
ً معرفة عملية لا نظرية، وقد اشتهروا أيضا بصناعة تحنيط املوتى، التي هي من أدق
الصناعات وأعجبها، وبها حفظت الأجساد لهذا العهد، ولهذه الصناعة علاقة كبرية بعلم
الكيمياء.
وأما الأشوريون والفرس وأهل بابل من الكلدانيني، فإنهم خطوا خطوة كبرى في
العمران والحضارة، ولم يزل العلماء يبحثون في آثارهم، وينقبون في خرائب مدنهم،
ليعرفوا مبلغ ما وصلوا إليه من الرقي والتمدن. وكانت الصناعات متوفرة لديهم، كما
تقدمت كذلك لدى الفنيني الذين اشتهروا بعمل الزجاج وإذابة املعادن وصبغ الأقمشة،
ُّ حتى كان الداخل مدينة صور يشمئز من روائح مصابغها الكثرية، كما شاهد ذلك املؤرخ
ً اليوناني إسترابو، وحكاه في تاريخه في القرن الأول للميلاد. وكان لهذه الأمم أيضا عناية
تامة بالسحر والتنجيم وما يتبعها من العلوم السرية، كما أيدت ذلك الاكتشافات، ونطق
به القرآن املبني، في قصة هاروت وماروت ببابل، وشأن السحرة في مصر، وقصة نمرود
وفرعون مع إبراهيم وموسى عليهما السلام.
ً وتقدمت صناعة الكيمياء أيضا عند اليونان والرومان، فاستخرجوا معادن الذهب
والفضة والحديد والنحاس وغريها، وضربوا املسكوكات، ووقفوا على خواص كثري من
الأملاح املعدنية، فاستفادوا منها في صناعاتهم، وطبخوا الصابون، وشووا الزجاج والفخار
وطلوه. وما يشاهد في آثار بنيانهم من كلس الرخام وأنواع الطني دليل على وقوفهم على
كثري من أسرار هذه الصناعة.
والظاهر أن الاعتقاد بإمكان وجود الذهب الصناعي تولَّد من رؤية الحوادث
الأولية، التي حدثت في علم الكيمياء في أثناء اشتغال الأمم السالفة باملعادن؛ وذلك
أنهم ملا رأوا بالتجارب أن الأجسام تتكيف، وتستحيل بالتدبري واملعالجة — أي
بالعمليات الكيميائية — استولى على عقولهم الأمل باصطناع الذهب والفضة، وطمعوا في
السعادة، فظنوا أنهم يتمكنون من تقليد الطبيعة في تكوينها هذين املعدنني الشريفني،
وأنهم يتوصلون للحصول عليهما بالطريقة الصناعية، فقالوا بوجود الكيمياء، وسموها
بالصنعة الهرمسية، وألحقوها بعلوم السحر والتنجيم وما شابههما.
ً وأما القواعد النظرية التي يشتمل عليها علم الكيمياء فأساسها قديم أيضا؛ لأن
القاعدة الأولى في هذا العلم هي العناصر التي يتألف منها الجسم كما يتألف الكون من مجموع الأجسام. وقد تبني لعلماء العصر من تدقيقهم الكتب القديمة، بأن أول من قال
بتركيب الجسم من العناصر هم أهل الهند، فإنهم اعتبروا العالم السفلي — أي دنيانا
هذه — مركبًا من أربعة عناصر، وهي الهواء والنار واملاء والأرض، وأن العالم العلوي
— أو السماء — عنصر خامس «الأثري». فالكون عند علماء الهند مؤلف من خمسة
عناصر. وأقدم القائلني بمثل هذا القول من فلاسفة اليونان هو الحكيم أمبيدوجل؛ فإنه
قال بوجود العناصر الأربعة فقط، ولم يذكر العنصر الخامس، وذلك قبل امليلاد بأربعة
قرون ونصف قرن. وذهب فيثاغورس وغريه من حكماء اليونان إلى أن عنصري املاء
والنار أصل كل شيء في الوجود، وقال بعضهم بأن عنصر النار وحده أصل الكون، غري
أن أفلاطون وأرسطوطاليس أيَّدا رأي القائلني بأن املكونات تتألف من العناصر الأربعة
وأوضحا هذا الرأي وبيَّنَاه، واتصل سند علماء الإسلام إلى أرسطوطاليس في جميع العلوم
الفلسفية وفي الحكمة، فقالوا بأن الأجسام تتركب من العناصر الأربعة، وهي الأرض
واملاء والهواء والنار، ويقصدون بالأرض الجسم الصلب، وباملاء الجسم السائل، وبالهواء
الجسم الغازي، وبالنار الحرارة والضوء. وبقي هذا الرأي هو املعمول به واملعول عليه
بني العلماء إلى أن جاء لافوازيه في القرن الثامن عشر، وأبطل هذا الرأي، وقال بأن
العناصر الأربعة ليست بأجسام بسيطة؛ لأن املاء يتألف من عنصرين بسيطني، وهما
الهيدروجني (مولد املاء) والأكسجني (مولد الحموضة)، وبأن العناصر البسيطة تزيد عن
أربعة بكثري. ومن قواعد الكيمياء النظرية القول بالجوهر الفرد، وأن الأجسام مؤلفة من
ذرات متحركة، بينها خلايا، وأول من قال بذلك الحكيم اليوناني لوكيب، وتابعه عليه
تلميذه ديموقراط، فأوضح هذا القول وبيَّنه.
فهذه القواعد النظرية، وتلك الصناعات العملية، هيأت علم الكيمياء للظهور والبروز.
وفي القرن الثالث للميلاد وما بعده، أخذ اليونان يدونون هذا العلم، كما دون بقراط علم
الطب بعد أن كان صنعة عملية، يتناقلها الابن مشافهة عن أبيه.
ولم يذهب أحد من علماء هذا العصر إلى أن الكيمياء من أوضاع الصابئني مع
ً أن جابرا إمام املدونني في هذا العلم من نسلهم، ورسائل الكيمياء القديمة مملوءة
باعتقاداتهم ومذاهبهم. والصابئون طائفتان: إحداهما الحرانيون سكان حران، وهي
مدينة في جنوب الرها وعلى مسافة بضع ساعات منها، وهؤلاء من نسل العرب، كما
ً ذكر ذلك السيد جمال الدين الأفغاني في الرد على رينان، ويؤخذ ذلك أيضا، ما نقله ابن
الأثري في تاريخ الكامل، من أن بختنصر أخذ من في بلاده من تجار العرب، وبنى لهم حران بالنجف، وأسكنهم فيها، وجاء بطوائف من العرب وأنزلهم السواد، فابتنوا الأنبار،
ً واتخذوا الحرية منزلا. وأساس مذهب الحرانيني التوحيد، والاعتراف بصانع العالم، وأنه
حكيم قادر مقدس، إلا أنهم يتقربون إليه بالكواكب السبعة السيارة، ويعتقدون أنها
مدبرة لهذا العالم السفلي، ولها أرواح مؤثرة فيه، ولكل كوكب منها تأثري خاص به؛
ولذا كانت عبادتها مبنية على التوسل إليها، بتلاوة العزائم والأقسام، وجعلوا لكل شيء
ً ورد ً ا قسم ً ا مخصوصا. وللحرانيني آراء كثرية على مذهب أرسطو في املادة، والعناصر،
كما ذكر ذلك ابن النديم في الفهرست، فلعلهم اقتبسوا شيئًا من فلسفة اليونان، غري أن
أساس دينهم وعلومهم مأخوذ — ولا شك — من دين أهل بابل الأقدمني.
والطائفة الثانية من الصابئني هم جنس من أهل الكتاب، يقال لهم الكسائيون؛
نسبة لشيخهم الكسائي. وكان ظهورهم في القرن الثاني للميلاد، فيما بني واسط
والبصرة. وأصل الكسائي — مؤسس هذا املذهب — مجوسي، هاجر من شمال بلاد
العجم إلى جنوب الجزيرة، ونشر فيها مذهبه، وشرط في العبادة الطهر والاغتسال باملاء،
ولذا قال املستشرقون بأن اسم الصابئة مشتق من صبا في اللغة الآرامية، ومعناها
اغتسل، وقيل بأن الكسائيني هم املانيون؛ أي الذين هم على دين ماني النقاش. وكان
ً ماني مطلعا على كثري من العلوم، وله براعة في النقش والتصوير؛ فوضع كتاب «أرتنك»
أو «أرجنك»، وادعى بأنه أنزل عليه من السماء. وأساس مذهب الكسائيني — ومذهب
املانيني املسمى مذهب الثنوية — القول بوجود عاملني؛ عالم النور، وعالم الظلام، والأخذ
بالنور والبراءة من الظلمة. وفي زعمهم أن النور يتألف من الهياكل الروحانية، وهي
أشكال نورانية لطبقة عالية تصعد لأعلى طبقة من النور والبهاء. وعالم الظلام يتألف
من الهياكل الجسمانية، وهي أشكال مظلمة كثيفة، تهوي للدرك الأسفل من الكثافة
والظلام. فهذان العاملان على طرفي نقيض. والكمال والحسن في جانب النور لا في جانب
الظلام.
وللصابئيني في العناصر الأربعة مذهب يحكى مذهب قدماء الهنود، فإنهم يقولون
بأن الأجسام السفلية — أي التي تحت فلك القمر — مركبة من العناصر الأربعة. وأما
جسم السماء — أي ما فوق القمر من الأفلاك — فهو عنصر خامس. وكان الصابئون
يكتبون بلسان الآراميني أو الأرمانيني كما سماهم ابن الأثري، وهم نبط سواد العراق،
ومن الأمم السامية الذين ملكوا أرض بابل وما يليها إلى ناحية املوصل. وكانت لغتهم
السريانية منتشرة في سوريا والجزيرة والعراق، وهي لغة الدين والعلم والسياسة، قبل ظهور الإسلام، وانتشار العربية في هذه الأقاليم، حتى إن عرب الحرية والأنبار وحران
كانوا لا يقرءون ولا يكتبون إلا بالسريانية. وكان لدى الآراميني بقية من علوم الفلك
والتنجيم، والسحر، والطلاسم، والنباتات، وغريها من الطبيعيات، ورثوها عن آبائهم
الأقدمني، من الكلدانيني والسريانيني أو الأشوريني، فأضافوا إلى هذه العلوم في منتصف
القرن الثاني للميلاد فلسفة اليونان وعلومهم، بترجمتها من اليونانية إلى السريانية،
واشتهر من هؤلاء املترجمني ابن ديصان — منجم الرها، وليس بأسقفها كما توهم كثري
من املؤرخني — فأحيا اللغة السريانية، ووسع دائرة العلم وفن الأدب فيها. وفي ابتداء
القرن الثالث أنشئت مدرسة الرها، وكانت على حدود مملكة الأكاسرة فسميت مدرسة
ُ الفرس، وهرع إليها الطلاب من العراق والعجم والشام، ودِّرست فيها اللغة اليونانية،
وترجمت كتبها إلى السريانية. واشتهر من حكمائها «أفريم» وغريه. ودخل النساطرة
مدرسة الرها في أوائل القرن الخامس للميلاد، واشتهروا فيها بالطب، وبمعرفة كثري من
الأدوية، والعقاقري املستفادة من املعادن والنباتات، وملا نفاهم القيصر زينون، وأقفل
مدرسة الرها، تجمع النسطوريون في نزيب — وكانت في ملك الأكاسرة — ثم تفرقوا في
بلاد فارس، ورحلوا إلى الهند والصني، ثم انضم إليهم أصحاب الرواق — من املشائني
— لاضطهاد القياصرة لهم؛ ففتح لهم كسرى أنوشروان مدرسة للطب والفلسفة في
جنديسابور، من إقليم خوزستان، واستمرت هذه املدرسة إلى زمن العباسيني. وكان
في قنسرين — وهي على الضفة اليسرى لنهر الفرات — مدرسة أخرى لدرس العلوم
اليونانية والفلسفة.
فيتضح من ذلك أن للآراميني والصابئني مشاركة في العلوم والفلسفة، حتى لقبهم
املسعودي بعوام اليونانيني، وحشوية الفلاسفة املتقدمني، ولهم كتب كثرية في الفلسفة
والنجوم وغريهما، ولم يصل إلينا منها إلا القليل، مثل كتاب املصاحف السبعة، والفلاحة
النبطية التي هي من أوضاع أهل بابل، ولا يقتصر فيها على مجرد علم الفلاحة كما
يستشعر من اسمها، وإنما النظر فيها للنبات عامة، من جهة غرسه وتنميته، ومن جهة
خواصه وروحانيته، ومشاكلتها لروحانيات الكواكب والهياكل، واملستعمل ذلك كله في
باب السحر، وفيها شيء من أخبار النبط وعبادتهم وعوائدهم. وترجمت الفلاحة النبطية
للعربية، واختصر ابن العوام ترجمتها، واقتصر فيها على فن الفلاحة، من جهة غرس
النبات وتربيته.
فمن أغلب الاحتمالات أن للحرانيني معرفة بالكيمياء، ولا يبعد أن تكون مؤلفاتهم
السريانية دثرت، كمؤلفات اليونان الأولية، التي وضعت بهذا العلم في القرن الثالث للميلاد وما بعده. فإنه ملا تنصرت قياصرة الروم، وحرمت أساقفتهم النظر في العلوم
العقلية، قتلوا العلماء، ونفوهم في الأرض، وأبطل القيصر ثيودوس (٣٧٩م) التعليم في
رومية، وشتت القيصر زينون (٤٨٩م) شمل علماء الرها، وخرب مدرسة النسطوريني
فيها، وأقفل القيصر يوستنيان رواق املشائني من أثينا (٥٢٧م) دار الحكمة، ومهد
ً الفلسفة، فكان القرن الرابع وما بعده إلى القرن السابع شؤما على العلم وأهله، وربما
كانت رسائل كيمياء البيزانتيني — املحفوظة اليوم في مكتبات أوروبا — هي هذا العلم
من املؤلفات الثانوية، التي سمح الدهر ببقائها لهذا العصر.
ولم تزل رسائل الكيمياء مهجورة، ككتب سائر العلوم في جميع العالم املسيحي،
املستولي إذ ذاك على القسطنطينية، وبلاد اليونان والأناضول والشام والجزيرة والعراق
ومصر وإيطاليا، وذلك ملا اقتضاه الأخذ بدين النصرانية، وتعصب القياصرة. ودام كوكب
ً العلم آفلا َ إلى أن بزغت شمس الإسلام، وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له، وابتزوا الروم
َ والفرس ملكهم، واستولوا على الشام ومصر والعراق وفارس، وابتدأ أمرهم بالسذاجة
والغفلة عن العلوم والصناعات، حتى قويت شوكة الدولة، وأخذوا من الحضارة نصيبًا،
وأقبلوا على العلوم العقلية، وترجموا كتبها للعربية عن خمس لغات، وهي الفارسية،
والهندية، والسريانية، واليونانية، والعبرانية. واستخدموا لذلك بادئ الأمر علماء الأقوام
الذين خضعوا لهم على اختلاف مللهم ونحلهم، وقربوهم، وأغدقوا عليهم. وكان الخلفاء
والأمراء يتحرون أربعة أصناف من أصحاب العلوم واملعارف، وهم الحكماء، والأطباء،
والعقلاء ذوو الرأي والتدبري، وذوو املهارة التامة في الصناعات. فأبو لؤلؤة الذي غدر
بعمر (رضي الله عنه) كان من القسم الرابع وكانت بيده عدة صناعات، وسرجيوس
بن منصور — املعروف بسرجون الرومي — خدم ثلاثة خلفاء، وهم معاوية، ويزيد،
وعبد امللك بن مروان، وكان سرجون من العقلاء، وابنه يوحنا الدمشقي من املقربني إلى
الخلفاء، وكان ملروان ابن الحكم طبيب يهودي، يتكلم السريانية، ترجم كتاب هارون
الطبيب، الذي كان من أطباء الإسكندرية على عهد هرقل، واشتهر كتابه في بلاد الشام.
وكان عند الحجاج عامل عبد امللك بن مروان طبيبان، يفهم من اسميهما بأنهما روميان،
وهما «تيادك» و«تيودن».
وابتدأت ترجمة العلوم في خلافة أبي جعفر املنصور — ثاني خلفاء بني العباس
ومؤسس مدينة بغداد — وكان في أول املترجمني ابن املقفع، وكان مجوسيٍّا فأسلم ودخل
في خدمة عيسى بن علي عم السفاح أول خلفاء العباسيني، فكان يستخدمه في الكتابة والإنشاء، فترجم كتاب كليلة ودمنة من البهلوية إلى العربية، وكان هذا الكتاب قد ترجم
على عهد أنوشروان من الهندية إلى البهلوية. وكانت أنظار املسلمني اتجهت نحو علوم
الفرس والسريانيني، فترجموا كتب ماني الحكيم، وكتب ابن ديصان، ثم بعث أبو جعفر
املنصور إلى ملك الروم أن يرسل إليه كتب التعاليم، فبعث إليه بكتاب إقليدس، وبعض
كتب الطبيعيات، واملجسطي لبطليموس، واملنطق لأرسطو، وغريها من كتب اليونان. وفي
سنة ١٥٦ للهجرة جاء إلى دار الخلافة هندي بكتاب «سندهند»، فأنعم عليه املنصور،
وأمر بترجمته إلى العربية، فترجمه املنجم الفزاري، وابتدأ املسلمون يتعلمون منه الحساب
الهندي، وعلم النجوم. وليس هنا محل ذكر الترجمة واملترجمني في الإسلام.
ولعل السابق إلى تحصيل الكيمياء والطب من قريش خالد بن يزيد بن معاوية
ً — حكيم آل مروان، وعالم قريش وربيب مروان بن الحكم — فإنه رغما عن بعده عن
العلوم والصناعات لأنه من الجيل العربي العريق في البداوة، أقبل على تحصيل الطب
والكيمياء، وأخذ عن طبيب من أطباء الدولة الأموية يسمى مريانس، وعن غريه من
علماء الروم والسريانيني، وألف في الكيمياء الرسائل املنقولة عنه، كالرسالة املترجمة إلى
اللاتينية وعنوانها «رسالة في الكلمات الثلاث»، ونقل عنه املشتغلون بالكيمياء كثريًا من
مسائلها، كما كان من أعظم املشجعني على ترجمة كتب الفلاسفة، والنجوم والكيمياء
والطب، من اللغات اليونانية والقبطية والسريانية. وهو أول من جمعت له الكتب وجعلها
في خزانة في الإسلام.
ً ا بفنون الأدب، وفصيحا لسنًا، بل
ً وكان خالد إلى جانب علمه متكلما، متصرفً
ً وشاعرا يقرض الشعر الجيد، ونوادره وحكاياته التي تروى عن فصاحته كثرية ومتفرقة
في بطون كتب الأدب، وقد روي له شعر جيد، قاله حني تزوج من رملة بنت الزبري، أخت
مصعب وعبد الله:
￾ر ￾وام ط￾ا ل￾￾ح￾￾ب￾ه￾￾ا وم￾￾ن أج￾￾ل￾￾ه￾￾ا أح￾ب￾￾ت أخ￾￾وال￾￾ه￾￾ا ك￾ا ￾ل￾￾ب￾
أح￾￾ب ب￾￾ن￾￾ي ال￾￾ع￾ ٍّ
ف￾￾لا ت￾￾ك￾￾ث￾￾روا ف￾￾ي￾￾ه￾￾ا ال￾￾ض￾ج￾￾اج ف￾إن￾￾ن￾￾ي ت￾ن￾￾خ￾￾ل￾ت￾￾ه￾￾ا ع￾ ً￾د ￾م￾ا زب￾ي￾￾ري￾￾ة ق￾￾ل￾ا￾ب￾
ت￾ج￾￾ول خ￾￾لاخ￾￾ي￾￾ل ال￾￾ن￾￾س￾￾اء ولا أرى ل￾￾رم￾￾ل￾￾ة خ￾￾ل￾￾خ￾ً￾الا ي￾￾ج￾￾ول ولا ق￾￾ل￾￾ا￾ب￾
وتلا خالد بن يزيد في العلوم العقلية والكيمياء الإمام جعفر الصادق بن محمد
الباقر بن زين العابدين، بن الحسني بن علي بن أبي طالب — رضي الله عنهم أجمعني.
ً وهذا محتمل لأن الإمام جعفرا كان آية باهرة في العلم، وفريد عصره في المنقول و المعقول،

وقد نبغ من تلامذته الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان ابن ثابت، بعد أن انتظم في
حلقة تدريسه، ونهل من بحر معارفه، حتى قيل بأنه لو لم يكن إمام املذهب، وصاحب
الاجتهاد في املنقول، لكان من أعظم الحكماء والفلاسفة في املعقول. وينسب للإمام جعفر
الجفر، الذي كان مكتوبًا عنده في جلد ثور، ورواه عنه هارون بن سعيد العجلي، رأس
ً الزيدية. فلا يستبعد أن تكون للإمام جعفر معرفة بالكيمياء أيضا، وبغريها من العلوم،
لا سيما وكان جليس أبي جعفر املنصور، وهو أول من أوفد الرسل إلى قيصر الروم
لاستخراج علوم اليونانيني، وانتساخها بالخط العربي. ولم يأخذ الإمام جعفر هذا العلم
عن خالد بن يزيد مشافهة لسبق وفاته في سنة ٨٥ ،ولكنه قرأ كتبه وربما أخذ عن خالد
آخر من أهل املدارك.
جابر بن حيان
هو أبو موسى جابر بن حيان الصوفي، إمام املدونني في الكيمياء التي نسبت إليه، فقيل
لها علم جابر، وكان كأبي حنيفة من تلامذة الإمام جعفر الصادق. اختلف النسابون
في نسبه، فذهب بعضهم إلى أنه حراني من بيت سنان بن ثابت بن قرة، الذي قال فيه
الشاعر:
ه￾￾ل ل￾￾ل￾￾ع￾￾ل￾￾ي￾￾ل س￾￾وى اب￾￾ن ق￾￾رة ش￾￾اف ب￾￾ع￾￾د الإل￾￾ه وه￾￾ل ل￾￾ه م￾￾ن ك￾￾اف
أح￾￾ي￾￾ا ل￾￾ن￾￾ا رس￾￾م ال￾ف￾￾لاس￾ف￾￾ة ال￾￾ذي أودى وأوض￾￾ح رس￾￾م ط￾￾ب ع￾￾اف
ف￾ك￾أن￾￾ه ع￾￾ي￾￾س￾￾ى اب￾￾ن م￾￾ري￾￾م ن￾￾ق ￾اط￾ً￾ا ي￾ه￾￾ب ال￾￾ح￾￾ي￾￾اة ب￾￾أي￾￾س￾￾ر الأل￾￾ط￾￾اف
ي￾￾ب￾￾دو ل￾￾ه ال￾￾داء ال￾￾خ￾ف￾￾ي ك￾م￾￾ا ب￾￾دا ل￾ل￾￾ع￾￾ي￾￾ن رض￾￾راض ال￾￾غ￾￾دي￾￾ر ال￾￾ص￾اف￾￾ي
ً وإليهم انتسب البتاني أيضا، وكلهم أفاضل، اشتهروا بالعلم والفلسفة. وذهب ابن
النديم صاحب الفهرست إلى أن جابر بن حيان من طوس، إحدى مدن خراسان، وأنه
ً من نسل البرامكة، الذين هم من مجوس الفرس، وقال آخرون بأن جابرا عربي الأصل،
من قبيلة الأزد من اليمن، عاش أبوه في الكوفة في أواخر عصر بني أمية، وكان صيدليٍّا،
وبقي يمارس مهنته حتى أوائل القرن الثامن للميلاد، حينما بدأ العباسيون يطالبون
بني أمية بالخلافة، فشايعهم حيان، وأرسلوه إلى طوس لينشر مبادئهم، وهناك ولد
ً جابر. وكيفما كان فجابر ولد مسلما، واستوطن الكوفة، وكانت حاضرة العلم والعرفان في صدر الإسلام. واشتغل جابر بالعلم في أواسط القرن الثاني للهجرة، وأخذ عن أكابر
العلماء، وتصفح كتب القوم، سيما ما يختص منها بالكيمياء والسيمياء والطلسمات
والسحر مثل الفلاحة النبطية ومصاحف الكواكب السبعة، وغريهما، من كتب اليونان
والسريان والهنود والفرس واليهود، وتبحر في جميع أنواع العلوم واملعارف التي كانت
موجودة على عهده في الأمم املختلفة، وجمعها بقوة عقله وشدة ذكائه، وغاص على
الصناعة، واستخرج زبدتها، وألف في الكيمياء والسيمياء والسحر التآليف التي لم يسبق
إليها، وبحث في النجوم والنباتات وسائر العلوم الطبيعية، حتى بلغ عدد مؤلفاته على ما
روي خمسمائة رسالة. وقال ابن خلدون: له في الكيمياء سبعون رسالة، وضعها أثناء
البحث فيها، وسماها بالرسائل السبعينية. وأثنى ابن سينا والرازي وغريهما من أهل
ً العلم على جابر، وعدوه إماما في الطبيعيات، مع مخالفة ابن سينا له في الرأي بانقلاب
َّ املعادن. وجميعهم مدح تآليف جابر، وعدد الكثري منها صاحب الفهرست، ولم يذكر منها
الكاتب جلبي صاحب كشف الظنون إلا «الخالص» و«كتاب الخواص». وروى الهلال
الأغر بأن في املكتبة الخديوية في القاهرة كتابًا اسمه «كشف الأسرار وهتك الأستار»،
وآخر اسمه «إخراج ما في القوة إلى الفعل» و«كتاب الصنعة الإلهية والحكمة الفلسفية»،
وكلها خطية. ويوجد شيء من كتب جابر في مكتبات الأستانة. وفي مكتبات أوروبا كثري
من الكتب العربية املنسوبة لجابر.
وكتب جابر شبيهة بالألغاز كسائر الكتب في هذا العلم، وزعموا أنه لا يفتح مغلقها
ً إلا من أحاط علما بجميع ما فيها، لتوقف فهم الرسائل بعضها على بعض، كمسائل
الهندسة التي لا يفهم أعلاها إلا بعد معرفة املقدمات واملسائل الابتدائية. غري أن هذه
الألغاز مقصودة في كتب جابر لحجب فهمها عن العموم، وقد اهتم الكيميائي برتلو
بما في باريس من كتب جابر، وأشار بترجمتها فترجمت، ووجد أنها تشتمل على مباحث
العناصر الأربعة، وهي النار والهواء واملاء والأرض، وعلى الكيفيات الأربع، وهي الرطوبة
واليبوسة والبرودة والحرارة، كما تشتمل على قاعدتهم في أن بقاء الأجسام على حالتها
الطبيعية يتوقف على موازنة هذه الطبائع. ووجد لجابر رأي، زعم برتلو أنه أخذه عن
ً حكماء اليونان، وهذا الرأي هو أن للمعادن نفس ً ا وجسدا وصفات ظاهرية وصفات
باطنية. فإذا عولج الرصاص ودبر، وزيد في بعض هذه الخواص، ونقص من البعض
الآخر، انقلب الرصاص ذهبًا. فهو يشرح كيفية هذه املعالجة وهذا التدبري، ويبني تركيب
ً الحجر املكرم الحيواني، والحجر املكرم املعدني. وتشتمل هذه الترجمة أيضا على خلاصة منطق أرسطو، وعلى شيء من علم ما وراء الطبيعة، وفيها كلام على الجسم والنفس،
والعرض والقوى التي أبلغ عددها إلى سبعة عشر قوة، وقال بأن كل شيء في الوجود
ً يتركب منها. وتشمل أيضا على خلاصة في علم الطب والتشريح، وعلى كلام في املخ والرأس
والأعصاب والقوة املخيلة والحافظة واملفكرة، وأكثر جابر في هذه الرسائل املترجمة من
ً التوصية بتعلم علم النجوم، وزعم أن هذا العلم لا بد منه في هذه الصناعة، وبحث أيضا
في علم أسرار الحروف، ورتب جداول في قيم أعدادها وبيان خواصها. قال برتلو: وهذا
مذهب قديم، كان عند الحكماء واملنجمني في مصر.
وطار لجابر ذكر في العالم، واشتهر في أوروبا أكثر من اشتهاره في العالم الإسلامي،
وأقبل على كتبه في القرون الوسطى جميع علماء الإفرنج، وترجموا كثريًا منها إلى
اللاتينية، وتغالوا في مدحه والثناء عليه، وعدوه من العقول النادرة التي سمح الدهر بها
مرة. وقال عنه غاردان، أحد علماء الإفرنج في القرن السادس عشر للميلاد: إنه واحد من
العقول الاثني عشر التي ظهرت في الدنيا، وقال غريه من علمائهم في كلامه عن حجر
ً الفلاسفة: ما هذا الحجر إلا مرآة ترى فيها أقسام العقل الثلاثة، فمن ملكها أصبح عاقلا
مثل أرسطو، وابن سينا، وجابر. ومن كتبه املترجمة إلى اللاتينية: «مبادئ علم الكيمياء»
طبع في بال سنة ١٥٧٢م. و«وصية جابر» و«كيمياء جابر» و«مختصر الإكسري الكامل»
و«نهاية الإتقان» و«رسالة الأفدان» وغريها.

بتبع

غير مبريء الذمه نقل الموضوع أو مضمونه بدون ذكر المصدر: منتديات الشامل لعلوم الفلك والتنجيم - من قسم: تواريخ وحوادث


....

مواقع النشر (المفضلة)
الكيمياء عند العرب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
الانتقال السريع
المواضيع المتشابهه
الموضوع
شعراء الكيمياء العرب
علم الكيمياء والصيدلة عند العرب
سجون الغرب وسجون العرب !! .
الكيمياء وصنع الاكسير عند الغرب
الدوره الدمويه عرفت في العرب قبل الغرب

الساعة الآن 01:05 PM.